|
أسامة العيسة وسماء القدس السابعة
نشر بتاريخ: 01/10/2023 ( آخر تحديث: 02/10/2023 الساعة: 12:43 )
الكاتب: بهاء رحال (سِفر الحياة) ثلاثة أسفار للحياة والحزن والبقاء، وكعادته أسامة، بطقسه المشوق وأسلوبه الذي ينفرد به، يباغتك دون أن تدري فتجد نفسك أمام حكايات يرويها على لسان أبطاله المتواطئين معه في شدك وأسرك، وسرعان ما يخطفك لعالمه المرئي بعين التاريخ تارة وعين الحاضر تارة أخرى، أما الرائي فشاهد يشهد أمامك، ويشهد بلسانك، ويشهد بعاطفتك، وفكرتك، وبذكاء منقطع تجد أنك الراوي والشاهد والمشاهد والقارئ في آن، وأنك السائر خلف نصوص خالية من المجاز فلا تتعبك ولا تثقل عليك، بل تواصل القراءة بشغف ومتاع الكلمات التي ترسم الحكايات، وهذا ما يميز لغة أسامة وسرديته التي لا يمكن أن تشعر معها بالملل، ولا حتى بالضجر مهما بلغ حجم الرواية، وإن كانت كهذه الرواية الكبيرة؛ فتنساب فيك كقطرات الندى، وقد تجرح عاطفتك حينًا، وتجرح كبرياءك أحيانًا، وهي تستعيد مقاربات الزمان، بين ما كان في أزمنة الأولين، وما صار عليه الحال في حاضر الوقت، وبين النكبة والنكسة وفصول التشرد والمعاناة والقهر، وأزمنة الهزيمة، يأخذنا العيسة بتجرد تام ودون محاباة أو مواربة، وبلا رجفة قلق، إلى زمان القدس أو أزمنتها في فصول التاريخ، أحياءً وأموات، أضرحة ومقابر، سراديب وأسوار، جغرافيا المكان والزمان، صالحين وطالحين، راشدين ومجانين وحمقى. لم يقصد أسامة أن يصعد بنا إلى سماء القدس السابعة، فهو لا يملك طائر براق يصعد إلى ذلك العلو، كما لا يملك حائط يربط به ذلك الطير العجيب الغريب، وإن كان امتلك الحرف وبلغ المعنى، بل أخذنا بذكاء البدايات من حادثة السبع المطربل، إلى أن هبط بنا إلى سابع أرض القدس، فكشفت لنا المدينة تاريخها، وكشف لنا أهوالها، ومن مرَّ وما مرَّ عليها في تدافع الحروب والهجرات والقتال والمستعمرين والممالك والدول، وهنا برع العيسة في رسم تاريخ المدينة، ليس تأريخًا بل مرورًا على كل تفاصيلها من أبواب وزوايا وأضرحة وأشجار وأسوار وطرقات وأزقة وحارات بمحاكاة ذكية، وكان لدية راويًا حكاءً يجيد لفت الانتباه ويدرك بلاغة السؤال في أرض الإجابة، فلا يكل ولا يتعب، ولا يتعبه السؤال. لكنها القدس، قدس الكنعانيين الفلسطينيين، وقدس الأولياء الطاهرين، وقدس الأنبياء أجمعين، ولا قدس للمحتلين ولا قدس للغزاة ولا قدس للاستعمار، ولنا قدسنا ولنا زواياها المقدسة من كنائس ومساجد وأضرحه وأسوار، ومقامات وأسواق وأبواب وسراديب وآبار وقباب. يطوف بنا العيسة إلى ما حول القدس، فتارة يأخذنا إلى برية القدس والتي تمتد حتى البحر الميت، وتارة يعود بنا إلى قريته التي حكاياتها لا تنتهي ولا تنقطع إلا بسرد راوي يرسم النهاية بإيقاع خفيف الظل، مدفوع بالحماس لمواصلة ما بعده، وما أعجب ما قبله وما بعده، وفي بعض الأحيان يخرج نحو القدس الجديدة، القدس التي لا يحيطها السور القديم، ومع مرور الوقت بات يحيطها جدار عنصري، وسور عزل المدينة عن أختها بيت لحم. ومن حادثة السبع المطربل الطريفة والحزينة في آن، والتي اتخذها العيسة مدخلًا رشيقًا ماتعًا رغم بشاعة مأساة السبع الذي لم يعد سبعًأ. سبع القرية وشابها اليافع القوي وفتوتها، وفتوة القرى المجاورة، إلى قدس الحقيقة والقدس البريئة والقدس العنيدة والعتيدة، ولكل واحد قدسه ولكل ناظر شواهده، غير أن أسامه يشهد بعين الكل، فيرى ما يرى وما قد لا يرى، مما خفي ومما أخفته تتابع النكبات والغزوات والهجرات، من تاريخ مؤجل وتاريخ معجل، وينبش في أسرارها ومواعيدها ومواقيتها، وينقش في ذاكرتنا حكايتها بمهارة حفار وروعة كاتب وأناقة مؤرخ. أنصف العيسة القدس من سابع سماء، قدسنا البريئة من كل لوثة، وقدسنا المقدسة والمطهرة والمظفرة، وقدسنا الأرضية بما عليها وما تحتها وما فوقها، وقدسنا السماوية فينا من علوها الشاهق، وهو يمشي بنا حين يتمشى هناك كصبي لم يبلغ الحلم بعد، رشيق الفكرة سديد الأسئلة لوالده الذي يرافقه، ولآخرين من شيوخ ورهبان وكهان وباحثي آثار ورجال إصلاح وساسة وحجارين وفنانين، عرب وأفارقة ومهاجرين، أثرياء وفلاحين، أغنياء وبسطاء، مدنيين وقرويين، قدسيين وتلحميين، فتارة يظهر الاشتباك بين التاريخ ووجه الاحتلال الأحمق الذي لا حق له في المدينة، وتارة أخرى يتخذ التاريخ في الماضي والحاضر شكل المحايد كي يهدئ من حدة الاشتباك. عمل ثقيل لكنه مهم، بل من أهم الأعمال التي أنصفت القدس بطيبتها وطبيعتها، بقدسيتها ومقدساتها، بحيث لا ينصف القدس المقدسة فحسب، بل ينصف الذاكرة، وينصف رجالات القدس، ناسها وسكانها، وافديها وأفنديها والأغراب، حجارتها وآثارها، من مرَّ عليها في حقب الاحتلال، ومن جاءها للرجاء والدعاء، فما كان في سفر الحياة الذي أراد العيسة أن يكون مفتاحًا، دليلًا، استهلالًا، مقدمة مثقلة بالجراح والآلام والمصائر المعلومة والمجهولة، إلا مجبولًا بعصف التاريخ، والبحث في أسراره المعلنة والمسكوت عنها، وكأن العيسة ينبش ليقول، ما أكثر المسكوت عنه في بلادنا، وما أحمق الساكتين. سماء القدس السابعة مرجع توثيقي مهم، وعمل يا حبذا لو انتبهت له المؤسسة التعليمية ليكون منهجًا دراسيًا، فهو مادة رشيقة على غير عادة بعض المواد الأخرى التي تصيب الطلبة بالضجر، بل فيه من التشويق ما يكفي وفيه من العلم والمعرفة بتاريخ القدس ما يشبع التساؤلات، وهو إضافة معرفية وعلمية هامة؛ فهل تلتفت لها المؤسسة التعليمية في بلادنا، أو القائمين عليها والقائمين على وضع واختيار المناهج التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات. يا حبذا لو أنها تلتفت. في سماء القدس السابعة قدم العيسة مادة علمية بعيدة عن تحيز الكتاب في بعض الأحيان وطغيان العاطفة لسبب أو لآخر على يكتبوه، وبعيدًا عما هو متداول في كثير من الأعمال التي ينحاز بها الكاتب، فلا نجد من العيسة في هذا العمل إلا الوضوح تام دون أيِّ عبثٍ، وهذا ما شكَّل علامة فارقة بينه وبين كل ما كتب في السابق عن القدس، ففيها الكثير من المسكوت عنه، وفيها الكثير من التمرد، وفيها عصف أزمنة بعيدة وقريبة، وبذكاء أوقعنا في حب سماء القدس السابعة، دون أيّ دغدغة لمشاعرنا، وهذه مغامرة جريئة برأيي من قبل الكاتب الذي نجح في سحب أقنعة كثيرة وأزاح اللثام عن مكنون المدينة، وكشفها لنا كما لو أننا لم نعرفها من قبل. أسامة العيسة في سماء القدس السابعة لا يتحدث عن الأحياء فقط، بل ويتحدث عن الأموات أيضًا، فلا تجده يختصر تاريخ المدينة من زواياها وأسوارها وقبابها وقبورها ومساجدها وكنائسها وأديرتها، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وهو يفكك لنا بعض رموزها وما أكثر رموزها. البعد الإنساني حاضر بقوة في العمل كما البعد المكاني والزماني، الصلاتي والإيماني، الوطني والارستقراطي، المتعالي والعادي البريء الظاهر للعلن دون مواربة ودون أيّ زركشة، في تتبع سرد أحداث تلمس القلب والروح، كما تجرح الفؤاد وتعيد للذاكرة وصلها وصلتها، وما أكثر جراح المكلومين المغلوبين على أمرهم في قدسنا وما حولها، في تتابع أزمنة الاحتلال والاستعمار والانتداب والخراب وتتابع النكسات وتوالي أطماع الغزاة الذين يبحثون لهم عن رسم أو نقش أو رمز في القدس يشير إلى عروشهم الهالكة، وما أكثر العروش التي هلكت واندثرت، وبقيت القدس حيَّة وحاضرة. (سِفر للحزن والحياة) في السفر الثاني من سماء القدس السابعة، لا يبتعد العيسة عن القدس وإن طاف حولها وحول أزمنتها، ووشى لنا صبرها في رؤى أعين لا تغفل أنها صاحبة الحق، وصاحبة الأرض بما تحتها وما فوقها، وأن الاحتلال في النهاية سوف يزول مثله مثل كل احتلال، كما واقترب بنا العيسة كثيرًا من زمان الحاضر، بعد أن أدخلنا معه في فصول التاريخ العميقة والماضي البعيد، وقد لازمنا بين الفينة والأخرى بالسبع المطربل، وما لحق به في فصول متراكمة وحكايات لم تنسى، فتتصل أسفار العيسة مع بعضها لتشكل تكاملًا في فصول الحكاية وإن بدا هذا الفصل أكثر قُربًا لملازمته حاضرًا معاش، نعيشه أو عشناه، وربما لامسناه فرادى وجماعات بحيث يدخل العيسة في هذا الفصل إلى مساحة قد لا يكون أحدًا كتب عنها من قبل بهذه الشفافية الغارقة في السرد المحكم والعاطفة الشجية، وهي حالة الاعتقال التي يتطرق لها من بعدها الإنساني وأثرها على الزوجة والابن كافل. وهذه نقطة محسوبة له وإن لم تعجب البعض، لأنه يعالج قضية حياة عائلة الأسير بعد الأسر، خاصة بعد أن تفقد الزوجة زوجها وبيتها الذي يتعرض للهدم، وهنا سيجد القارئ الكثير من المسكوت عنه قد كشف لثامه العيسة. أسامة هنا فتح بابًا آخر من أبواب القدس، بابًا جديدًا سيفضي ذات يوم لإعادة النظر في كل ما مضى، سواء الأساليب والأفكار والمفاهيم والطرق والوسائل، وهو يقرع الخزان ليدق الناقوس في عقل كل واحد وواحدة، يقرأ أو تقرأ الرواية لضرورة فعل ذلك، إن لم يكن اليوم، ففي يوم قريب. لا يجوز القول أن القدس في الرواية، بل إن القدس هي الرواية، بكل الأحياء والأموات وكل المساجد والكنائس، وكل الحارات والأزقة وكل المعلوم والمجهول، وكل الوجوه والمصائر، وهي رواية إنسانية لا يضل قارئها عن تتبع وصل الرواية بأحداثها مهما بلغت في القِدم ومهما تشابهت في حدود الحاضر، في سرد محكم رزين غارق في الجمال والتأني، بصبر الكاتب الحليم، ورحابة صدر متلقي نهم، لا يتعب المعرفة ولا يمل من التفكر، وحتى الموتى لم يغفل طريقهم، ولا حتى صعودهم إلى السراط من أقرب نقطة يصعدون بها إلى سماء الحساب والعقاب والعذاب والرحمة والجنة والمغفرة. (سِفر للبقاء والحزن والحياة) ما أراد أن يقوله أسامة في هذه الرواية هو أنني أدعوكم ليقرأ كل واحد تاريخ القدس بمفرده، وأن ينبش في عمق التاريخ، وأن يعيد قراءة أسفار الأولين بتجرد من كل عاطفة، وأن تكتبوا عنها من وجهة نظركم، بعد أن تزورها إن استطعتم زيارتها، وأن تمشوا في حاراتها وتحققوا وتدققوا وتقرأوا ثم تعيدوا القراءة، وهنا أحسن العيسة صنعًا حين لم يطلق الأحكام، ولم يعطي الدلائل الكاملة والبراهين، بل جعل الباب مواربًا لكل من يأخذه الحماس للبحث والنبش والحفر والتدوين، وكأنه يتفق مع القدس في أنها مدينة تتسع لكل الباحثين وكل المؤرخين وكل الكتَّاب المجانين الذين يسعون فيختلفون أكثر مما يتشابهون، وكل من يأتيها عبر العصور لاهثًا لاكتشاف أسرارها ورموزها، من فقهاء وسفهاء، وموالين ومعارضين، وبلهاء وعاديين ومغاوير وأشباه مغاويير، صادقين وكاذبين، مبجلين كالشيخ عبد رب النبي ومطربلين كالسبع الذي اختل وفقد توازنه بسبب العقد الجنسية وأثرها في مجتمع يهوى الشائعات ويتسامر بها، ويلتقط أي كلمة حول الجنس حلالًا أم حرامًا ليقيم عليها رواية، وللرواية فصل التندر وفصل الانتقام وفصل من الود وآخر في الخصام، ومن الأقاويل المختلفة غير المتشابه، العجيبة حينًا والغريبة في غالب الأحيان، كأنهما ضدان يسران في اتجاه واحد، ولا يلتقيان. تتغير أزمنة القدس والقدس لا تتغير، ودوام الحال فيها محال، فهي مدينة تهوي إليها الأفئدة والقلوب، وتركض لحكمها ممالك ودول، وتسيَّر لأجلها الأساطيل البرية والبحرية والجوية، تهب رياح وتعصف أمواج، وتسقط دول وتتعثر ممالك وتهوي عروش وتبقى القدس. بقي أن أقول، ما كنت أتمنى لهذه الرواية أن تنتهي، ولو أنها من الوزن الثقيل، فهي مشوقة بهذا القدر الذي حدثتكم عنه وأكثر، فلا يتعب ولا يمل معها القارئ، بل مع كل صفحة يلتصق بها أكثر، لأن في كل صفحة حكاية جديدة من حكايات قدسنا التي لا تنتهي. |