وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

تداعيات ارتفاع كلفة الاحتلال وحجم التضامن الدولي وحراك المجتمعات اليهودية على مقولة "اليوم التالي" .

نشر بتاريخ: 17/12/2023 ( آخر تحديث: 17/12/2023 الساعة: 11:35 )
تداعيات ارتفاع كلفة الاحتلال وحجم التضامن الدولي وحراك المجتمعات اليهودية على مقولة "اليوم التالي" .

أن اي تراكم للمتغيرات الكمية الجارية ستؤدي إلى تحولات سياسية نوعية أو ربما الى تغير بالمواقف السياسية لأطراف من المجتمع الدولي ، ونكون نحن بذلك أي فلسطين هي من تساهم في اسراع أِحدَاث التحول الجاري بالنظام الدولي وبعقلية شعوب المنطقة أيضا ، ومن ضمنهم نحن بالطبع.

لقد خرجت مظاهرات الملايين من الشعوب في كل مكان وتعاظم التضامن الدولي وعادت قضيتنا إلى اولويات المشهد الدولي بصورة الشعب صاحب الحقوق السياسية التي لا تتحقق باجرأت امنية وعسكرية ، بل من خلال ضرورة رفع الظلم التاريخي الواقع عليه منذ ٧٥ عاماً لحل هذا الصراع التاريخي وانهاء الاحتلال وتمكين شعبنا من حقه بتقرير المصير والاستقلال الوطني .
هذه الأشكال المتنوعة من تصاعد التضامن الدولي يتوجب العمل على استدامتها من خلال وسائل مختلفة حتى ينتهي الاحتلال والفكر الاستعماري الفوقي مُبتكر نظام الفصل العنصري الحديث، باعتباره جوهر الإرهاب وعدم الاستقرار بكل المنطقة بل وبما يمثله من تهديد مستمر لقضايا السلم والأمن الدوليين .

لقد أدت تلك الحراكات التضامنية خلال الشهرين والجارية حتى اليوم ضد سياسات اسرائيل ، بعد أن كنا نحن سابقا ومنذ اوسلو قد قدمنا إسرائيل كشريك للسلام وابتعدنا بقدر ما عن الشعوب في بعض الدول وعن المنظمات اليسارية والتضامنية فيها ، الى أن أكتشف اليوم البعض المتردد من الغرب حقائق فظائع الأحتلال وجوهره كما وطابع دولة إسرائيل ورفضها للسلام وأنها هي من قضت على كل الاتفاقيات التي لم تلتزم بها من الأساس سوى لكسب الوقت وفرض وقائع جديدة . جرائم شبيهة هم أنفسهم الاوروبين كانوا قد عانوا منها زمن الجرائم النازية بحق شعوب اوروبا ومن ضمنهم عدد من اليهود انذاك . هذا الحراك التضامني الواسع اليوم أدى إلى فرض أشكال من الضغط على الأحزاب الحاكمة باوروبا التي تنظر إلى مستقبلها الأنتخابي للحكم ، فأدت إلى متغيرات لا يجوز لنا الا ان نراها اليوم حتى لا تقترن تقديراتنا بمفاهيم العبثية السياسية ، وكذلك إدراك أهمية استمرار التواصل والعمل الجاد مع الشعوب وقواها التقدمية بالعالم المناصرة للحق والعدالة وعدم اقتصاره على العمل الرسمي مع الدول على الرغم من أهميته وبكيفية صياغة خطابنا السياسي للعالم كشعب يسعى للتحرر الوطني .

لقد حرصت الولايات المتحدة على الشراكة الإستراتيجية منذ ٧٥ عاما مع دولة اسرائيل وما قبل ذلك مع مكونات الحركة الصهيونية العالمية تحت كل الظروف سندا للمحددات الواضحة العقائدية والدينية والعسكرية والجيوسياسية حتى والحضارية الغربية التي تجمعهم كما وقضايا الغاز والطاقة وما له علاقة بالاستحقاقات الاقتصادية المفترضة لاتفاقيات ابراهام للتطبيع . محصلة ذلك كله ، كان له الأثر فيما وصلت له الأمور من تداعيات سلبية على شعبنا والمنطقة من خلال ادارة منحازة للصراع دون حله واستمرارها في تغييب العدالة وحقوق الشعوب .

الا ان ما يجري اليوم من الحديث عن خلافات وتباين بالمواقف مع سياسات إسرائيل من جانب الادارة الامريكية بالرغم من مواقفهم التي اتسمت كما نتابع برفض وقف اطلاق النار وتاييد استمرار العدوان ، يشكل نوعا من النفاق المعتاد لهم وتصريحات ترضية لفظية مقدَمة لحلفاء امريكيا بالمنطقة وللرأي العام لديهم المتحرك بفعل مظاهرات شوارعهم ، التي تُذكرنا بمظاهرات الشارع الأمريكي ضد حربهم في فيتنام التي ارتكَبت الولايات المتحدة فيها الفظائع واستمرت بعدها في ارتكاب جرائم اخرى حول العالم دون رادع ، وهي نفسها الادارات الامريكية صاحبة فكر ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة ، فهي من اخترع طالبان لمحاربة السوفييت ، وهي من قاتلت طالبان وهي من انجزت اتفاقات مع طالبان على سبيل التذكير ، ولهذا ستبرر وسائلها بحسب الغايات المرتبطة بالسياسات الخارجية التي اصبحت لا تعتمد الثبات نتيجة الأزمة المختلفة الأوجه التي تعيشها الولايات المتحدة وتداعيات حربهم بالوكالة باكرانيا وما يحصل الآن بعد فشلهم بالعراق وسوريا واليمن حتى بامريكيا اللاتينية وفي بحر الصين .

هذا اضافة الى معارضة معظم المجتمع اليهودي الامريكي لسياسات حكومة دولة الأحتلال والتعاطي الامريكي معها وخاصة هذه الحكومة القائمة اليوم دون اعفاء الحكومات السابقة ، ذات المضمون الصهيوني الديني صاحب فكر الترانسفير والحسم المبكر والسيطرة على كامل ارض فلسطين التاريخية ، كما وايضا نتيجة النقاش والضغط الحاصل على بايدن اليوم داخل حزبهم الديمقراطي وفئات الشباب منه الذي باتت بعض اطرافه تشعر بغياب البعد الاخلاقي لسياساتهم الخارجية وتأثرها سلبا من المواقف المعتادة بما ينعكس على مصالحها ومكانتها الدولية والخوف من العزلة ، وخوفهم من خسارة الانتخابات القادمة وفق استطلاعات الرأي الجارية .
هنالك اليوم فئات واسعة من الشباب بامريكيا وحول العالم الذين الآن اتيحت لهم فرصة معرفة سياسات وجرائم اسرائيل ومستوى الدعم الامريكي وحتى الأوروبي المقدم لها طيلة العقود الماضية . فإن الولايات المتحدة ومعها الغرب هي نفسها من أعاق تنفيذ مبدأ حل الدولتين الذي يتحدثون عنه اليوم دون وضوح خصائصه وحدوده بما يشابه ما تحدث عنه ترامب في صفقة القرن ، وفي وقت أصبح هذا الحل أصلاً شكلاً من اليوتوبيا نتيجة تطور الظروف القائمة على الأرض بفعل سرطان الأستيطان المتمدد والضم ، ونتيجة لعدم وجود شريك إسرائيلي مؤمن حقيقة بذلك ولأنه ايضا وبتقديري فإن الولايات المتحدة غير جاهزة للضغط فعليا على دولة الاحتلال للقبول بهذا الحل الأممي . ولو كانت تريد ذلك لنفذته منذ عقود بدل ادخالنا واضاعتنا في ركام سراب مشاريعها والتي للأسف قد تم التعاطي معها في حدودٍ ما مما أدى إلى ترسيخ الأحتلال ، وتحديدا بعد اتفاق اوسلو الذي يتحدثون باسرائيل عن انتهائه ، رغم أن فترته الانتقالية قد انتهت بعد ٥ سنوات من توقيعه أصلا .

كما وقد كان ذلك النهوض من التضامن الدولي سبباً رئيسيا في التغير الجاري ايضاً بالموقف الرسمي الأوروبي المتمثل على لسان عدد من المسوؤلين من الاتحاد الاوروبي باتجاه توجيه الانتقادات لإسرائيل وحديثهم الآن عن ان الحل السياسي هو الضامن الوحيد لأمن إسرائيل ، وهو ما شكل اختلاف في مواقفهم عن الأيام الأولى من بداية العدوان الإسرائيلي بما يعكس تأثرهم بمواقف قوى شعوبهم .

وقد ساهم كل ذلك إلى وضع بايدن تحت ضغوطات جادة أدت إلى ما صرح به يوم أمس حول حكومة نتنياهو بوصفها الاكثر تطرفا. والى وضوح تخوفه اليوم على مكانة الولايات المتحدة من جانب حسابات الربح والخسارة بالعلاقات الدولية واستمرار قدرتها على التأثير والهيمنة التي يريد وتريد لها الدولة العميقة هنالك كما ويريدها منافسه ترامب والمتمثلة بالاستمرار في تنفيذ رؤيتها الاستراتيجية خاصة في منطقتنا في مواجهة المتغيرات الدولية وصعود القوى الأخرى وتأثيراتها بالمنطقة ، ولذلك فعلى بايدن المضي باجراءات عملية واضحة حتى يتسم كلامه بنوع من المصداقية (فالمي بتكذب الغطاس )، وهو أمر اشك بتحقيقه مع ضيق الفترة الزمنية له بالبيت الأبيض وقدرته كصهيوني خوض خلافات حادة مع اقطاب الحركة الصهيونية التي تتحكم بمفاصل مهمة من الإدارة هنالك وامتلاك مجمعات الصناعات العسكرية والمالية ونفاذ تأثيرها حتى اليوم على اعضاء الكونغرس والشيوخ .

من جانب آخر وهو الأهم ، فقد كان لأرتفاع كلفة الأحتلال الاسرائيلي الناتج عن العدوان الاجرامي كبيرا على ارواحهم ومالهم ومصالحهم نتيجة عمليات المقاومة النوعية المحسوبة وغير المتوقعة التي اوقعت بينهم خسائر لم تحدث سابقا بتاريخ الصراع ، كما ايضا نتيجة الاشتباكات ذات الطابع الاستنزافي في شمال فلسطين مع المقاومة اللبنانية . تلك الخسائر باتت معلنة إلى حد ما اليوم بعد شهرين من التدمير وجرائم الإبادة وفق ما يتم الآن الحديث عنه باوساط الصحافة الاسرائيلية ، الذي يعكس تضارب الأرقام بين الرسمي والإعلامي بخصوص الأعداد الكبيرة للقتلى والجرحى وفق ما أشارت له هآرتس ويدعوت احرانوت تحديدا سندا لتسجيلات ملفات المستشفيات ، وهو الأمر الذي يدفعهم لإعادة الحسابات والى بدايات بلورة توجهات في مجتمعهم تطالب بأنهاء ما يسمونه "بالعملية العسكرية لرابع اقوى جيش بالعالم" واستعادة اسراهم أحياء وضرورة العودة إلى الاتفاق على صفقة جديدة حول الأسرى وفق معادلات التفاوض المطروحة والتي يجب أن تؤدي إلى الإفراج عن اسرانا من زنازين احتلالهم والذين يتعرضون لابشع انواع البطش والقهر .

وحتى الاوساط السياسية والعسكرية رغم انها تتمتع بدعم سياسي بالمحافل الدولية وبجسر جوي وبحري مفتوح للاسلحة والقذائف المدمرة من الولايات المتحدة نفسها ، اخذت تظهر عليها تضارب المواقف والخلاف.
وامام ذلك فأن تأثير سياسات نتنياهو نفسه بعلاقاته مع الصهيونية الدينية التي تقدم له الغطاء واسباب البقاء اليوم رغم اخطاء ما يسمى بالمعارضة ، فيما هو يقود حربا لاسباب شخصية ذاتية بجزء منها تتعلق باستمراره "ملك إسرائيل الكبرى" ، أصبحت تؤثر على مصالح الحركة الصهيونية العالمية وثانيا على مصالح الولايات المتحدة .
يضاف الى كل ذلك التطورات الجارية في باب المندب وفق قرار الحوثيين وتداعياتها ليس فقط على إسرائيل بل على حركة الملاحة التجارية الدولية وتكلفتها ، وهو ما دعى الولايات المتحدة لمواجهة ذلك بتحالف دولي كتحالفاته السابقة .

وهذا ما يتطلب منا ان نرى ايضا صورة الضغط الداخلي باسرائيل من جانب حراك اهالي اسراهم ومن المتعاطفين معهم من قطاعات المجتمع اليهودي خاصة بعد عمليات قتلهم هُم لأسراهم كما أُعلن عن ذلك ، كما وللتخبط الجاري بين الاحزاب السياسية الصهيونية المختلفة وما له علاقة بما جرى منذ بداية العام من تداعيات الانقلاب القضائي ، والذي اصبح يشكل مبررا لهم لطرح أسئلة حول جدوى تلك "الحرب" والفشل في تحقيق اهدافها ومخاطر توسعها وامتدادها ، بل واعلان عدم أهلية نتنياهو لاستمرار الحكم من جانب مفاصل من المعارضة ، الأمر الذي تؤيده الإدارة الأمريكية التي تعمل على انفاذه بحجة إنقاذ إسرائيل والحفاظ عليها، والبحث عن محاولة تجاوز اي خلاف لتحقيق محصلة مصالح الطرفين والطريق التي ستخدم ذلك بما له علاقة ما بين التصعيد أو التراجع .

لذلك فانني أعتقد بأن محصلة كل تلك المتغيرات الجارية أدت إلى ما شاهدنه اول امس في الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص التصويت على قرار يدعو إلى الوقف الفوري للنار ، فكانت أغلبية دول بالاتحاد الأوروبي قد صوتت الى جانب القرار والآخر القليل منها امتنع دون الرفض ، القرار الذي صوتت له اغلبية دول العالم ال ١٥٣.

طبعا ذلك كله يجري مع الألم الذي نعاني منه مع تزايد الخسائر المؤلمة لارواح ابناء شعبنا وتدمير غزة .
لكني اقول بأن انكسار المقاومة في غزة سينعكس سلبا علينا وسيعني انكسار لنا ، بعكس ما يعتقده البعض للأسف. وانتصارها بمعنى عدم تمكين الأحتلال من تحقيق أهدافه المعلنة والحقيقية ، يعني انتصاراً نسبيا لشعبنا بما يسمح بإمكان أن يكون مسار الأفق السياسي الذي يتم الحديث عنه بواقع واطار افضل نسبياً عن ما تحاول الولايات المتحدة فرضه في "معادلة اليوم التالي" وتصريحاتها حول التجديد والتغير اللازم والذي رغم انه ضروري لحاجة ابناء شعبنا له ولمسار حركتنا الوطنية ، الا انهم يريدون منه باطلا ً.

اننا امام متغيرات جوهرية قادمة ، فبطريقة او باخرى نقترب من النهاية التي لا يريدها نتنياهو ، لهذا متوقع تصرفات دراماتيكية من طرفه يطيل بها الازمة . الا ان مقولة "اليوم التالي" التي يريدونها لنا ستعصف ايضا باسرائيل كما وبعواصم اخرى ، فنتنياهو بدأ حملته الانتخابية في ظل صراعات حزبية ومجتمعية ودولية ، واعتقد ان انفراط عقد حكومة الحرب لديهم بات قريبا . لذلك فان تحقيق اشكال من انتصار المقاومة او على الاقل عدم تمكين الاحتلال من تحقيق اهداف العدوان . ودون الخوض الآن في صفحات الماضي من الانقسام المؤلم الذي تكرس على اثر الانقلاب في غزة والبحث في اسئلة اخرى ، فهنالك المسوؤلية التي اقتضي الاتفاق على وحدة كل مكونات شعبنا السياسية والفكرية والاجتماعية ، وعلى الرؤية الواضحة والبرنامج والأدوات وفق المصلحة والبوصلة الوطنية بعيدا عن اية حسابات فئوية ، بعد ضرورة تقييم ومراجعة ألمرحلة الماضية بمنهج من النقد الذاتي الايجابي حتى لا نكرر الأخطاء ، لنكون قادرين معاً على استكمال مرحلة التحرر الوطني بعيدا عن الحلول المجزئة . هذا احتلال يتوجب أن ينتهي من خلال إطار مسار سياسي يكون واضحا بأنه سيفضي إلى تجسيد حق تقرير المصير والأستقلال الوطني وتجسيد حريات شعبنا الديمقراطية في دولته وهو صاحب ومنشِئ السلطات كافة وفق وثيقة اعلان الأستقلال والتراث الكفاحي لمنظمة التحرير .