وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

السلطة الفلسطينية المجددة (1 من 2)

نشر بتاريخ: 25/12/2023 ( آخر تحديث: 25/12/2023 الساعة: 17:46 )
السلطة الفلسطينية المجددة  (1 من 2)

د. حسن أبولبده

منذ إعلان الحرب على غزة، تنشغل أوروبا الغربية وأمريكا وإسرائيل بالتشاور حول تضاريس "اليوم التالي" بعد الحرب على غزة، ولكن لم تُنشر معلومات تفصيلية حول الموضوع، لا من هذه الأطراف ولا من محور المتفرجين من دول إقليمية قريبة من المشهد. ويجري كل ذلك في ظل ضبابية الموقف الفلسطيني الرسمي حول الموضوع.

يأتي ممثلوا هذه الدول بداعي التشاور للتنظير ومحاولة الإملاء على قيادة م.ت.ف./السلطة حول ما يجب أن يكون عليه "اليوم التالي"، وتكتفي القيادة بتكرار التأكيد على مرجعيتها وشرعيتها وحقها بإدارة غزة غداة الحرب، وبالتوازي لا تبذل الجهد الكافي على ما يبدو لإقناع حماس وحلفائها بتجاوز الإنقسام والخلاف، ويغذي ذلك القصف الإعلامي المتبادل من مراكز القرار في الجانبين، على الرغم من رغبة الشعب الفلسطيني وتطلعاته لطي هذه الصفحة، خاصة في ظل استمرار مسلسل الإبادة في غزة.

يتعمق مسار الإبادة الشاملة الذي ينتهجه الكيان الصهيوني في غزة بترخيص ورعاية وتمويل أمريكي ألماني فرنسي بريطاني، بينما يطغى على مشهد الحوار الإقليمي الأوروبي الأمريكي الإسرائيلي، محاولة كل طرف من هؤلاء إملاء معالم "اليوم التالي" الأكثر خدمة لمصالحه، ويشترط المتحاورون أن يكون في مركز التحضير لهذا اليوم "تجدد السلطة أو إعادة بعثها"، دون الإفصاح عما يعنيه ذلك على أرض الواقع.

من وجهة نظر حكومة إسرائيل وجيشها، يتمثل "اليوم التالي" في استمرار الإحتلال والسيطرة والحصار على غزة، بما في ذلك قضم ما لا يقل عن 2-4 كم من عمق غزة البري في شمالها وشرقها وجزئيا جنوبها بحجة تأمين "غلاف غزة" للأبد، وحرية النشاط الأمني الإسرائيلي على كامل التراب الغزي. أما في الشق المدني والإنساني المتعلق بحياة ومصير الغزيين، فإنها تنسق وتضغط وربما تهدد لفرض نزوح جماعي الى سيناء و/أو الأردن و/أو دول أوروبا وأمريكا الشمالية وبعض دول إفريقيا. وقد أعلنت حكومة نتنياهو أكثر من مرة أن دولاً مختارة في هذا التجمع ستكون قادرة على استيعاب 2.3 مليون غزي دون التأثير على الميزان الديمغرافي لكل منها، وبالفعل فإنه توجد هناك شواهد مؤكدة على الشروع في تطبيق ذلك عبر منح تأشيرات دخول وإقامة مؤقتة في هذه الدول للغزيين الراغبين.

قد يتضمن التجدد المنشود في نسخته الإسرائيلية إعادة صياغة سلطة تريدها مهزومة، تقبل بيهودية الدولة والتوسع الإستيطاني والتبعية الأمنية في الضفة، ونسخة أقل بريقا في غزة، والربط بين استمرار كيانية السلطة في الضفة بدورها في التصفية التامة للمكون العسكري لحماس في غزة، وفرض الأمن الشرطي الداخلي بحيث يكون متساوقاً مع أجندة إسرائيل كما تراها لغزة، بما في ذلك القبول بمنطقة الحرام التي أشرنا اليها.

في المقابل يتقاطع الموقف الأوروبي مع الأمريكي بشأن ضرورة قيام إسرائيل بإلحاق هزيمة عسكرية منكرة بحماس والفصائل المنضوية في فلكها، ومسح حماس تنظيميا ومؤسسيا وعسكريا من الخارطة الفلسطينية. ويتلو ذلك إحالة مقاولة إدارة غزة مدنيا للسلطة "المجددة"، التي قد تتكون من قيادات جديدة تكنوقراطية شابة يخلو تاريخها من الفساد أو سوء الإدارة أو التطرف، ذات صلاحيات موسعة، تحت عباءة الرئيس أبومازن، الذي تفترض أنه سيتمتع بصلاحيات رمزية على رئيس وزرائه المفوض، ولا ضير من وجود وزراء تكنوقراط محسوبين على حماس أو مقربين منها في الحكومة. ويرى هذا الفريق أن خارطة "التجدد" ستمر لاحقا بانتخابات تشريعية في ظل الرئيس "الفخري" أبو مازن، وربما رئاسية بعد أن يضمحل ويتلاشى دوره القيادي. وهناك من يرى اختصار الطريق والعمل على تنصيب رئيس جديد يتوج بانتخابات يشارك فيها مروان البرغوثي وغيره ممن يتم تداول أسماءهم في بورصة "التجدد". وترى هذه المدرسة بأنه قد يتم، بعد "تجدد السلطة"، إحياء المفاوضات لبحث محتوى دولة فلسطينية "مسخ" تأتمر بأمر إسرائيل في الحفاظ على الأمن والسلم في الضفة الغربية وغزة، وتعيد تربية الشعب الفلسطيني فيهما على الإستكانة للمطامع الإسرائيلية في الضفة، والتنصل من طموحه بالحرية والإستقلال وحق العودة والثوابت السياسية التقليدية.

أما من الناحية الأمنية، فإن أمريكا تذهب الى أبعد من ذلك في محاولة إقناع بعض دول الإقليم تولي مقاليد غزة والصرف على إعادة إعمارها، وضمان النظام العام والأمن الداخلي من خلال إعادة تأهيل بضعة آلاف من رجال الأمن الغزيين المقيمين في غزة وما زالوا على ملاكها (أي لم يلتحقوا بالمؤسسات الحمساوية)، وعدة آلاف أخرى من منتسبي الأجهزة الأمنية في الضفة، الذين سينتقلون بعد تأهيلهم الى غزة. وتبقى يد الجيش الصهيوني هي العليا وصاحبة القول الأخير ضمن هذا التصور.

بعد هذا العرض يبقى سؤال المليون بشأن الموقف الرسمي الفلسطيني من مسألة "التجدد"، حيث لا معلومات أكيدة حول وجود تصور تفصيلي للمحتوى الفلسطيني الرسمي بشأن الإجماع الإقليمي والدولي على مسألة "التجدد" ووظيفته. يجتهد البعض في الإعتقاد بأنه سيقتصر على منح صلاحيات إضافية للحكومة المتجددة على أن لا تمس بجوهرها صلاحيات الرئيس أبو مازن، والقيام بإصلاحات تنظيمية وإدارية وسياساتية لترشيق السلطة، ولا ضير من إزاحة جزء من طبقة المخلدين في المواقع القيادية.

برأيي، لا يتضمن "اليوم التالي" الفلسطيني لتاريخه تفاصيل تذكر أو خطط محكمة بشأن إغاثة غزة وإيواء مشرديها وإزالة الأنقاض، وإعادة القطاع الصحي للحياة، والتجييش للمعالجة النفسية والإجتماعية للمجتمع الغزي بأكمله وخصوصا الأطفال، وإعادة الروح لقطاع التعليم بعد تدمير معظم المدارس واستشهاد الآلاف من الكادر التعليمي، وإعادة بناء البنية التحتية وترميم ما تبقى من المباني والإعمار، والإنعاش الإقتصادي والصناعي والخدماتي بعد تدمير كل ذلك من قبل القوات الصهيونية الغازية، بما في ذلك جميع المصانع في منطقة غزة الصناعية، وهي الأكبر في الأراضي الفلسطينية، وغير ذلك من قطاعات إنتاجية وخدمية.

سياسيا وبعيدا عن الكليشيهات التقليدية، لا يوجد موقف رسمي محدد من ماهية "اليوم التالي"، وغالبا ما ينزع مسؤولي الصف الأول في القيادة الفلسطينية الى اجترار مسألة الترابط في مسار تولي إدارة غزة مع السير في المفاوضات للحل النهائي، ولا يوجد تصور واقعي مفصل بشأن مسألة إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها لتكون بيتا جامعا للكل الفلسطيني بغض النظر عن التباين الأيدولوجي بين فتح وحماس والجهاد الإسلامي ومؤسسات المنظمة وفصائلها الأخرى وغيرها. ويبدو أن حرب الإبادة بحق غزة لم توفر حتى الآن حافزا كافيا لطي صفحة الخلاف الفتحاوي الحمساوي، الذي يدمر مستقبل القضية الفلسطينية، خاصة في ظل تحول الموقف الإسرائيلي الرسمي من طور معايشة سلطة مهلهلة غير كفؤة في الضفة الغربية ومهادنة نظام حكم حماس في غزة، الى استعداء وعدوان على الكل الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، والى حد ما لبنان، والعمل الدؤوب على نفي الرواية الفلسطينية ووأد مرحلة أوسلو، واعتبار السلطة الفلسطينية جزءً من "منظومة الإرهاب الفلسطيني"

واهم من يعتقد أن دول المحور المشاركة في الحرب على غزة مع إسرائيل ستكون مستعدة للضغط عليها لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة غير منقوصة الى جانب إسرائيل، كمدخل لمنع جولات أخرى في مسلسل حرب الإبادة على شعبنا والطموحات السياسية الفلسطينية على حد سواء.

واهم كذلك من يعتقد بأن حماس ستختفي من المشهد كما تشتهي إسرائيل وحلفاؤها، نتيجة للخسائر المتعاظمة والمجازر اليومية والخنق الإنساني والإقتصادي والإختلال الفظيع في موازين القوى، لكونها ببساطة منظمة أيدولوجية إسلامية تتوطن وتنشط في بيئة مجتمع إسلامي تواق للحصول على حقوقه المسلوبة من إسرائيل وحلفائها، ويرى في معظمه أن حماس قادرة أكثر من غيرها على مقارعة الكيان الصهيوني المحتل. ولذلك على الأرجح أنها باقية كعقيدة وتنظيم (ربما سري) وخلايا مسلحة تقوم بالمناورة والصد والعمل على قنص الوجود العسكري الإسرائيلي كلما تمكنت من ذلك في أي جزء من القطاع. ناهيك عن العمل على استقطاب الآلاف المؤلفة من المكلومين الناقمين التواقين للثأر وعداوة الكيان الصهيوني، سواء لشهدائهم وجرحاهم أو للإنتقام لخسائرهم في ممتلكاتهم، ناهيك طبعا عن إيمانهم بقضيتهم واستعدادهم المستمر للإستشهاد في سبيلها. والعبرة في الخواتيم.