|
بين الإنزال الجوي والممر البحري ... مجاعة غزة مستمرة
نشر بتاريخ: 09/03/2024 ( آخر تحديث: 09/03/2024 الساعة: 11:07 )
الكاتب: د. حسن أبولبده في ظل غياب أي إدارة/سيطرة أو تنظيم/رقابة على الأسعار، وخدمة لمصالح فئات مختلفة من المتنفذين والعصابات المحلية، أصبح الوصول الى السلع الأساسية في جنوب غزة قاصراً على الموسرين فقط من شعبنا المكلوم. وإن من يطلع على الأسعار سيصدم لحجم الجشع والحرمنة والتجارة بالأمعاء الخاوية. فقد حول هذا السلوك شعبنا الغزي الأبي الى ضحايا لعدة جبهات على رأسها القوات الغازية والمتحكمين بتدفق المواد من المعابر، والمتنفذين من قوى وفصائل تحتكر التصرف فيها، وعصابات مسلحة مأجورة تتحكم في توزيع تحصيلها مقابل خاوات فلكية، ومن بينها رسوم للوصول الى مراكز التوزيع أو الشاحنات الحاملة للمساعدات، ومؤخرا المساعدات الجوية، إضافة لتجار الحرب مصاصي دماء الغزيين في وضح النهار، ومعظمهم يعملون لصالح جهات معروفة داخل غزة وخارجها. وفوق كل ذلك يصطدم الغزي بتكاليف خيالية للخروج من المعبر طلباً للأمان. تترافق فوضى التنافس على اقتناص ما يسد الرمق من قبل العامة المتضورون جاعاً، مع كل مظاهر الإستغلال البشع لحاجة الناس الغلابا، وقد نوهت سابقا الى أنه ضرورة تنظيم فرق للتدخل بتنظيم الأسعار، عمادها كوادر السلطة في غزة وغيرهم من كوادر وقيادات فصائلية ومجتمعية وعشائرية لوقف هذا التعسف بحق شعبنا في جنوب غزة وشماله، ولكن "لا حياة لمن تنادي". أما شمال غزة، التي يرابط فيها أكثر من 700 ألف مواطن يعيشون مجاعة مكتملة الأركان، فحدث ولا حرج. وتسعى إسرائيل، لا بل تعمل بكل طاقتها، لتكريس واقع المجاعة بمنع تدفق المساعدات اليها كوسيلة ضغط لإجبار من تبقى فيها من الغزيين الى الرحيل جنوباً. وتبين التقارير المرئية التي تبثها الشاشات ووسائط التواصل الإجتماعي، وكذلك تقارير ما تبقى من البعثات الأممية في الشمال، الى أن المجاعة تنتشر وتتعمق على مساحة الشمال، وهناك حالات عديدة موثقة بالصور والشهادات للموت جوعاً بين الأطفال والنساء وكبار السن. كل ذلك يجري بتخطيط وتنفيذ القوات الغازية، وإدارة وتمويل معظم دول الإقليم الصامتة على جرائم القتل جوعاً، ودول المحور (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) المنحازة والشريكة في تنفيذ الأجندة الإسرائيلية لتصفية غزة بهويتها وتاريخها وكل مكوناتها وشعبها وكل من يتنفس فيها. إن هؤلاء جميعاً مسؤولون بشكل كامل عن أفعال التدمير والإبادة في غزة. فهل يعقل أن هذه الدول وغيرها ممن هب لنجدة إسرائيل بالمال والعتاد والدعم الدبلوماسي في حربها على الغزيين، والتي تدعي الديمقراطية والتمسك بحقوق الإنسان و"القانون الدولي"، أن لا ترى ولا تقرأ ولا تتسلم التقارير الأممية العالمية عن نتائج اصطفافها في قنص وتدمير الغزيين دون تمييز أو تفريق؟. والأنكى من ذلك ادعاء العجز عن إلزام إسرائيل بالتوقف عن قتل الأطفال والنساء وكبار السن، وعدم اعتراض إصرار إسرائيل على إدخال المساعدات بالقطارة، مقابل الحاجة الماسة لأكثر من ألف شاحنة يوميا. منذ بداية شهر تشرين الثاني الفائت، قامت القوات الجوية الأردنية بأكثر من إنزال جوي لمواد ومعدات طبية خصصت للمستشفى الميداني الأردني في شمال غزة، وتطور ذلك الى عمليات محدودة لإسقاط مساعدات غذائية وإنسانية. وقد انضمت مؤخراً كل من مصر والإمارات وفرنسا، وأخيرا أمريكا الى مسلسل الإنزال، وتتولى هذه الدول بتنسيق أردني إسقاط كميات محدودة من الوجبات الجاهزة والأدوية والحفاضات ومنتجات نظافة نسائية لفائدة سكان شمال وادي غزة. من المعلوم أن كل إنزال جوي من الطائرات المستخدمة "C-130" يكافئ حمولة شاحنتي مساعدات الى غزة، ناهيك عن أن كل إنزال جوي للطرود يكلف أكثر من 10 أضعاف إيصالها براً. ولذلك فهي غير مجدية نهائيا نظريا وعمليا، وقد برهنت على ذلك عمليات الإنزال التي تمت لتاريخه، حيث بلغ إجمالي ما تم إنزاله من المساعدات الأمريكية، البالغة حمولة 3 طائرات، 38 ألف وجبة. وإنه لمن المضحك المبكي أن جزءَ من هذه المساعدات ذهبتت سدىً، حيث سقطت في البحر وخارج حدود غزة البرية بسبب التيارات الهوائية النشطة في تلك المناطق، ولأنه تم إسقاط المواد من ارتفاعات شاهقة بلغت 10,000 متر لأسباب أمنية فرضتها إسرائيل، بخلاف التجربة الدولية التي تؤكد على نجاعة الإنزالات تتطلب إسقاطها عن ارتفاع 300-5,000 متر. إن اللجوء الى الإنزال الجوي للمواد الغذائية والمساعدات الإنسانية الطارئة على شمال وادي غزة ليس أكثر من "مسرحية" للهروب من استحقاق فتح المعابر والممرات الآمنة لإيصالها براً، وخضوعاً لإملاءات إسرائيلية، وحتى لو أنها كانت مجدية، فإن وقف المجاعة يتطلب ما لا يقل عن 60-70 عملية إنزال من الطائرات المستخدمة حاليا خلال فترة محدودة، وأعتقد أن ذلك شبه مستحيل والعمليات القتالية دائرة في أجواء القطاع وبرها. ناهيك أن بعض الإنزالات أدت مؤخرا لاستشهاد العديد من الغزيين نتيجة لسقوط الطرود عليهم بعد فشل فتح المظلات، إضافة الى تغذية الفوضى على الأرض نتيجة للتدافع من قبل المواطنين الجوعى، وقيام عصابات بمنع وصول المواطنين الى هذه الشحنات إلا بعد دفع رسوم "دخولية" بما يعادل 15 دولار لكل فرد للوصول الى موقع الإنزال. لا يوجد بديل لفتح كافة المعابر المحيطة بقطاع غزة، وعلى رأسها رفح، وإلزام إسرائيل بحرية وصول المساعدات الى كافة أنحاء قطاع غزة بما لايقل عن 1,000 شاحنة يوميا، ومنح المؤسسات مظلة أمنية لتوزيعها بعدالة. وسيحسن الأشقاء المصرييون صنعاً لو أنهم فتحوا المعابر لدخول المساعدات المنتظرة على الجانب المصري، ولتقصفها إسرائيل على الشاشات حتى يرى العالم بأم عينه مدى الإجرام الذي تمارسه بحق غزة. إن فتح المعابر وحرية تدفق المساعدات الإغاثية هو حق إنساني وقانوني أصيل، وإن استمرار عجز دول الإقليم ومجلس الأمن عن فرض فتح المعابر، وتعامل دول المحور المعتدية مع إسرائيل من باب العشم والرجاء في مجال حرية دخول المساعدات، هو تأكيد إضافي على مشاركتها في حرب الإبادة، ولن يختلف اثنان بأن المجاعة الغزية من صناعة هذه الدول مجتمعة بتخطيط وتنفيذ إسرائيلي. أخيراً، أعلنت أوروبا ولحقتها أمريكا أنها بصدد إفتتاح ميناء في قبرص لنقل المساعدات لغزة بحراً، وتقوم إسرائيل باتخاذ التدابير الأمنية بما في ذلك قائمة طويلة من الإشتراطات بشأن حمولة وتوقيت وإدارة ومسار إقلاع سفن الإغاثة من قبرص الى غزة وعودتها، وقد تبدأ بواخر الإمداد بالإقلاع من قبرص في أي لحظة. لا توجد معلومات مفصلة حول حجم وطبيعة هذه المساعدات التي ستبحر الى غزة، ولا توجد معلومات حول مصير هذه المساعدات بعد وصولها للشاطئ، ولا كيفية توزيعها بعدالة وعدم بيعها، ولا دور المؤسسات الأممية في ذلك، ولا محتوى الإشتراطات الإسرائيلية بشأن المستفيدين منها. والسؤال اليوم، هل هذه هذه البواخر من ميناء غزة فارغة، أم أنها ستتحول الى جسر بحري لتهجير آلاف الغزيين الهاربين من جحيم الحرب والمجاعة، سواءً طوعا أم قسراً؟. قريب الأيام بيننا، وسنرى إن كان الممر العتيد رافعة نجاة وخلاص من المجاعة، أم فصلاً جديداً من فصول التيه الفلسطيني في المنافي. |