وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عن بعض القضايا أتحدث!

نشر بتاريخ: 20/03/2024 ( آخر تحديث: 20/03/2024 الساعة: 11:26 )
عن بعض القضايا أتحدث!



بقلم: د. صبري صيدم

آلاف الساعات تلك التي انقضت في قمم واجتماعات وجلسات، ولقاءات ومؤتمرات وجولات، استمرت على مدار نصف عام ساخن، رفدت خلالها بسيل من التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات والمسيرات والوقفات العالمية المشهودة، لكن ذلك كله لم ينجح في وقف المحرقة المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، ولم تنجح في إنقاذ أرواح عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرجال، ولم تفلح في إنقاذ آلاف مؤلفة من مقومات البنى التحتية والكنائس والمساجد والمشافي، والجامعات والمدارس والمكتبات، والشركات والبيوت والمصانع والعيادات، والملاعب والنوادي التي طُحنت في غزة.

القدرة على حرق إسرائيل لهذا الكم من الساعات والمقدرات والأرواح، إنما يعكس حجم استحكامها العالمي، وتمكنها من مصانع القرار العربي والدولي، ليستسلم الجميع أما بشاعة جرائمها وهول تجبرها وقباحة عدوانها، لذا فإن هذه الحالة المستفحلة من هذا الاستحكام، إنما تحتاج إلى وتيرة أعلى من العمل والضغط الفلسطيني والإقليمي والدولي المتصاعد.

ولعل مفاصل الضغط الرئيسية، تبدأ باعتراف العالم بدولة فلسطينية وفق الرؤية الدولية، وفي إطار خطوات غير قابلة للتراجع، أو التبديل، أو التبديد لتتبعها خطوات مماثلة وفي محاور عدة. وقد اخترت شخصياً خطوة الاعتراف في زاويتها المحددة لأعكس واقعاً لا بد من تصاعده، وسط خطوات يتخذها تحالف دولي مستنير يضع حداً لطموحات نتنياهو الإقصائية والعنصرية الواضحة، ولا يسمح لجريمة كهذه بالاستمرار.

الحرب لم تعد ترتبط بفصيل فلسطيني بعينه، وإنما تتعلق بترحيل وإبادة الفلسطينيين والهوية الفلسطينية بشكل عام، وعليه سيستمر العديد من اللاعبين في لعب دور ما في المنطقة

لقد وصلت الوقاحة في إعلام الاحتلال أن دأب على التشكيك في دقة أعداد الشهداء في غزة وعليه اسأل إسرائيل، ما هو الرقم المقبول يا ترى؟ 25000 أو 10000 أم 1000؟ إن خسارة فرد واحد هي في الواقع خسارة كبيرة جدًا، فالفلسطينيون ليسوا مجرد أرقام بلا وجوه أو قيمة أو أثر، خاصة عندما نعلم أن السياسة الوحيدة القابلة للتطبيق إنما تقوم على مبدأ: عش ودع غيرك يعيش، وعليه وأمام فداحة النكبة الفلسطينية الحالية ينبغي عدم السماح لإسرائيل باستمرار غطرستها واستعلائها وتماديها. إن لب الصراع وللأسف إنما هو ثابت في أذهان الكثير من المسؤولين الإسرائيليين، فهو يقوم على مبدأ تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ومحاولة الانتصار لعقيدة كهذه عبر جر البعض إلى التفكير بالطريقة ذاتها. وعليه يلجأ البعض لاعتبار الفلسطينيين حفنة من المستضعفين فيملي عليهم إرادته ويسعى لإسداء مواعظه ليعلمهم كيف يجب أن يعيشوا وأن يتنفسوا، وبالتأكيد كيف يحكمون أنفسهم.

إن ما يميز هذه الجريمة المتواصلة يكمن في أن غيرها ربما لم يسبق، وأن أحيط بهذا الكم من المتغيرات، كما هو الحال اليوم، حيث تبدو الحلول غير منطقية أكثر فأكثر. لنأخذ على سبيل المثال قضية الميناء الجديد في غزة، فموافقة إسرائيل على إنشاء رصيف بحري مخصص لإيصال المساعدات للفلسطينيين المظلومين، مقابل مئات شاحنات الغذاء المتعثرة في معبر رفح، بفعل الإجراءات الاحتلالية، واستمرار إغلاق المعابر على طول حدود قطاع غزة، يشبه حال الطبيب الذي يعالج مريضا من صداع بسيط عبر إجراء عملية جراحية كبرى في الدماغ.

الحرب لم تعد ترتبط بفصيل فلسطيني بعينه، وإنما تتعلق بترحيل وإبادة الفلسطينيين والهوية الفلسطينية بشكل عام، وعليه سيستمر العديد من اللاعبين في لعب دور ما في المنطقة، لكن الفلسطينيين لن يرحبوا بأي دور يذكر إلا بما يقودهم نحو الاستقلال وتقرير المصير، ليكون المستقبل مرتكزاً على تحقيق العدالة المستندة إلى قرارات الشرعية الدولية، وتكاتف الفصائل موحدة ومتآلفة حول منظمة التحرير الفلسطينية.

أما العمل العربي فإن أنجع خطواته، كما يرى البعض تكمن في منح المملكة العربية السعودية فرصة قيادة صوت عربي موحد ومتجانس ولتكون المملكة بمثابة القاطرة القادرة على إحداث تغيير جديد ونوعي في الشرق الأوسط.

أما الحديث عن اليوم التالي فيجب أن لا يتحول إلى مسرحية يديرها نتنياهو، خاصة أننا جميعا نعرف الحقيقة الدامغة التي تؤكد أن الأخير لا يرغب في رؤية فلسطيني واحد على الأرض الممتدة من النهر إلى البحر. وهنا لا بد من التركيز على أن الوجود الفلسطيني على أرض الأجداد، لا يمكن أن يترك لنزوات حاكم تل أبيب الشخصية ورغباته، خاصة لكون الوجود الفلسطيني إنما هو نتاج التاريخ والتجذر الفعلي لأصحاب الأرض بأرضهم وقدسهم.

أما الحديث عن الإصلاح فهو حديث المواسم جميعها، وهو الأمر الذي لا يمكنك إلا الإقرار بالحاجة إليه وضرورة استدامته، إلا أن التاريخ وفي هذا المنحى إنما يعيد نفسه، إذ في أوج الانتفاضة الثانية مثلاً، وفي عهد الرئيس عرفات قيل بأن فلسطين بحاجة إلى قيادة جديدة وأنه ينبغي آنذاك إجراء إصلاحات عاجلة، لكن سخريات القدر أمس واليوم إنما تكمن في حقيقة أن المقعد المقابل للسلطة الفلسطينية احتله ويحتله مجموعة من الوزراء الصهاينة، من أصحاب السوابق ممن لديهم ملفات جنائية، ومع ذلك لا أحد سأل ويسأل اليوم دولة الاحتلال وحكوماتها عن الإصلاح…يا لها من مهزلة.

إن فلسطين على موعد مع حكومة جديدة هذه الأيام لتكون مطالبة بحمل مشعل العمل على تحقيق الإجماع الفلسطيني حول القضايا المصيرية الحاسمة، التي تعيشها القضية الفلسطينية بما يضمن تحقيق العديد من القضايا وليس أقلها إعادة إعمار غزة عبر مسارين واضحين: مسار الطوارئ ومسار مستند إلى خطة شاملة لإعادة الإعمار مماثلة لخطة مارشال التي أعيد بموجبها إعادة إعمار الدول التي تأثرت بفعل الحرب العالمية الثانية.

ولعل نجاح الحكومة الفلسطينية المرتقبة لن يرى النور، ما لم يكن وجودها مقرون بإجماع فلسطيني ودعم المجتمع الدولي وتوحيد الفلسطينيين، وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم وقيادة الطريق إلى الأمام، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية العامة.

أما وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فموقف الفلسطينيين ثابت ولا حياد فيه، خاصة أن الوكالة ليست عنوان الإغاثة الإنسانية في فلسطين فحسب، بل هي الحاضنة للتاريخ الفلسطيني الإنساني وذاكرة اللجوء الموثقة في سجلاتها.

إن احتدام القضايا على تعددها، إنما يؤكد مسؤولية أممية تجاه مداواة هول المحرقة التي ترتكبها إسرائيل، ليس فقط من حيث القول وإنما أيضاً من حيث ضرورة الانتقال من القول إلى الفعل، فهل يكفّر العالم عن عقود طويلة من النكران تجاه فلسطين وقضيتها العادلة؟ ننتظر ونرى !.