|
رواية الصوفي والقصر لاحمد رفيق عوض : الإشكالية الدائمة بين المثقف والسلطة
نشر بتاريخ: 24/04/2024 ( آخر تحديث: 24/04/2024 الساعة: 15:05 )
يختار الكاتب المجرب احمد رفيق عوض في رواية "الصوفي والقصر" الصادرة عن دار الشروق سنة 2017، يختار موضوعاً اشكالياً تماماً، فضلاً عن اختياره بطلاً اشكالياً في التاريخ والثقافة الاسلامية، ولا اقصد هنا موضوعة التصوف بكل ما فيها من تناقض وروايات وفتاوى ومعارك واتهامات، فالتصوف الإسلامي لحقته شبهات ولاحقته اشاعات، لا اقصد هذا، رغم ان الكاتب عوض اختار ان يتحرك في هذا العالم وان يكون بطله أحد أهم ركائز التصوف الاسلامي الاربعة، لا اقصد ذلك، ما اقصده هو الموضوع الإشكالي الذي سلط الكاتب الضوء الساطع عليه ألا وهو هو علاقة الحاكم بالمحكوم ، تلك العلاقة المتفجرة الدائمة والمستمرة حتى يومنا هذا بين " القصر" كرمز للحكم وبين الجمهور بكل ما فيه من قوى وشخوص ومصالح ومطامع، وحتى لا نتعجل النقاش ، فلنبدأ من البداية. الصوفي والقصر : المعرفية والجمالية تنشغل رواية الصوفي والقصر باختراع تاريخ آخر أو مجاور أو محتمل للمتصوف الشهير أحمد البدوي الذي يعتبر واحداً من اربعة اخرين شكلوا ركائز التصوف السني وهم الرفاعي والجيلاني والدسوقي، الرواية هذه قد تكون – ان لم تكن فعلاً – أول رواية عربية تنشغل درامياً بهذا المستوى بشخصية البدوي، وهي شخصية ملتبسة جداً في التاريخ الاسلامي الى درجة ان هناك من انكر وجوده اصلاً اذ لم يكتب عنه ولم يؤخذ منه ولم يؤلف كتبا ولم يذكر في أمهات الكتب أو كتب المؤرخين الموثوقين ، وبسبب هذا الغموض فقد لحقت به أوصاف واتهامات وإشاعات كثيرة، كما اختلطت الأكاذيب بالحقائق، الى درجة ان هناك من جعله قديساً وهناك من جعله افاقاً صاحب أجندات سياسية مغايرة، اذن فان الكاتب عوض، صاحب التجربة اللافتة في كتابة الرواية التاريخية يختار شخصاً ملتبساً منذ البداية ، غامضاً وهامشياً وتحيط به الأساطير و الأكاذيب والحقائق. إن اختيار شخصية اشكالية من هذا النوع يتطلب استعداداً معرفياً كافياً للكتابة عنه، وأدعي ان الكاتب عوض استعد لعمله الروائي ، ليس على المستوى المعرفي فقط، بل تمثل هذه المعرفة وتحويلها إلى دراما روائية جاذبة وقادرة على إثارة الانتباه والوجدان والعقل ايضاً . واحمد البدوي متصوف من متصوفة القرن السابع الهجري، عاش في أواخر الدولة الأيوبية وشطراً لا بأس به من بدايات الدولة المملوكية، ولهذا فقد عايش احداثاً تاريخية متلاحقة وخطيرة ، من غزوات صليبية وهزائم واتفاقيات مهينة مع الغازي الأجنبي ، عايش كذلك تهديدات خارجية وداخلية تمثلت في التتار من الشرق والفرنجة من الغرب وصراعات داخلية بين الامراء وانهيار دول وظهور دول اخرى، وقد شكل هذا الاضطراب ارضية مناسبة لهذا المتصوف للانسحاب الى الداخل، والاكتفاء بالعزلة ولهذا لم يكن من المستغرب ان يكون القرنان السادس والسابع الهجري قرني التصوف الإسلامي بحق، وعلى عكس ما جرى في القرنين الثالث والرابع من ظهور الاقتراحات الصوفية الكبرى بكل تجلياتها الغنوصية، فإن القرن السادس والسابع شهدا ظهور متصوفين لا يميلون الى التنظير بقدر الميل الى التطبيق العملي والسلوكي. الشخصية التاريخية لاحمد البدوي تبلورت على يد متصوف متأخر هو عبد الوهاب الشعراني الذي كتب عن البدوي في كتابه الشهير "الطبقات الكبرى" او ما سمي "بلوائح الانوار في طبقات الاخيار" ، وهو كتاب يصنف فيه الشعراني طبقات الصوفية، وقد اسند الى كثير منهم كرامات تفوق معجزات الانبياء ، وقد اسبغ المؤلف المذكور في كتابه هذا على البدوي من المبالغات والاساطير ما اخرجه من صفات البشر الى صفات اخرى، ولما حاول شيخ الازهر عبد الحليم محمود ان ينزل البدوي على الارض في كتابه "السيد احمد البدوي رضى الله عنه" حذف الكثير مما اورده الشعراني، بل حاول شيخ الازهر ان يقدم البدوي دون مبالغات ولكنه – برأيي- لم يستطع ان يتخلص من كمية الاساطير المحيطة به ، البدوي – كشخصية تاريخية- تحول في مصر وبلاد عربية واسلامية اخرى الى علم من اعلام الصوفية، رغم انه لم يكتب حرفاً واحدا، ولم يعرف عنه وصايا او خطب ، بل هي جمل متناثرة هنا وهناك وحكايات وكرامات وقصص تكاد لا تصدق، وفي طنطا الآن ، يجد الزائر هناك ضريح هذا المتصوف وعليه قبة بديعة يحيط بها مسجد كبير وبديع البناء، ويكاد لا يفرغ المسجد من زواره ، وقد يتساءل المراقب ويعجب لتأثير هذا المتصوف رغم انه لا يشبه غيره من المتصوفين، فهو بدون دعوة وبدون مؤلفات وبدون حياة مثيرة ، بل هي اشبه بأسطورة حيكت عنه فيما بعد ربما، وربما كان هذا جزءاً من قصة هذا الصوفي الغامض ، وربما -ايضا- كان هذا احد الاسباب التي دفعت الكاتب احمد رفيق عوض ليتناول حياة هذا الصوفي ليحولها الى رواية قد تكون الاولى عربياً تكتب عن البدوي. ولان الغموض والالتباس يحيط بهذه الشخصية، فإن الكاتب عوض اخترع او اجترح سيرة محتملة له ركب عليها ما يريد من مضامين ورسائل . ولان الرسالة لا تكون مؤثرة ان لم تكن مصوغة بالجمال والثراء والتأثير ، فقد استعد الكاتب جيداً لهذه المهمة، وتجهز جيداً من حيث استعراض الحالة السياسية لتلك الفترة التاريخية بكل ما فيها من شخوص وأحداث ولغة وتفاصيل كان لا بد منها للإقناع والتأثير والتبرير ايضاً. الخلفية التاريخية : رواية الصوفي والقصر، نقلت إلينا هموم وتحديات واستجابات الأمة الإسلامية في القرن السابع الهجري ، عندما كان هناك خطر التتري من جهة والافرنجي من جهة اخرى و التمزق الداخلي من جهة ثالثة، وادعي ان الكاتب وفق إلى حد بعيد بأن أعاد إلينا اسئلة المثقف في ذلك الزمان الذي كان عليه ان يحارب على الجبهة الخارجية اعداء الامة والدين، وعلى الجبهة الداخلية، الهوى والشهوة ومصانعة العدو.وكل ذلك بلغة انيقة وشاعرية تستعيد لغة ذلك العصر ومزاجه وقاموسه، واذا اضفت الى ذلك رموز الصوفية ولغتها المغلقة والغارقة في اشاريتها ورمزيتها، فإنك أمام رواية غنية بمضمونها ولغتها وشكلها ورسالتها. الرواية بهذا المفهوم ، طرحت اشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة في سيرورة التاريخ العربي الإسلامي حتى يومنا هذا ، فالسلطة – كل سلطة- ترغب أو تصنع مثقفها ، الذي يتصالح معها او يمجدها أو يبررها ، ليس أكثر وليس أقل. إشكالية القصر والصوفي: ادعي ان الكاتب أحمد رفيق عوض توسل او استخدم الصوفي هنا كأداة كاشفة للعطب التاريخي والسياسي والثقافي لإشكالية "الحكم" في الثقافة العربية الاسلامية ، وهي اشكالية مستمرة الى يومنا هذا، فالنظام السياسي هو المشكلة وهو الأصل في تدهور التاريخ وسقوط الحضارة ، ولكن هذا لا يكفي ايضاً، "فالحكم" في نهاية الأمر ليس تغلباً بقدر ما هو اتفاق مجتمعي ايضاً، وبالتالي ، فإن التدهور أو الانحطاط قرار جماعي او قرار جمعي، تقول الرواية -حسب فهمي على الاقل- ان الفرد مهم جداً في هذه المعادلة ، الفرد الذي يطور حريته وفردانيته بعيداً عن "القصر" ، يجب ان تكون هناك مسافة كافية بين الفرد والقصر ليحافظ الفرد على شفافيته وقدرته على الرؤية والتمييز بين الصواب والخطأ ، الفردانية هي الاستعصام بالموقف وبالرؤية وبمصدر الرزق ايضاً، ربما كان هذا يفسر إصرار المتصوفة على التقشف أو العيش بعيدا عن العمران، ان مثقف القرن السابع الميلادي – والذي كان إما متصوفاً أو فقيهاً- حاول ان يقدم نموذجاً للتغيير وللتنوير من خلال السلوك والموقف ايضاً. بين الفقيه والمتصوف ولهذا رأينا معاناة الفقيه المتصوف العز بن عبد السلام مع الحكام المتعاونين مع أمراء الفرنجة ، ورأينا الفقيه الشهير أيضا كيف يهدد حكام القاهرة المماليك فيما بعد ببيعهم ان لم يواجهوا التتار الذي كانوا يهددون السلم العالمي فضلاً عن الامة الاسلامية في حينه، ادعي هنا، ان أحمد رفيق عوض التقط هذا المفهوم وطوره وقلده لمتصوف لم يكن له من العالم سوى سطح بيت عادي في طنطا، ومن فوق هذا السطح أدار البدوي عالمه الداخلي والخارجي، ما يؤيد كلامي ، هو ما وصفته الرواية بطريقة مدهشة من هجوم الملك الفرنسي المجرم لويس التاسع على مدينة المنصورة ودفاع أهلها عنها، فقد تخيل الكاتب عوض ان متصوفة ذلك الوقت تجمعوا في خيام قريبة من خيام عسكر المماليك للدفاع عن المدينة، ومن الواضح ان الكاتب اراد من ذلك ان يقول ان التصوف لا معنى له ان لم يكن موقفاً من العالم شجاعا وواضحا ومنحازاً الى الناس، وان التصوف لا معنى له ان تحول الى طلاسم لخلاص شخصي أو امتلاك قوة وهمية أو ادعاء بالامتلاء والاكتفاء والتنور المجاني، التصوف الحقيقي – حسب الرواية كما ادعى- هو النزول الى الاسواق وليس الاعتصام بالجبال، الإسلام جاء لأهل الأسواق وأهل الجبال على حدٍ سواء. المسافة الامنة ولهذا ، وعلى مدى صفحات الرواية التي تجاوزت 300 صفحة، فقد انشغل الكاتب بهذه العلاقة الشائكة والاشكالية بين الصوفي – المثقف في ذلك الوقت- وبين القصر الذي يمثل الحكم والسلطة، وتبدأ الرواية بهروب المتصوف البدوي من مكة المكرمة تجنيا لخدمة اميرها، وهو ما اضطر إلى فعله في كل مدينة وصل اليها، اذ كان سرعان ما يصطدم بمصالح القصر ومطامعه واهدافه، فكان الهرب او الانسحاب او الرفض او الادانة هو ديدن المتصوف، في اشارة قوية الى ان المثقف الحقيقي هو الذي يبقى على مسافة آمنة من السلطة بحيث يحتفظ بقلبه وعينيه، وبحيث لا يضطر إلى ان يفقد أهم ما يميزه الا وهو المعرفة والموقف. رواية الصوفي والقصر رواية ناجحة وقوية ، بقدرتها على الاقناع والتبرير، والنسج والرصف ، والربط والابتكار ، برسالتها القوية وفي أدواتها الفنية ايضاً، وبرأيي فهي رواية يجب ان يلتفت اليها باعتبارها رواية رائدة في موضوعها ، وهو ما أشار إليه نقاد اخرون سبقوني في الكتابة عنها. |