نشر بتاريخ: 12/05/2024 ( آخر تحديث: 12/05/2024 الساعة: 09:56 )
كَيْفَ جَرَّنا العالَمُ إِلَى هٰذِهِ الدَرَجَةِ مِنْ الإِذْلالِ وَالاِنْحِطاطِ العَقْلِيِّ؟، أَوْصَلَنا إِلَى نُقْطَةٍ مِنْ الاِسْوِدادِ الدامِسِ، أَسْقَطَنا فِي وادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، أَعْمَى عَلَى أَعْيُنِنا حَتَّى ضاعَ الحَقُّ بَيْنَ أَطْيافِ الباطِلِ، أَذاقَنا مُرَّ جُوعٍ قَرْقَعَتْ لَهُ البَطْن، أَوْ تُذَلَّلَ لَهُ العَقْل، أَوْ أَصابَ النَفْسَ بالِعَتاه، أَيّامٌ ذِي مَسْغَبَةٍ تَمُرُّ كَأَنَّهُ لا شِيَةَ فِيها.
جُوعُ الكَرامَةِ:
قَبائِحُ الضَرْمِ تُضْرِمُ النارَ فِي جَوْهَرِ الإِنْسانِيَّةِ، أَنْ تُفْقَدَ مَشاعِرَ قَصْيَّة تَجْعَلُ لِأَحَدِهِمْ رِفْعَةً وَمَكانَةً، وَما أَنْ تَلْبَثَ حَتَّى زالَتْ، فَتَساوَى الإِنْسانُ مَعَ الثِيرانِ، ضَياع كَرامَتِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ تَعْنِي أَنْ يَعِيشَ تَحْتَ ذُلِّ مَنْ فَوْقه، هٰذا وَإِنْ عاشَ حَتَّى!.
"الكَرامَةُ لا تُطْلَبْ، بَلْ تُنْتَزَعْ"، نُسِجَتْ عَلَى لِسانٍ رَفَضَ الخُضُوعِ لِأَوامِرَ أَرِسْتُقْراطِيَّةٍ عُلْوِيَّةٍ، فَقَدْ عَلِمَ أَنْ سَيَأْتِي زَمَنٌ سَيَشْحَذُ فِيهِ الناسُ طَلَباً لِكَرامَةٍ تَرْفَعُهُمْ قَدْراً، عِوَضاً عَنْ اِنْتِزاعِها بِقُوَّةِ ذِراعِ أَيْدِيهِمْ أَوْ بَناتِ أَفْكارِهِمْ.
جُوعُ الفَقْرِ:
لا بارَكَ اللّٰهُ فِي والٍ حَكَمَ بَلَداً بِغَيْرِ حَقٍّ،
قِيل: "نَوْمُ الظالِمِ عِبادَة"، صَدَقَتْ فَما سَبَتَ طاغٍ إِلّا وَقَدْ اِرْتَحْنا مِنْ اِسْتِبْدادِهِ، أُولٰئِكَ هُمْ مَنْ يَنْعُمُونَ بِالراحَةِ، عَلَى أَسرّةٍ مِنْ حَرِيرٍ، ذَوُي بِطْنة مُتَدَلِّيَةٌ، تَلَهَّوْا عَنْ حُكْمِ البِلادِ، يَسْمَعُونَ قَرْقَعَة جَوْفِ الجَوْعَى وَالعَطْشَى، ثُمَّ يُوَلُّوا الأَدْبارَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوها، يُشاهِدُونَ بِأَعْيُنِهِم الفارِغَةِ قَرْقَفَة جَسَدِ مَنْ لَمْ يَجِدْ كِساءً يُوارِي بِهِ جِلْدَهُ، وَقَدْ آكَلَ البُكاءُ بَصَرَهُ، وَلا يُحَرِّكُونَ أَكْتافَهُمْ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ لِتَغْطِيَتِهِمْ مِنْ البَرْدِ، أَنُنادِي وا مُعْتَصِماهُ؟ مَنْ سَيَسْمَعُنا؟، وَايْمُ اللّٰهِ ما سَنَجِدُ مُعْتَصِماً مِنْ بَيْنِهِمْ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْهُمْ مَنْ تَنَكَّرَ بِلِباسِ رَعِيَّتِهِ لِيُفَتِّشَ عَمَّنْ لا مَأْوَى لَهُ، أَوْ عَمَّنْ طَهى الحِجارَةَ طَعاماً لِأَطْفالِهِ، بِئْسًا لَكُمْ مِنْ قَوْمٍ اشْتَرَوْا حَياةَ الدُنْيا بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَنَسُوْا أَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى حاكِمٍ لا يَظْلِمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ فَتِيلاً.
جُوعُ النَفْسِ وَالرُوحِ:
يَتَحَوَّلُ الإِنْسانُ مِنْ مَخْلُوقٍ مَحْمُودٍ إِلَى وَحْشٍ مِنْ وُحُوشِ البَرارِي عِنْدَما يَفْقِدُ ما يَسُدُّ جُوعَ رُوحِهِ، أَنْ تَسْتَبْدِلَ الكَرَمَ وَالقَناعَةَ بِالطَمَعِ وَالجَشَعِ، هٰذِهِ هِيَ أَرْذَلُ الصِفاتِ بِذاتِ عَيْنِها، كَيْفَ لِإِنْسانٍ أَنْ يُرِيدَ لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؟!، أَلَيْسَ كُلُّنا سَواسِيَةً كَأَسْنانِ المِشْطِ؟.
مَرَضٌ نَفْسِيٌّ يُصِيبُ مَنْ تَرَبَّى عَلَى عِبادَةِ نَفْسِهِ وَمالِهِ وَمُمْتَلَكاتِهِ، مِن الأَمْراضِ الَّتِي يَصْعُبُ عَلَيْنا القَضاء عَلَيْها، فِي هٰذِهِ الدُنْيا تَسْبَحُ أَرْواحٌ لا تَرَى إِلّا نَفْسَها، خُلِقَتْ جائِعَةً وَلَوْ مَلَكَتْ جِبالاً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، قُلُوبُهُمْ خاوِيَةٌ مِنْ أَحاسِيسِ الإِنْسانِيَّةِ، كَالحِجارَةِ أَوْ أَشَدِّ قَسْوَةً، لا يَقِفُ الطَمَعُ عِنْدَ حَدٍّ ما، بَلْ يَصِلُ إِلَى أَبْعَدِ الحُدُودِ، لا يَحْمِدُونَ رَبَّهُمْ، بَلْ يَطْمَعُونَ بِالمَزِيدِ لِأَنْفُسِهِمْ.
لَنْ يَنْتَهِيَ الجُوعُ الرُوحِيُّ أَبَدًا، فَالأَرْواحُ الَّتِي خُلِقَتْ جائِعَةً سَتَظَلُّ هٰكَذا إِلَى أَنْ يُسْأَلُوا عَنْها، فَيَكُونَ جَوابُهُمْ: رَبّنا أَرْجَعْنا نَعْمَلُ صالِحًا نَذْكُرُ فِيهِ غَيْرَنا، أَرْجعنا لِنُآثِرَ أَخانا عَلَى أَنْفُسِنا.
هذهِ هِي القُوى الّتي تَحْكُمُ البَشَريّة، فَتُحَرِّكُنا حَسْبَ ما تُريد، تُذِلّ عَزيزَ النَفسِ ، وَتُعزُّ الذَّليل، تُشْبِعُ بَطْنَ الأكْتَم، وتُجوّع السَغبان، وَجَبَ عَلينا أنْ نُكافِح في حَياةٍ لا تَكلّ ولا تَمل مِن دَعكِنا، أنّى لنا أن نحيا بحياة كريمة سوية؟..