|
هل عشنا أولمبياد «الخيار والفقوس»؟
نشر بتاريخ: 15/08/2024 ( آخر تحديث: 15/08/2024 الساعة: 09:41 )
بقلم: د. صبري صيدم
فاجأتنا فرنسا بما قدمته من عرض افتتاحي لأولمبياد باريس 2024، ليس لما احتواه ذلك العرض من لوحات متنوعة، بل لقرارها تجسيد «العشاء الأخير» للسيد المسيح بصورة استفزت ملايين البشر حول العالم، لما تضمنه ذلك العرض من مشاهد لم تعجب الملايين من البشر.
لكن فرنسا سارعت للرد على جحافل منتقديها قائلة بأنها تلتصق التصاقاً متيناً بحرية الرأي التي نص عليها الدستور الفرنسي. لكن حرية الرأي هذه يبدو أنها تعطلت عند الحجاب أو غطاء الرأس عند الكثيرين من السيدات المسلمات، بصورة جعلت من الحريات الفرنسية كما المقولة العربية الشهيرة «خيار وفقوس».
منع الفرنسيات المحجبات من المشاركة في الأولمبياد، والتطاول على الأنبياء والذات الإلهية مسموح ويقع في خانة «الخيار» بينما المظاهر الدينية المسلمة المسؤولة تحديداً، تقع في خانة «الفقوس». «فقوس» الأولمبياد لهذا العام جاء مخالفاً لـ»خيار» فرنسا، خاصة مع فوز العديد من السيدات بميداليات مختلفة ممن يرتدين غطاء الرأس، بل يحمل البعض منهن جنسيات أجنبية متنوعة وبصورة مشرفة، عكست تحللاً من القوالب الجاهزة التي تكاثرت وتعاظمت باتجاه الانتقاص من براعة النساء في التمّيز والإبداع بعيداً عن عرقهن ولون جلدهن ومشاربهن العقائدية.
ولعل مشهد اللاعبات المشاركات المحجبات في ألعاب القوى، ومنها الجري والحواجز، أو اللواتي شاركن في كرة الطائرة الساحلية، وغيرها من الألعاب المتعددة، قد أثار حفيظة فرنسا التي لم تستطع منعهن من المشاركة بفعل التزامها بشروط التنظيم والاستضافة، لكنها حتما منعت العديد من الرياضيات المحجبات الفرنسيات الجنسية من المشاركة في منافسات متعددة ما لم يوافقن على إزالة الحجاب. إن تجزيء مساحات الحرية لا يجعل من ممارسي ذلك أحراراً، بل يوقعهم في أتون العنصرية والانتقائية والتيه. فحرية الناس في ممارسة معتقداتها أمر كفلته الأديان السماوية إلى حين أن شكّل التطرف الديني مساحة ذرائعية لتطبيق سياسة «الخيار والفقوس»، موقف تقاطع مع انتقاد العديد من المؤسسات الدولية، كمنظمة العدل الدولية والجمعيات العالمية والفرنسية لانتقائية الحريات الفرنسية.
فرنسا الأمس التي استعمرت جزءا مهماً من العالم، خاصة العالم العربي، ومارست الاضطهاد والعبودية بأبشع أشكالها، وزودت إسرائيل بالتكنولوجيا النووية، ومارست الاختبارات النووية القاتلة في عرض المحيطات وغيرها من الفظائع؛ يجب أن تختلف فرنسا اليوم عنها، فرنسا اليوم التي نقدر إنما ننتظر منها أن تسارع الخطى نحو تجسيد معاني الحرية الحقيقية وتحقيق أحلام الشعوب المظلومة، بالاستقلال والازدهار والرفعة، ليكون الاعتراف بفلسطين على رأس خطواتها، كيف لا وهي التي آزرت فلسطين في عدة محافل، وحملت جسد الراحل الشهيد أبو عمار على أكتاف جنودها وودعته بمراسم مهيبة، زرعت في وجداننا كفلسطينيين تقديراً واحتراماً كبيرين لفرنسا اليوم.
لقد قيل ما قيل في الألعاب الأولمبية سلباً كان أم إيجاباً، إلا أن لوحة «العشاء الأخير» وما أثير حولها من جدال، إضافة إلى موضوع الرياضيات المحجبات، قضايا يجب أن تشكل مجتمعات فرصة لمراجعة الذات، والنظر في تغّير الخريطة العرقية للمجتمع الفرنسي الذي بات العرب والمسلمون والمسيحيون الشرقيون يشكلون شريحة مهمة من النسيج السكاني الداخلي، وهو ما يستوجب مراجعة معاني الحريات، فهل لفرنسا أن تراجع ذاتها أم ستبقى الأمور في مساحات «الخيار والفقوس»؟ ننتظر ونرى.
|