|
طريق التحرير تبدأ من تحرير العقول من شيطنة الآخر
نشر بتاريخ: 09/09/2024 ( آخر تحديث: 09/09/2024 الساعة: 15:49 )
برهان السعدي الرأي والرأي الآخر ظاهرة ملازمة للوجود البشري، ومنهاجية التعامل معه يعكس الفلسفة والثقافة والقيم التي تسود المجتمع، بعيدا عن بريق الكلمات، وطلاوة الشعارات، وما يمتلكه مطلقها من وسائل قوة. وهناك علاقية طردية بين شيطنة الغير وبين التعصب والجهل والادعاء بالأفضلية على الآخر. ظاهرة الاختلاف والتعدد هي الأصل، لأن العكس يفترض وجوب طواف الآخر حول قدسية مواقفه، وبالتالي تنشأ الصنمية، التي تشكل خطرا على المجتمعات أكثر من عبادة أصنام الحجارة والتماثيل التي سادت قبيل بعثة الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. فالناس عموما لا يمكن تجريدهم من عقولهم ليساقوا بنظرة أو تلويح عصا، ولا يمكن الجمع بين اتخاذ موقف بوعي وبين الانسياق تحت دعاوى كثيرة. والتسلط على الرأي، بأدوات الإخضاع، نهج قديم جديد، ولولا ذلك، لما كانت ضرورة لحديث نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم بأن أفضل الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر. فالتسلط، ومصادرة حق الغير بإبداء الرأي، وسيلة مأثورة تباعاً منذ العصور القديمة، للحفاظ على السطوة والسلطان، مما يستوجب محاربة الأقلام والألسن المخالفة، خوفا من تصدع الرعية بالتفافها حول من يملك النفوذ. وكلما عم الجهل وانتشر الفساد كلما شكل السلطان كعبة للناس ومن حوله أصنام تشكل وسيطا لتلقي عبادة الناس له، فيكون العامة من الناس موالين، وهم بمثابة السحّيج بمصطلح اليوم، وأما من يختلف مع نهج السلطان، يتم تكفيره وإنزال أشد العقوبات به. وهذا ليس حصرا على المجتمعات العربية والإسلامية، إنما على جميع الأمم في الدول الحديثة المعاصرة، والدول في العصور الوسطى وما قبلها. والأمثلة كثيرة في هذا السياق. فالدول التي تدعي أنها مع الحريات، وتحارب دول ما يسمى العالم الثالث لمعاداتها لحريات الأفراد، نجد أنها تمارس القمع والتنكيل ويصل الأمر أحيانا إلى القتل والاغتيالات بحق من يخالف نهجها، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واحة الحريات ومبعثها. والدول العربية نسخة معتقة عما يحدث في مجتمعات ودول العالم، والمهم جدا تدارك الأمر في فلسطين لخصوصية واقعها وتركيبتها، حيث الأعداء كثيرون، بدعوى دعمهم دولة الكيان في دفاعها عن أمنها ووجودها. والضحية من تلك المعادلة الاستعمارية تحت شعارات زائفة وكاذبة هو الشعب الفلسطيني، الذي يعيش الظلم والقهر بسبب احتلال بريطانيا لفلسطين منذ بداية القرن الماضي، وخيانتها الأمانة بانتدابها لفلسطين من قبل عصبة الأمم، فمكنت عصابات الصهاينة من احتلال جزء هام من فلسطين، ثم مارست دولة الاحتلال غطرستها وفظاعة وحشيتها بدعم بريطانيا، وبعدها الولايات المتحدة، التي أصبحت السيد المطلق في العالم، فكانوا السبب المتواصل بدعم حكومة الاحتلال وجسمها الاستيطاني المكون من شذاذ الآفاق الذين تخلصوا من عفنهم وقذارة ممارساتهم الموجعة لمجتمعاتهم بحكم عنصريتهم، فتم شحنهم ليتغذوا على روايات توراتية تلمودية كاذبة بأن فلسطين بلد اللبن والعسل أعدها الرب لهم ليسكنوها. ورغم التقدم العلمي والتقني والنهوض المدني والعمراني، إلا أن الخرافة التلمودية ما زالت تستقطبهم. أمام جشع الدول الاستعمارية، والتي تسعى لإعادة سيطرتها بطريقة الاستعمار القديم، واحتلال بلدان الغير، فكأن الشكل الامبريالي لا يحقق شأفة حقدهم ونهمهم الشغوف صوب ثروات الشعوب. وأما الاحتلال الغاصب الذي يمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، لا بد من استنهاض الهمم ووحدة قوى الشعب الفلسطيني على برنامج الحد الأدنى من اللقاء السياسي. لكن لا يمكن تحقيق لقاء وحدوي على أي برنامج سياسي حتى لو شكّل نقطة وفاق بين قوى الشعب الفلسطيني، لأنه منقسم بين قوى حزبية وفصائلية متعددة، ولغة الحوار بينهم هي لغة الطرشان، كون شيطنة الغير تمارس نهجا أضحى سمة ملازمة في رفض الآخر. فماكينات القوى الفلسطينية ناجحة في تحشيد أعضائها ومواليها حول شعارات شيطنة الغير، ورغم ذلك، فإنها غير قادرة على تحشيد أنصارها وجماهيرها وأبناء شعبها على قضايا أخذت مستوى القدسية في ضمير الشعب الفلسطيني ووجدانه كقضية الأسرى التي لم نجد غير عشرات المتضامنين مع الأسرى في جميع المدن الفلسطينية مع كل وقفة أسبوعية لصالح الحركة الأسيرة التي تنتهك حقوقها وكرامتها. فالمؤيد للسلطة الفلسطينية، أو لحركة فتح، يعتبر أن ممارسات حركة حماس، وخطوتها في السابع من تشرين أول هي مغامرة ومقامرة في أحسن الأحوال، وتخدم أجندة إقليمية، وما تشهده الساحة الفلسطينية خاصة قطاع غزة من قتل وإبادة وتدمير منهجي سببه الحقيقي تصرفات حماس وفرديتها وخضوعها كأداة بيد إيران تحديدا. وفي المقابل نجد أن أعضاء حماس والموالين لها، وكل من لا يلتقي مع السلطة الفلسطينية، سواء مع أدائها أو شخوصها، يعتبر كل ما يصدر عنها خيانة وتفريط، وأكثر من ذلك، يشيطن كل مركباتها وأدواتها، ويصل الأمر لدى كثيرين بالمناداة بقتل أفراد الأمن في الأجهزة الفلسطينية، أو رفع السيف في مواجهتها. وهذا التفكير وهذا النهج مدمر لكل شعبنا الفلسطيني وقضيته العادلة. وكلا النهجين يرفع من درجة الخصومة الحزبية أو السياسية إلى درجة العداء الرئيسي. والبعض، إن لم نقل كثيرين يعتبرون الانقضاض على هذا الخصم ضرورة وطنية أو واجبا دينيا، ويدلل ذلك على حماقة في التفكير، ويعمل على ترسيخ الاحتلال، ويجعل الاحتلال يعيش في راحة وترف الوقت في مساعدته في تكثيف أجهزته الأمنية والإعلامية خططها لاشتداد وطأة الحالة. وأمام الحالة، إن جميع جلسات الحوار بين الخصمين لا تتعدى ذر الرماد في العيون، ولن تكون وحدة لقيادة الشعب الفلسطيني، أو وحدة الموقف الفلسطيني في ظل هذا النهج العدمي الذي يرسخ حالة العداء بين أبناء الشعب الواحد، ويرفع الغطاء عن عدو يتوغل بالدم الفلسطيني، بل في كل شيء يحمل حياة للشعب الفلسطيني. من يعتقد أن الدولة الفلسطينية تقام بجهود دبلوماسية وبإرادة أمريكية أو أوروبية هو واهم، ويطيح بأسباب القوة اللازمة لتقيق ذلك في حاويات قمامة الاحتلال، ومن يعتقد أن المقاومة دون وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة الموقف واللقاء على الحد الأدنى من ورقة سياسية جامعة يكون عبثيا، ويقدم الشعب قرابين دون جدوى في مسيرة التحرر الوطني والخلاص من الاحتلال. والبحث عن مواقف لتعزز شيطنة الأخر كما هو حاصل، يبقي الباب مفتوحا أمام مجنزرات الاحتلال لتدوس على جماجم أطفالنا والفتية من أبناء شعبنا. واللوم هنا لا يكون على قيادة النهجين، لأن كلا منهما يريد إزاحة خصمه من طريقه، لكن اللوم على المثقفين والمفكرين ورجال الدين، الذين ارتضوا أن يكونوا أدوات لصالح هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي اختاروا مواقعهم بين سحيج ورديح، وهذا الدور لا يليق بمن يحترم ذاته وفكره ووطنه وشعبه. فنصرة الحزب أو الجهة التي تمثل أفرادها لا يكون بشيطنة الآخر، إنما بالبحث عن نقاط الاتفاق والالتقاء. والاتفاق والاختلاف له فلسفة يتقنها من كرس مسيرته لخدمة شعبه ووطنه، فإن تم الاتفاق مع الآخر، لا يعني أنه أصبح إلهاً أو نسخة طبق الأصل، وأنه تلاشت جميع نقاط الخلاف أو الاختلاف، وإن حصل الخلاف، فلا يعني أنه لا وجود لنقاط الاتفاق، وأن هذا الآخر أصبح شيطانا لا بد من وضع كل الصفات السيئة فيه، مع ضرورة تحطيمه. وبالتالي لن يحرر حزب أو جزء من الشعب وطنه والآخرون في موقف معادٍ أو محايد، ولن يصل شعب إلى النصر دون وحدة قواه الوطنية، لتكون في صف واحد لمواجهة عدوها المركزي. أما رفع درجة الخصومة أو العدو الثانوي إلى درجة العدو المركزي فهو جهل وحماقة تصل حد الخيانة. لتكن هذه المقالة دعوة للكتاب والمفكرين والمثقفين بأن يأخذوا دورهم، وينأون عن دور لا يليق بهم مهما كانت الدعاوى والمبررات، فخدمة الحزب أو الجهة التي ينضوي الفرد في إطارها يكون بمعرفة معنى حديث الرسول محمد عليه الصلاة والسلام "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".
|