|
ألمانيا بين العُزلة والعُقدة!
نشر بتاريخ: 05/10/2024 ( آخر تحديث: 05/10/2024 الساعة: 13:49 )
لم تكن شعوب المنطقة تنظر لألمانيا نظرة سلبية كما عليه الحال في هذه الأيام، كان الناس في الماضي يَضربون المَثل بالماكينة الألمانية، ويحرصون على شرائها، ويتباهون باقتنائها، أما الآن، كأنَّ كلَّ شيء تغيّر أو في طريقه إلى أن يتغير، فما صُنع في ألمانيا، بما في ذلك السياراتالمتينة، بدأ يتعرض للمقاطعة، كما هو حال المنتجات الأميركية، والماركات العالمية التي أبدت شركاتها الأم مواقف داعمة للدولة التي تمارس الاحتلال. على مدار عقود من الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ظلت ألمانيا، أو هكذا تهيء لنا، تحرص على قدر ما من التوازن في سياستها، رغم ما تصفه بمسؤوليتها التاريخية عمّا حصل ليهود أوروبا في فترة الحكم النازي، وبالتالي عن أمن إسرائيل وحقها في الوجود، من دون أي اعتبار للكيفية التي أقيمت بها دولة إسرائيل، وعلى حساب مَنْ. وعليه، كان للدبلوماسية الألمانية في الكثير من مراحل الصراع دورا مؤثرا في الوصول إلى تسويات، وما كان لها أن تنجح لولا الحد الأدنى من الثقة التي حظيت بها من الأطراف المتصارعة في المنطقة، لكن ومنذ السابع من تشرين الأول- اكتوبر 2023، اختارت الحكومة الألمانية أن تعلب تارة دور الداعم لإسرائيل، وطوراً دور المتفرج -الذي ربما يخجل من ماضيه- على حرب أقل ما يقال عنها إنها حرب إبادة جماعية، وهو الأمر الذي أفقدها مصداقيتها ربما ليس في الشرق الأوسط فحسب. فألمانيا اليوم متهمة رسميا في محكمة العدل الدولية بتسهيل ارتكاب حرب إبادة بحق الفلسطينيين بناء على الدعوة التي رفعتها نيكاراغوا وقدمت ما لديها من دلائل تدعم دعواها. ومع مرور عام على أبشع انحدار للإنسانية، منذ الحرب العالمية الثانية، واستمرار تعرض شعب بأسره للإبادة تقتيلا وتهجيرا وتجويعا وحرمانا من الدواء والرعاية الصحية والمياه الصالحة للشرب، يمكن القول الآن إن ألمانيا تستشعر عزلتها بسبب مواقف حكومتها ووسائل إعلامها، ومع ذلك لا تزال ألمانيا الرسمية تتبنى سياسات غير متوازنة أو حتى منحازة، على الأقل حتى كتابة هذه السطور!. كان الموقف الألماني سلبيا للغاية، وساهم في إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، خصوصا وأنه تسبب بشل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وحال دون اتخاذها قرارات تنحاز فيها للقيم الإنسانية الأوروبية والعالمية، وأحبط الدور الجماعي المؤثر للاتحاد الذي يتخذ قراراته بالتوافق وعلى مدار أسبوع كامل، استضافت وزارة الخارجية الألمانية 17 صحفيا عربيا من قادة الرأي في مجتمعاتهم، وقد كان كاتب هذه السطور من بينهم، للمشاركة في برنامح "حوار مع العالم العربي"، وتضمن لقاءات مع مفاصل صنع القرار في الوزارة ذاتها، وفي البرلمان الاتحادي، والمجتمع المدني، وعدد من المؤسسات الصحفية. ولا أجازف إن قلت، انطلاقا من محصلة تلك النقاشات، إن ألمانيا باتت تستشعر عزلتها في المنطقة. كانت النقاشات صعبة ومتوترة في كثير من الأحيان مع محاولة المسؤولين الألمان حصر الصراع بأحداث السابع من اكتوبر 2023، وكأن التاريخ بدأ في ذلك اليوم، مع ضرورة الإشارة إلى وجود تفاوت في المواقف بين مسؤول وآخر، وبين مؤسسة وأخرى، ولكن القاسم المشترك بين الجميع كان محاولة التنكر لحقيقة أن ما يجري على مدار عام في قطاع غزة، هو إبادة جماعية، وضعت ألمانيا نفسها بسياساتها المعلنة، وباستمرارها تزويد إسرائيل بالسلاح،في قفص الاتهام. رصد الوفد الإعلامي العربي تحريضا على زيارته من شخصيات متطرفة، غردت على منصة (أكس) مدعية أن وزيرة الخارجية الألمانية تستضيف 17 "معاديا للسامية من كارهي إسرائيل" على مأدبة عشاء على نفقة دافعي الضرائب الألمان، الأمر الذي يفضح تنامي الخطاب العنصري والشعبوي وبشكل مفتعل، ليس في ألمانيا فحسب، إنما في عدد من الدول الغربية. يستخدم الساسة الألمان، القوالب الجاهزة، في وصف جريمة القرن في قطاع غزة، بالقول إن هناك أشياء فظيعة تحدث، ويتبنى بعضهم المزاعم الإسرائيلية كما هي مثل القول: إن حركة حماس تستخدم المدارس والمستشفيات لأغراض عسكرية رغم الشواهد الكثيرة عن بطلان هذه الادعاءات. وحتى على افتراض أنها صحيحة يتجاهل هؤلاء حقيقة أن القانون الدولي الإنساني لا يجيز قتل المدنين في كل الحالات، فكيف يتم مع سبق الإصرار قتل الأطفال والنساء وهم نيام في مراكز الإيواء التي أعلنت القوة القائمة بالاحتلال أنها مناطق آمنة؟. أما عن التناقض الصارخ في المواقف بين ما يجري في أوكرانيا وجرائم الحرب في قطاع غزة، فمن القوالب الجاهزة للرد على هذا السؤال، يكون برفض المقارنة بين الحالتين على اعتبار أن روسيا اعتدت على دولة ذات سيادة بينما اندلعت الحرب في قطاع غزة بعد ان هاجمت حماس اسرائيل يوم السابع من اكتوبر، وهو تسطيح وخفة ورعونة مدروسة لتبرير ازداوجية المعايير. وفي البرلمان.. المواقف ذاتها، نظرة أحادية للصراع، مع الإقرار أن حكومة إسرائيل يمينية متطرفة، وانتهى الاجتماع مع النواب بطريقة غير ودية عند طرح الفكرة التالية: "طالما أن ألمانيا تصر على التنكر للآثار التدميرية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتستمر في تغطية سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف، وتحرص هي والولايات المتحدة على إبقاء إسرائيل خارج دائرة المساءلة الدولية، وتواصل تزويدها بالسلاح، فإنها بذلك تساهم في تعريض أمن اليهود في إسرائيل والعالم للخطر (...) إن اليمين الفاشي وبنظر كثير من الإسرائليين أنفسهم بات يمثل خطرا على وجود دولة إسرائيل، كما أن أقطاب هذا اليمين يكتسبون شعبيتهم من السياسات الخاطئة للولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما من الدول الغربية في دعايته أمام جمهوره بأنه يستطيع أن ينفذ سياسته في الأراضي المحتلة دون أن يكون هناك ردود فعل دولية تتناسب وخطورة ما يجري على الأرض من خطوات متسارعة لحسم الصراع، وعندما كانت ساسية ألمانيا متوازنة تجاه الصراع في زمن المستشار الأسبق غيرهارد شرودر كان اليمين الفاشي على هامش المجتمع في إسرائيل، وهو الحاكم اليوم، وبذلك فإن السياسة الألمانية الحالية لا يمكن أن تكون تعبيرا عن الالتزام بأمن اليهود، بل العكس هو الصحيح تضر بالشعب الإسرائيلي وتعرضه للخطر (...) وطالما أن هناك شعبا فلسطينيا لا يريد أن يستسلم أو أن يغادر أرضه كما أثبتت عقود الصراع فإن ضمان وجود إسرائيل وأمن اليهود يتحقق من خلال قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وإن كل البدائل لهذا المسار لن تؤدي إلا لمزيد من الاستنزاف وازهاق الأرواح من الجانبين". في المؤسسات الصحفية التي زارها الوفد الإعلامي العربي، يمكن استنتاج الفروقات داخل المجتمع الألماني بين صحفي عمل لعقود في المهنة، ويُقر بوجود مقص رقيب في عقل الصحفيين الألمان، وبين صحفية تقول إن اليهود ضحايا للإبادة الجماعية وبالتالي لا يمكن لإسرائيل أن ترتكب إبادة جماعية بحق شعب آخر!. وقد دار حوار صريح، رغم إدعاء المحررين في المؤسسات الألمانية الذين التقوا مع زملائهم العرب، أن سياساتهم التحريرية متوازنة وهو ما لم يقبله الوفد العربي وقدّم أدلة واضحة على الانحياز بما في ذلك نشر أخبار كاذبة في بعض وسائل الإعلام الألمانية دون التراجع عنها عندما تكشفت الحقائق. ورغم الصورة المحبطة يمكن تلمس وجود مواقف متوازنة في المجتمع المدني الألماني، وبدا واضحا للوفد الإعلامي العربية انحياز بعض رموز المجتمع المدني للقيم وليس للاعتبارات السياسية، ويرى هؤلاء أن الكوكب يواجه تحديات متعاظمة أبرزها آثار الاحتباس الحراري الأمر الذي يتطلب دون إبطاء تسوية الصراعات الدولية، وتوجيه الطاقات والابتكارات نحو الحد من آثار الاحترار التي ستطال الجميع. إن السياسة التي في طريقها إلى أن تقود إلى عزلة ألمانيا في العالم العربي، تجعل في الوقت نفسه التحديات الداخلية التي تواجه البلاد أكثر تعقيدا، ويمكن تلمس المخاوف المتصاعدة في كل مكان من تنامي شعبية اليمين المتطرف ممثلا بحزب (AFD) [البديل من أجل ألمانيا] الذي يتبنى مواقف معادية للمهاجرين والمواطنين الألمان من أصول مهاجرة، ويشكلون اليوم ما لا يقل عن 20 % من المجتمع الألماني، وتصل شعبية هذا الحزب في بعض المقاطعات إلى 25 % من أصوات الناخبين، وهو يتبنى أفكارا تهدد بحرق البلاد، إذا ما وصل إلى الحكم، والكلام هنا للسيد عبد الصمد اليزيدي الأمين العام للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، كما أن المنافسة السياسية بين الأحزاب أدت إلى اتخاذ بعض القرارات التي توصف بالشعبوية مثل رفع الحد الأدنى للأجور وصولا لـ 12.41يورو للساعة الواحدة، الأمر الذي ساعد الفئات الضعيفة على مواجهة آثار التضخم، ولكنه في المقابل أدى إلى رفع تكاليف الإنتاج وحدّ من تنافسية المنتج الألماني، وأصبحت ألمانيا اليوم تستورد الكثير من المنتجات بسبب ارتفاع تكاليف انتاجها محليا. يعوّل الفلسطيني ويدعمه في ذلك أشقاؤه من شعوب المنطقة على موقف منصف يرتكز إلى حقائق تاريخية وميدانية من ألمانيا لإنهاء معاناته وتحقيق طموحاته في دولة ذات سيادة، ويدرك في الوقت نفسه أن ذلك حلما بعيد المنال في ضوء اختلال موازين القوى وقوة نفوذ اللوبيات الداعمة لإسرائيل على الساسة الغربيين بشكل عام، وعقدة الذنب عند الألمان على وجه الخصوص، ولكنه لن يقبل من ألمانيا بأقل من سياسة متوازنة، تكون أساساً للحل وتساهم في خلق سلام واستقرار، وليست داعمة لتعميق الاحتلال وإدامة الصراع في المنطقة.
|