|
النرجسية، ومرآة الذات المهشمة
نشر بتاريخ: 21/12/2024 ( آخر تحديث: 21/12/2024 الساعة: 15:04 )
ظهر مفهوم النرجسية مؤخرا بشكل متزايد كواحدة من أكثر السمات النفسية تأثيرًا في علاقاتنا الاجتماعية وسلوكنا اليومي، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي الذي يبدو فيها الاحتفاء بالأنا مظهرا شائعا، وحيث تنطلق الأحكام والتجاوزات بشكل مبالغ فيه، يسلط هذا المقال الضوء على النرجسية بشكل أكثر عمقا للوقوف على حقيقتها، متى تبقى في الحدود الطبيعية ومتى تأخذ حكما بالاضطراب النفسي. النرجسية (Narcissism) تلك السمة المرتبطة بتضخيم الذات والطلب الدائم للاستحسان والاستعلاء على الآخرين والتعجرف، هي في مفهومها الأولي كما عند )جاك لاكان( -الطبيب والمحلل النفسي- تأتي منذ "مرحلة المرآة" والتي أطلقها على الأطفال ما بين 6-18 شهرا، إذ يبدأ بالتعرف على صورته في المرآة ويفهمها على أنها تمثل ذاته كانعكاس خارجي وبحاجة إلى التأكيد والتفعيل من قبل الآخرين. تلك النرجسية التي تصنع لصاحبها ذلك النوع من التضخيم والأهمية توقفنا للتساؤل، هل هي بشكل عام محدودة لأغراض الظهور والتفوق وتؤخذ بأشكالها الإيجابية كقوة دافعة، أم هي نمط مستحوذ على الشخصية تعكس عليها مزيداً من الغرور والأنانية والتلاعب بالآخرين بشكل اضطراب نفسي يؤدي إلى تفكك المجتمع، وقد يودي بالنرجسي إلى الهلاك، كما في أسطورة الأمير نرسيس -المغرور المتعجرف- والذي اندهش بجماله حين انحنى ليشرب من ماء البحيرة إذ رأى نفسه في انعكاس مائها ووقع في حب صورته ولم يستطع مغادرتها حتى ضعف ومات ونبتت مكانه زهرة النرجس. في وصف الاضطراب وفي توصيف اضطراب الشخصية النرجسية، تعد الميزة الأساسية– كما ورد في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس DSM-5- وجود نمط من "العظمة"، والحاجة إلى الإعجاب، والافتقار إلى التعاطف، إذ يظهر لدى الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب شعور مبالغ فيه بأهمية الذات والذي قد يظهر على شكل إحساس مبالغ فيه وغير واقعي بالتفوق أو القدرة أو القيمة يرافقه احتياج عالي للحصول على إعجاب الآخرين بشكل مستمر، مع شعور عالي بالاستحقاق وتوقعات غير معقولة بأنهم يستحقون معاملة تفضيلية بشكل خاص. يبالغ النرجسيون في تقدير قدراتهم وإلى تضخيم إنجازاتهم مما يجعلهم يظهرون بمظهر المتكبرين، وغالباً ما يأتي ضمنياً أثناء المبالغة في إنجازاتهم؛ التقليل من قيمة مساهمات الآخرين، مشغولون كذلك بأوهام النجاح والتفوق والبراعة والجمال والحب المثالي. يفتقر الأشخاص الذين يعانون من الاضطراب بالعموم إلى التعاطف ولا يمتلكون نزعة للتعرف والتفاعل مع رغبات ومشاعر الآخرين، ويعد الجمع بين الشعور العالي بالاستحقاق مع نقص فهم الآخرين والحساسية تجاههم إلى استغلالهم سواء بشكل واع أو غير واع، من المتوقع أن تكون صداقاتهم وعلاقاتهم الرومنسية لأغراض تخص أهدافهم أو تعزيزاً لتقدير ذواتهم، وغالباً ما يستولون على امتيازات وموارد خاصة يعتقدون أنهم يستحقونها، وإن منهم من يستغل الآخرين بشكل متعمد عاطفياً، اجتماعياً، فكرياً أو مالياً لتحقيق مكاسب خاصة لهم.. وقد ينتاب النرجسيون شعور أنه لا يمكن أن يفهمهم إلا الأشخاص المميزون وذو المكانة العالية وأن عليهم فقط الارتباط بهم، وهم قد ينسبون صفات إيجابية مبالغ بها للأشخاص الذين يرتبطون بهم، وتعزز ثقتهم بأنفسهم بالقيمة المثالية التي يخصصونها لهم، يصرون على وجود الأشخاص من "الطبقة العليا" من حولهم، أو الانتماء إلى أفضل المؤسسات. يميل الأشخاص الذين يعانون من الاضطراب لأن يكونوا حسودين للآخرين أو يعتقدون أن الآخرين يحسدونهم، وقد يقللون بشدة من قيمة مساهمات الآخرين خاصة إذا تلقى الآخرون الثناء والمديح أمامهم، يتصرفون تصرفات متعجرفة متعالية وغالباً ما يظهرون مواقف تحتقر الآخرين وتتعالى عليهم، حساسون جداً للانتقاد وللفشل والخسارة وإن ذلك من المحتمل أحياناً أن يؤدي إلى مظهر من الانسحاب الاجتماعي الذي يخفي وراءه شعور بالعظمة، أما من حيث كفاءتهم وأدائهم الوظيفي قد يأخذ احدى الصورتين، إما كفاءة وأداء عالي مع نجاح مهني واجتماعي، بينما يعاني آخرون من مستويات مختلفة من العجز في الأداء الوظيفي. هذا الوصف الموسع والهائل والمستند على DSM-5 والذي كان مقصوداً لتوضيح كم من الصفات والسلوكيات "النرجسية" ممكن تعداده. ولكن يبقى السؤال متى يتحول من سمات شخصية نمتلك منها جميعنا إلى اضطراب بحاجة إلى تدخل تخصصي من مقدمي خدمات الصحة النفسية بمستوياتها؟ إن هذا السؤال يجيب عنه أشخاص مؤهلون في مجال التقييم والتشخيص النفسي معتمدين على خبراتهم وعلى تعدد أدواتهم وأساليبهم في التقييم والتشخيص، لفهم أنماط التفكير والمشاعر ودراسة طبيعة العلاقات الاجتماعية والسلوكيات في المواقف الحياتية المختلفة والبيئة التي نشأ فيها الشخص، كذلك فإن استبعاد اضطرابات أخرى قد تتداخل أعراضها مع أعراض النرجسية أمر أساسي، كل ذلك يؤكد ويشدد على أهمية التشخيص التخصصي لأجل إجراء التدخلات النفسية المناسبة لمساعدة الفرد على التكيف وتجاوز الصعوبات التي يمر بها، فإن النرجسية غالباً ما تلقي بنتائجها السلبية وانعكاساتها على حياة الفرد الاجتماعية والأسرية والزواجية والمهنية، وقد تسبب معاناة واضحة. من الجدير بالذكر أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية لا يدركون مدى اضطرابهم؛ فسماتهم هذه تكون متجذرة بالشخصية كنمط ثابت من الصعب تغييره، وهم لا يتوجهون عادة لطلب المساعدة المتخصصة من تلقاء أنفسهم، فهم إما يذهبون مدفوعون من العائلة والأصدقاء كنتيجة لتوتر العلاقات أو نتيجة سلوكاتهم المندفعة والمتعجرفة، أو يتوجهون لطلب المساعدة بسبب اضطرابات أخرى مصاحبة كالاكتئاب والتوتر والإدمان على مواد، ومن خلال التقييم النفسي يظهر لديهم اضطراب الشخصية النرجسية. تقليل الأعراض النرجسية لا يوجد علاج دوائي مخصص لاضطراب الشخصية النرجسية، ولكن يمكن تناول أدوية لحالات مرافقة كالاكتئاب والقلق، أما عن التدخلات النفسية اللادوائية في فيمكن أن تأخذ عدة أشكال ويكون الهدف منها غالباً تحقيق تغييرات إيجابية في سلوكات وتصورات الفرد ومساعدته على بناء علاقات صحية وعيش حياة بصحة نفسية متوازنة من خلال عدة جوانب نذكر الأهم منها: 1- تعزيز وعي الفرد بأنماط التفكير والسلوك التي لها علاقة بالشخصية النرجسية. 2- تعديل التفكير المبالغ فيه حول الذات. 3- تقليل الاعتماد على التأكيد الخارجي لتعزيز تقدير الذات. 4- تنظيم المشاعر والتحكم في الغضب والإحباط. 6- تطوير استراتيجيات صحية للتعامل مع الانتقادات والفشل وعدم ربط القيمة الشخصية بالنقد. 7- تعزيز قدرتهم على بناء العلاقات والحفاظ عليها بدلا من التلاعب والاستغلال والنزوع إلى السيطرة. 8- تنمية التعاطف مع مشاعر الآخرين واحتياجاتهم. ولتحقيق ذلك يمكن اتباع عدة أساليب إرشادية يتم اختيارها بناء على الحالة، طبيعة الأعراض وشدتها، تأثيرها على الحياة اليومية للشخص، الأهداف المرجو تحقيقها وطبيعة العلاقة بين المرشد والمسترشد مع مراعاة مدى الاستعداد عند الفرد للمضي قدما في العملية الإرشادية، فالنرجسيون غالباً ينكرون مشكلاتهم ومن الصعب لديهم الاعتراف بها. أما الأساليب العلاجية فتتنوع غالبا بين العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، العلاج الجدلي السلوكي (DBT)، أو العلاج النفسي الديناميكي، وإما بشكل فردي ينحصر بين المرشد والمسترشد، أو جماعي من خلال مجموعة من المسترشدين تحت إشراف المرشد، أو من خلال الأسرة "إرشاد أسري". و في الختام يبقى التساؤل.. متى تنبئ هذه الذات عن هشاشة تستدعي اهتماماً إذا ما تكسرت مرآتها وصارت مصدراً لجراح الآخرين وجرح أنفسنا وعلاقاتنا.. صار لا بد من طلب المساعدة ... وإذا ما كان الآخر يعاني من النرجسية المضطربة تبقى لنا الخيارات هل نتعاطف مع هذا الشخص أم نبتعد عنه؟ وكم من الممكن أن يساعدنا فهم النرجسية في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي بين الحفاظ على تعاطفنا الإنساني مع هذا الشخص وبين حماية أنفسنا من الأذى العاطفي فإن ذلك التوازن يظل ضرورة لحياة أكثر سعادة واستقراراً. |