من بشار بن برد الى من يهمه الأمر
نشر بتاريخ: 21/12/2024 ( آخر تحديث: 21/12/2024 الساعة: 17:55 )
الأمل، "نحن مسكونون بالأمل"، هكذا هتف يوما الكاتب العربي السوري سعد الله ونوس. وبالطبع، الأمل الجميل يحتاج الفعل أيضا.
ثمة أمل في موقف الدول العربية مما حدث في شمال سوريا والذي انتقل الى جهات أخر. يبدو أن العرب يصحون ولو تدريجيا؛ "فيبدو أن اللطمات التي ضربت وجوههم ساهمت في اليقظة، بدليتها.
لسنوات مضت، منذ الانتفاضة الثانية، وتحديدا آخر عقدين، كنت ألحّ دوما على البقاء الفلسطيني، والآن صرت ألح على البقاء العربي. من الصعب أن نفصل جوهريا بين البقائين، وإن بدا ذلك سهلا من حيث الشكل، في نظرة سطحية تنطلق من الخلاص الفردي-الذاتي. والأخير هو أسوأ أنواع الخلاص، لأنه لا يؤدي حقيقية لا الى ذلك الخلاص الفردي المنشود، إلا لفترة محدودة، يفرح بها الذي يظن، ثم يحزن بعدها طويلا.
خلاص فئوي فقي ظل عدم الخلاص الوطني، وخلاص وطني-قطري، في ظل عدم الخلاص القومي، ماذا يعني ذلك؟
كل ذي بصر وبصيرة، كان يدرك بسهولة ما ينتظره: هو، وأسرته، وفئته، وبلده. كل كان يرى ما ينتظر قطره والأقطار الأخرى؛ فإذا ضمن قطر أمنا ما، فهل سيأمن على ممتلكاته وموارده.
أما الخواجا، فشغلنا ببعضنا، فانشغلنا طائعين مختارين أو مجبرين، ولكن يبدو أن الجلوس على كرسي الحكم لم يعد مغريا في ظل الاستلاب.
اليوم، أكثر من أي يوم مضى، صار اللعب على المكشوف، بشكل فجّ يمثله رموز الاستعمار. التهديد بالسلاح الفتاك المدمر، وهذا بالطبع لا يخلق علاقات طبيعية أبدا.
جاءت الحرب على غزة لتؤكد لنا، حكاما ومحكومين، بأننا مهددون. والمأساة أن حالة الترهيب والترغيب اختفت لصالح الترهيب فقط، فما نحصله جراء السكون والإذعان هو الفتات من كل شيء. لذلك آن الأوان لغضبة عربية تسترجع الهيبة.
لم ندرس شاعرنا العربيّ بشار بن برد كما ينبغي، فقد درسناه من باب تاريخ الأدب من جهة، وكممثل للشعراء المولدين من جهة أخرى، وليس هذا فقط، بل رحنا نقرأ عن حياته وفكره وأسلوب عيشه، فتأثرنا سلبا بما درسنا، لكن لحسن الحظ، ومبكرا من حياتنا، فقد وجدنا من يضعنا على الطريق السليم في النظرة للشعر والأدب، تقوم على التركيز على الإبداع نفسه، لكن ذلك لم يدفعنا للزهد بالعوامل الأخرى وسياق حياة الكاتب وعصره، ومنها فكره النقدي لما كان سائدا من ثقافة، فما كان من هؤلاء إلا التحريض عليه، وتلك مسألة أخرى. لكن دوما كنت أتذكر هذه القصيدة، مكررا في كثير من الظروف عجز بيت الشعر الذي ابتدأ به قصيدة، تعدّ من عيون شعر القرن الثاني للهجرة:
ولا سالم عما قليل بسالم
وفي عمرنا، الذي هو نزر قليل من عمر الزمان، تعلما معنى المصير، والخلاص، والوحدة، والنور والعلم ومفاهيم أخرى، صرنا ننعت بالرومانسيين حين نتحدث عنها، ولكن الحقيقة يوميا تثبت أن ذلك واقع جدا لا كلام حالم.
ترى من الذي سلمنا منا؟ من سلما دما لم يسلم مالا، ومن سلم هذا أو ذلك لم يسلم من خدش الكرامة وتهشيمها.
بدأ بقصيدته:
أبا مُسلِمٍ ما طُولُ عَيشٍ بِدائِمِ وَلا سالِمٌ عَمّا قَليلٍ بِسالِمِ
عَلى المَلِكِ الجَبّارِ يَقتَحِمُ الرَدى وَيَصرَعُهُ في المَأزِقِ المُتَلاحِمِ
كَأَنَّكَ لَم تَسمَع بِقَتلِ مُتَوَّجٍ عَظيمٍ وَلَم تَسمَع بِفَتكِ الأَعاجِمِ
تَقَسَّمَ كِسرى رَهطُهُ بِسُيوفِهِم وَأَمسى أَبو العَبّاسِ أَحلامَ نائِمِ
وَقَد كانَ لا يَخشى اِنقِلابَ مَكيدَةٍ عَلَيهِ وَلا جَريَ النُحوسِ الأَشائِمِ
مُقيماً عَلى اللَذّاتِ حَتّى بَدَت لَهُ وُجوهُ المَنايا حاسِراتِ العَمائِمِ
والمعنى واضح، فيما وصل الحال إليه عن ذلك الصراع في أيام القصيدة، وصولا إلى بداية الصحو واليقظة:
فَما زِلتَ حَتّى اِستَنصَرَ الدينُ أَهلَهُ عَلَيكَ فَعادوا بِالسُيوفِ الصَوارِمِ
فَرُم وَزَراً يُنجيكَ يا اِبنَ وَشيكَةٍ فَلستَ بِناجٍ مِن مُضيمٍ وَضائِمِ
وهنا نجده، كأنه يستخلص الحكمة، وهو الشاعر الموصوف بحب الحكمة التي استقاها من ثقافته العربية التي عاشها، واطلاعه على الفلسفة المعاصرة التي تداولت:
إِذا بَلَغَ الرَأيُ المَشورَةَ فَاِستَعِن بِرأيِ نَصيحٍ أَو نَصيحَةِ حازِمِ
وَلا تَجعَلِ الشُورى عَلَيكَ غَضاضَةً مَكانُ الخَوافي قُوَّةٌ لِلقَوادِمِ
وَما خَيرُ كَفٍّ أَمسَكَ الغُلُّ أُختَها وَما خَيرُ سَيفٍ لَم يُؤَيَّد بِقائِمِ
ولا ندري في القسم الأخير من القصيدة، أكان يستخلص الحكمة أم الأمر وبث الروح:
وَخَلِّ الهُوَينا لِلضَعيفِ وَلا تَكُن نَؤوماً فَإِنَّ الحَزمَ لَيسَ بِنائِمِ
وَحارِب إِذا لَم تُعطَ إِلّا ظُلامَةً شَبا الحَربِ خَيرٌ مِن قَبولُ المَظالِمِ
وَأَدنِ عَلى القُربى المُقرِّبَ نَفسَهُ وَلا تُشهِدِ الشُورى اِمرَأً غَيرَ كاتِمِ
فَإِنَّكَ لا تَستَطرِدُ الهَمَّ بِالمُنى وَلا تَبلُغُ العَليا بِغَيرِ المَكارِمِ
لربما ليس بشار بن برد الوحيد قبل 1200 عاما هو من تحدث عن تلك الروح، فقبله كان، وبعده، وما زال من يكرر الجوهر الذي يمكن أن نتناساه دهرا، ولكننا دوما نعود إليه، وهذا ما لا يرده الطامع بنا وبأرضنا وثرواتنا.
لذلك كانت الحكمة هي مصدر الشعوب في الأمثال: أنا وأخوي ع ابن عمي، وأنا وابن عمي ع الغريب"، فهل نحن في بدايات صحو عربي، يمكن أن يتسارع؟
بالرغم من معيقات النهضة العربية سياسيا واقتصاديا، وما يتبع ذلك من تجليات في مجالات حياتنا العربية، وبالرغم من التهديدات الحقيقية لنا كأقطار عربية، ونظم، فإننا قادرون من خلال الحكمة والذكاء أن نعبر معا طريق الخلاص، حتى ليس فقط أن يتوقف شلال الدم في فلسطين ولبنان، بل حتى لا يتكرر في بلادنا العربية ما حدث، فما زالت جروح الأقطار العربية رطبة، فلم تكد تخفّ قليلا في سوريا، حتى عادت من جديد، والمأساة أن العدو يجند مجموعات من بني جلدتنا ليعيقوا تحررنا، وهم الذي سيكون مآلهم الحريق.
للإرادة سحر لا يقاوم، وللوحدة أيضا، ليس هناك من قدر نستلم له بأننا عاجزون لا نستطيع الفعل. وما دامت العلاقات الدولية تقوم على المصالح، فلدينا ما نفعله، حرصا على مصالحنا.
نحن مسكونون بالأمل الذي بثه فينا سعد الله ونوس، ومسكونون بهمومنا واهتماماتنا، والطريق واضح. والآن نواري كل ما يتصل بالخلاص الفردي التراب، فإن لم نفعل، فلا سلم عما قليل بسالم.
الاحتلال وحلفاؤه يزرعون اليأس فينا بأننا عاجزون، وبأن الاحتلال محميّ، كأن ذلك قدر.
نذر التغيير بدأت، عربيا، وأمميا، حيث يصعب على المؤسسات الدولية قبول نهاية القيم والإنسانية على أيدي الاحتلال. والله يرحم "أبو عمار" حين كان يردد الآية الكريمة: "إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا"، لم يكن حالما حين قال: الضوء في نهاية النفق، ولم يكن حالما حين قال: سيرفع شبل أو زهرة علم فلسطين (علم العروبة طبعا) على أسوار القدس ومساجد القدس وكنائس القدس.
[email protected]