وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

"في ممر الفئران"

نشر بتاريخ: 22/12/2024 ( آخر تحديث: 22/12/2024 الساعة: 13:25 )
"في ممر الفئران"

في ممر الفئران، رواية أحمد خالد توفيق، تأخذ القارئ إلى عالم مظلم، حيث تتحقق أسوأ كوابيس الإنسان، ليجد نفسه في مواجهة مع طغاة وقوى مظلمة لا تترك مجالًا للأمل. يتناول توفيق في روايته العديد من المواضيع، لكن يمكن القول إن الفكرة الأساسية تكمن في الصراع الداخلي بين الفرد والمجتمع، وفي مواجهة الإنسان للأزمات التي يخلقها محيطه. ومن خلال هذه الرواية، يقدم توفيق إسقاطات عميقة على الواقع العربي، وبشكل خاص على سوريا، وكذلك على الدين.

تبدأ الرواية بالشرقاوي، الرجل الأربعيني الذي يعاني من قسوة الحياة اليومية وتحدياتها. شخصية الشرقاوي تمثل ملايين الناس في العالم العربي الذين يواجهون ضغوطًا نفسية ومجتمعية. يعبر توفيق عن هذا الواقع الحزين والمظلم الذي يعيش فيه المواطن العربي، ويظهره من خلال الشرقاوي الذي يعاني من الحياة الزوجية الصعبة، وضغوط العمل، والمجتمع الذي يفرض عليه تحديات لا حصر لها. هذا يعكس واقعنا العربي حيث الكثيرون يشعرون بالضياع ويبحثون عن الهروب من العالم المحيط بهم، إما عن طريق المخدرات أو الهروب العقلي كما حصل مع الشرقاوي الذي دخل في غيبوبة طويلة.

لكن الأمر الأكثر إثارة في الرواية هو التحول الذي يحدث عندما يدخل الشرقاوي إلى عالم الظلام. هذا العالم الذي أصبح خاليًا من النور، مكان يسيطر عليه القمع والظلم. هذه الفكرة تنطبق تمامًا على الوضع العربي الراهن، حيث تنتشر الظلمات في المجتمعات التي يعاني فيها الناس من الفقر والجهل والاستبداد. لا يكاد يوجد أفق للخلاص، فالقمع ليس فقط سياسيًا، بل ثقافيًا ودينيًا أيضًا.

في ظل هذه البيئة المظلمة، يظهر القومندان كحاكم مستبد، يفرض ديكتاتوريته على الجميع. ورغم الظلام المحيط، فإن بعض الشخصيات، مثل النورانيين، تحاول أن تجد ضوءًا في هذا الظلام، ساعية إلى إعادة الأمل، مثلما سعى الشرقاوي وأتباعه في محاولة استعادة النور. هذه الصراعات بين الطغاة والثوار هي صراع يتكرر في التاريخ العربي، حيث يتبنى بعض الأفراد الطغيان، ويقف آخرون في وجهه دفاعًا عن الحرية والكرامة.

لكن كما يظهر في الرواية، فإن الثوار ليسوا دائمًا أبطالًا. الشرقاوي نفسه، في تحوله داخل عالم الظلام، يختار الانضمام إلى الطغاة بدلًا من الثورة ضدهم. هذه النقلة الرمزية هي تسليط للضوء على التناقضات العميقة التي يعيشها الفرد العربي، حيث يمكن للفرد في لحظة ضعف أن يتحول إلى جزء من النظام الذي كان يرفضه سابقًا، وهذا يشبه تحول بعض الشخصيات في الواقع العربي إلى أدوات للنظام المستبد، في وقت كانت فيه الثورة على الظلم هي الخيار الوحيد.

ما يميز رواية "في ممر الفئران" هو أسلوبها الرمزي، الذي يربط بين الظلام الجسدي والظلام الاجتماعي والسياسي. وهذا يشير إلى أن الفقر والجهل والقمع هي مظاهر ظلامية تعيشها المجتمعات العربية، وهذه الظلمات ليست نتيجة لحروب مباشرة، بل هي حصاد سياسات استبدادية طويلة. بل وأكثر من ذلك، يعكس هذا الظلام في الرواية فشل الأنظمة العربية في بناء نظام اجتماعي يعترف بالحقوق الإنسانية، ويحارب الفقر والفساد.

أما الجانب الديني في الرواية، فيظهر من خلال شخصية النورانيين، الذين يمثلون الباحثين عن النور، وهو تجسيد لمفهوم الحقيقة أو الإيمان في ظل عالم مظلم مليء بالشكوك والتحديات. تجسد هذه الرمزية أيضًا صراعًا دينيًا مع محاولات القوى الظلامية لتحريف الدين واستخدامه كأداة للسيطرة، كما يحدث في بعض المجتمعات العربية حيث يتم تحريف المفاهيم الدينية لخدمة مصالح السلطة. لكن في النهاية، يجد الشخصيات أنفسهم في مواجهة مع حقيقة أن البحث عن النور ليس مجرد مسألة دينية، بل هو صراع اجتماعي وسياسي.

يمكن قراءة الرواية كدعوة للتفكير في كيفية تفاعل الأفراد مع الظلم وكيف يمكن للبشر أن يتحولوا إلى أعداء لأنفسهم في محاولة للهروب من واقعهم. في النهاية، يقدم توفيق للقارئ صورة قاتمة عن العالم، لكنه يظل يطرح تساؤلات حيوية حول طبيعة الإنسان والمجتمع. هل نعيش حقًا في عالم مظلم لا أمل فيه؟ أم أن هناك دائمًا مساحة للنور، حتى في أحلك اللحظات؟

رواية "في ممر الفئران" لا تقدم فقط نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا، بل تطرح تساؤلات فلسفية ودينية عميقة حول الإنسان، وقدرته على التغيير في عالم يسوده الظلم. من خلال تسليط الضوء على التناقضات بين النور والظلام، تُحاكي الرواية الواقع العربي، وتحديدًا الواقع السوري، وتكشف عن الصراعات الداخلية بين الأمل والواقع المرير. إن الرسالة التي يحملها أحمد خالد توفيق من خلال هذه الرواية تتجاوز كونها مجرد عمل خيالي، لتصبح دعوة للتفكير في مصير الإنسان في مواجهة الظلم والقهر، وفي كيفية التعامل مع القوة والسلطة في ظل عالم مليء بالتناقضات.