|
انبعاث الفينيق ودموع فرح الناجين في غزة .
نشر بتاريخ: 16/01/2025 ( آخر تحديث: 16/01/2025 الساعة: 17:35 )
مروان أميل طوباسي .
غزة دائماً كانت مدرسة تُبدع في اختراع المعاني للكلمات ، تصنع لغتها الخاصة التي تنبثق من عمق معاناتها وتجربتها الطويلة مع الأحتلال والطغاة . منذ البدايات ، وحين أن وطأت أقدام الأحتلال القذرة أرضها ، كانت غزة تسقط دون ان تستسلم في كل مرة كما اليوم ايضا ، وما قبل ذلك حين هاجم الإستعماري البريطاني "اللنبي" غزة عام ١٩١٧ مرورا بمرحلة نشأة الفدائيين نواة جيش التحرير الفلسطيني زمن الشهيد كمال عدوان واخوانه ، وفي زمن معين بسيسو وعبد الرحمن عوض اللّه ورفاقهم لأسقاط مؤامرة التوطين وما تبعها حين تعاظمت مقاومة قوات التحرير الشعبية التي أنضمت الى "فتح" لاحقا بقيادة زياد الحسيني وأبو علي شاهين ، وبعدها ما سطرته اسطورة جيفارا غزة في سبعينات القرن الماضي حين قاد مقاومة الجبهة الشعبية هنالك ، فكانت غزة يحكمها الفدائين ليلاً دون ان تُهزم ، فكانت غزة تقاوم دوما وتنتصر من اجل كرامتها وعزتها .
كانت غزة تقدم تعريفات جديدة للمقاومة والصمود والبقاء ، وتُبدع بالأشكال المختلفة منها فانطلقت لاحقا شرارة انتفاضتنا الكبرى وصعدت قوى المقاومة تُعيد صياغة معاني المقاومة الشعبية والفداء ، وتكتب دروساً في الكرامة والنضال بدماء أبنائها من كافة الشهداء فكان من بينهم الشيخ الجليل أحمد ياسين ليتبعه بعدها الرئيس المؤسس الخالد أبا عمٌار ، الذي لا نريد له الابتعاد عنا كما كل الشهداء كلما أبتعد ذلك الماضي الجميل .
واليوم ، تُضيف غزة إلى قاموسها مصطلحاً جديداً هو "فرح الناجين". إنه نوع فريد من الفرح ، ليس كباقي الأفراح . فرح يصنعه مَن نجا من أتون المحرقة ، ومن خدع الموت فبقي حياً . فرح من تحدّى القصف والجوع والبرد، فصمد ونجا ، حتى لو بقيت روحه معلقة ومثقلة بخسارة بيت أو استشهاد حبيب من قوافل الشهداء الذين ذهبوا ليصبحوا نجوم في سماء فلسطين ننتظر عودتهم او لقائهم يوما .
فرح غريب ، مزيج من الحُزن والخوف والألم ، لكنه مع ذلك يحمل شُعلة أمل . فرح يُعبرون فيه ونُعبر نحن معهم عنه بدموع حارقة ، دموع تُخبرنا أن الفرح في غزة ليس إلا شكلاً آخر من الصمود والبقاء ، رسالة تُعلّم العالم معاني جديدة للصبر والإرادة حتى الانتصار .
وكأن غزة ، في لحظة انفراجة الألم ، تُجسد أسطورة طائر الفينيق ، تنهض من تحت الرماد ، تحمل جراحها وتعيد تشكيل نفسها ، تتشبث بالحياة لتنهض من جديد أقوى وأجمل . فالقصة الكنعانية تقول انه عندما يشعر هذا الطائر بدنو أجله يقوم ببناء عش من جذوع الأشجار ويُضرم النار فيها ويطلق لحناً تسمعه جميع مخلوقات الأرض والآلهة ومن ثم يحترق وبعد ان يبرد رماده ينبعث طائر فينيق جديد من الرماد ليكون أقوى .
فقد سمعت كل شعوب الكون صوت غزة عند الأحتراق ، فوقفت متضامنة متكاثفة مع شعبنا وبادانات غير مسبوقة لدولة الأحتلال وأشكال عزلها ومقاضاة قادتها المجرمين . سيبرُد الرماد وينبعث شعبنا أينما كان من جديد ليكون أكثر حكمة وأكثر أصراراً للوصول الى ما هو غير قابل للتصرف من الحقوق التاريخية والسياسية .
ورغم أن المعركة لم تنتهي بعد وكفاح شعبنا سيستمر بانتباه للمخاطر والتحديات ، فأن غزة في كل مرة تُعيد رسم صورة جديدة للحياة ، لوحةً تزدان بالأمل رغم سواد الجراح ، لتبقى رمزاً خالداً للإرادة التي لا تُقهر الى الأبد مهما حاول طغاة العصر من فنون الشر والظلم بالإبادة والتهجير ، نحو تجسيد حلم شعبنا بالحرية والأستقلال الوطني الديمقراطي في وطن واحد لا نملك سواه . |