|
رأفت صالحة يجسد رسالة الهيئة وروح غزة التي لا تنكسر
نشر بتاريخ: 18/01/2025 ( آخر تحديث: 18/01/2025 الساعة: 22:33 )
د. عمار الدويك&.jpg?_mhk=618b3fb04c8d452f74e11a2fb8cb1bfa42e415f61aeb82a5e6df364311c6b22c25ca9447ed1723ada751e52652961fee' align='center' />
في منتصف ليلة الثلاثاء الماضي، حيث تعصف البرودة بالقلوب قبل الأجساد، وتختنق الأنفاس بين دخان الصواريخ وركام البيوت، ويتعلق في العيون أمل هش بقرب انتهاء الكارثة، انهار منزل جنوب دير البلح بفعل صاروخ كان كافيًا ليمحو عائلة بأكملها من الوجود. ذلك الصاروخ، الذي لا نعرف زنته، كان جزءًا من أكثر من 80 ألف طن من المتفجرات التي أُلقيت على غزة منذ بدء العدوان، على يد جيش يُوصف بـ"الأكثر أخلاقية" في "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". ومن بين الضحايا كان زميلنا رأفت صالحة وجميع أفراد أسرته، الذين لم تمنحهم الحرب أي فرصة للنجاة. رأفت نزح مرتين، فرّ من بيته إلى منزل شقيقته في رفح، ثم إلى منزل استأجره هو وأنسباؤه من عائلة شقورة، ليجدوا جميعا نهايتهم فيه. رأفت كان إنسانًا استثنائيًا بكل معنى الكلمة، مميزًا بأخلاقه الرفيعة واتزانه، ودفء شخصيته الذي جعل كل من عرفه أو احتك به يبادله المحبة والاحترام. كان يحمل في داخله حزنًا عميقًا لم أفهم سببه، وكأنّه كان يعي شيئًا يفوق إدراك الآخرين. رغم قساوة الحرب وظروفها التي تهز أقوى النفوس، لم أسمع منه يومًا كلمة شكوى أو تبرّم. كان صابرًا، كأنّه يجسد صمود أهل غزة في أبهى صوره. قبل أيام قليلة من استشهاده، تحدثنا كعادتنا، كان متفائلًا بشكل استثنائي، يتحدث عن نهاية الحرب وكأنّها على الأبواب، ويرسم أحلامًا لمشاريع مستقبلية كان يأمل أن يحققها. ذلك التفاؤل، الذي اختتم به حديثه، سيظل ذكرى حية تضيف إلى مأساته لمسة من النور الذي كان يحمله في قلبه حتى آخر لحظة. رغم كل الظروف الصعبة والخطرة التي كانت تحيط بغزة تحت وطأة العدوان، كان رأفت صالحة نموذجًا للصمود والعطاء. استمر في العمل دون كلل أو تردد، متوجهًا يوميًا إلى المكتب الصغير الذي استأجرته الهيئة في دير البلح بشكل مؤقت، متحديًا المخاطر والدمار الذي يحيط بكل زاوية من القطاع. هناك، كان يقود فريق الهيئة العامل في الميدان، يوجههم بحكمة، ويحثهم على العمل بلا توقف رغم الظروف القاسية. كان يؤكد دائمًا على أهمية الحفاظ على الأمن الشخصي لكل زميل وزميلة، مشددًا على ضرورة العمل بروح المسؤولية والتضامن. وجوده في المكتب لم يكن مجرد حضور وظيفي، بل كان مصدر إلهام للجميع، حيث كان ينشر روح الأمل والعزيمة في نفوس فريقه. رأفت لم يكن فقط زميلًا؛ كان قائدًا وأخًا وداعمًا لكل من حوله، وجعل من عمله في الهيئة رسالة نبيلة تتجاوز حدود الواجب. الإبادة الجماعية في غزة ليست مجرد أرقام تُسجَّل أو عناوين عابرة في نشرات الأخبار، وليست مصطلحًا جافًا يتداوله القانونيون، بل هي حقيقة دامية اجتاحت الأرواح بلا رحمة ودون استثناء. في كل زاوية من هذا القطاع المحاصر، تتردد حكايات تُجسد حجم المأساة التي يعيشها الناس يوميًا. تعريف "Genocide" في اللغة الإنجليزية يُشير إلى قتل عدد كبير من أفراد جماعة معينة بهدف تدميرها كليًا أو جزئيًا. وفي غزة، لم تكن هذه الجماعة سوى شعب بأكمله، يكافح للبقاء على قيد الحياة تحت وطأة قصف لا يفرق بين بيت آمن ومكتب عمل، بين مسن ضعيف وطفل بريء. هنا، لم تكن الإبادة مجرد عنف عشوائي، بل كانت استهدافًا ممنهجًا لإطفاء نبض الحياة ذاته. كغيرها من مؤسسات الوطن، دفعت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان دفعت ثمنًا باهظًا في هذه الإبادة الجارية. 17 موظفًا، وخمسة مفوضين تطوعوا لخدمة مجتمعهم، لم يسلم أي منهم من الكارثة. جميعهم فقدوا منازلهم، بعضهم نزح خمس مرات أو أكثر. عاشوا في مراكز الإيواء أو خيم النزوح، وفقدوا أحبائهم أمام أعينهم. حسن فقد 12 من افراد اسرته في الشهر الثاني للحرب، بمن فيهم والدته وزوجته وفلذات اكباده مرح وبيسان وعمر، أنس ودّع شقيقتيه، عصام استشهدت والدته ثم شقيقه، وجميل خسر شقيقه وابنة شقيقه وأطفالها، مصطفى ارتقى ابنه البكر باسل، وتقريبا كل موظفي في الهيئة فقد أقارب من الدرجة الأولى او الثانية. هذه ليست مجرد أسماء أو أرقام؛ إنها أرواح نزفت وجراح لن تندمل. مكاتب الهيئة في غزة وخانيونس دُمرت بالكامل. المبنى المكون من سبعة طوابق استُهدف فيه مقر الهيئة بشكل خاص ومباشر. مكتب خانيونس أيضًا سُوي بالأرض، وسيارة الهيئة دُمرت في الأيام الأولى من الحرب. هذا المشهد لم يكن استثناءً، بل كان امتدادًا لمنظومة دمرت كل ما يرمز للحياة والعمل في غزة. بعض موظفي الهيئة تمكنوا من مغادرة غزة إلى مصر بعد أن جمعوا كل ما يملكون لدفع تكاليف خروجهم وعائلاتهم، لكن تلك الرحلة كانت بداية لوجع جديد. التقيت بهم في القاهرة، ورأيت في وجوههم ملامح القهر والمرارة. عيونهم كانت شاخصة نحو غزة، حيث تركوا خلفهم أحبائهم وبيوتهم المدمرة. كان حديثهم يشبه صفحات روايات غسان كنفاني، مليئًا بالوجع والغربة، مع إحساس مؤلم باللجوء الذي لا يرحم. ما حدث للهيئة وموظفيها ليس سوى نموذج صغير لما عاشه أكثر من مليوني فلسطيني في غزة. كل بيت هنا كان له نصيبه من الألم، وكل مؤسسة عاشت قصتها الخاصة من الدمار. الإبادة هنا ليست مجرد مصطلح قانوني؛ إنها واقع يعيشه كل شخص، وكل عائلة، وكل مؤسسة، وكل شارع في غزة. بعد استشهاد رأفت، تواصلت مع أحد الزملاء في غزة لنواسي بعضنا وسط الألم الذي بدا أكبر من الكلمات. قال لي بصوت مشبع بالإصرار: "يجب أن نستمر بالعمل، وبشكل أقوى من أي وقت مضى. كانت كلماته كنبض الحياة وسط السكون الثقيل، استلهمت منها الأمل والعزيمة. شعرت أن ما قاله لا يعبر فقط عن إرادته الشخصية، بل عن روح غزة التي تأبى الانكسار، وعن الغزيين الذين يتطلعون إلى بداية جديدة، حيث يعيدون بناء مدنهم المدمرة بعزيمة لا تلين وإيمان بحقهم في الحياة الكريمة. رغم كل هذا الدمار، غزة لم تُمحَ. شعبها ما زال يقاوم، يحمل جراحه ويمضي. لن تُدفن هذه القصص تحت الركام، ولن تُنسى الأرواح التي ارتقت. غزة ستبقى حية، وصمود أهلها شهادة على جرائم لن تُنسى، وإرادة لن تُقهر. |