![]() |
كيف تُرسم معالم "الاستراتيجيات الأكاديمية" الفعالة؟
نشر بتاريخ: 08/02/2025 ( آخر تحديث: 08/02/2025 الساعة: 16:35 )
![]()
في مقالٍ سابقٍ لي حولَ مفهوم "التخطيط الاستراتيجي" من منظور إداري كان بعنوان: "التخطيط الاستراتيجي بعين الطائر أم بأحلام العصافير؟"؛ والذي تطرقتُ فيه لمفهومِ ذلك النوع من التخطيط بعيدِ المدى، أهميته، أركانه، ومنظورهِ الشُمولي لمُستقبل أي مُنظمة أو مُؤسسة بغضِ النظرِ عن هدفِها، نوعِها، وحجمِها. وإشارتي في حينهِ إلى مدى إدراك قادة تلك المؤسسات للتحرك الديناميكي بمؤسساتهم نحو تحقيق أهدافها المرسومة في ظل المُتغيرات الجَمَّة والمُتسارعة من حولهم. حيثُ كنتُ في حينها قاصداً كُل كلمة في ذلك العنوان؛ كون "التخطيط الاستراتيجي" الفعال مُرتبط بطبيعة تفكير "القادة الاداريين"، ونظْرتِهم الثاقبة للواقع الذي تعيشهُ مُؤسساتهم، ودقةِ تحليلهم لهذا الواقع، وتوقعهم لما هو قادم بنظور (عين الطائر) والذي يرى الجُزء في اطار الكُل مع إدراكهِ للكُل الشُمولي، وليس (بأحلام العصافير) في ساعةٍ من الغفوة، وبساطةٍ في التفكير. لو تصفحتَ عزيزي القارئ الكريم خُطط استراتيجية لبعض المؤسسات الأكاديمية والجامعية المرموقة وهُنا أخصُ ذكراً الأكاديميين، والتربويين، وأصحب القرار في مجالاتِ "التعليم والتعلم"، وخاصة مُؤسسات التعليم العالي من جامعاتٍ، وكلياتٍ، ومعاهد، لوجدتَ ببساطة! أن خططها الاستراتيجية عبارةً عن صفحاتٍ معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأحياناً تمتدُ لأصابع اليدِّ الأخرى في تِعدادها، هذا يضعنا في عمليةِ مُقارنة مع الخطط الاستراتيجيةِ للمؤسساتِ الأكاديميةِ العربيةِ والمحليةِ؛ ومن أوجه تلك المُقارنة: خُطط برؤى حالمة لا انعكاس مرئي لواقعها، أهدافها عائمة مُجردة كرسمٍ على ورق لا قياس فعلي فيها لعوامل: (الوقت، الكم والكيف، وحتى الانجاز ..)، ناهيك عن كثرةِ تفاصليها ومُحدداتها من سياساتٍ، واجراءات، ونماذج، وجداول، واحصائيات، ودراسات سابقة وأطر نظرية، إضافة إلى الملاحق، التعداد الورقي الكبير؛ بمعنى آخر خُطط بمنطقٍ تشغيليٍ لا يمتُ للتخطيط الاستراتيجي بأي صِلة تُذكر سوى عنوانها العريض ومُسماها. هذا جعلني أتوجه لتطبيق "الذكاء الاصطناعي" والمعروف باسم (Chat Gpt)، لسؤالهِ: ما هي أهم معالم الاستراتيجيات الجامعية ؟ وإذْ به يُجب: ‘‘ تحديد الرؤية والرسالة، التخطيط الأكاديمي والبحثي، التطوير المُستمر للمنهج التعليمي والكادر البشري، التحسين المُستمر للجودة، التوسع الدولي والشراكات، التركيز على المسؤولية المجتمعية، الابتكار والاستدامة ‘‘. هذهِ الاجابة ببساطة هي الأركان الأساسية لبناء معالم استراتيجية أكاديمية لجامعةٍ أو كُلية في ظلِ واقعها وما تعيش من ظروف في ظلِ احتياجات مُجتمعها، فبعض المؤسسات الأكاديمية والعالمية المرموقة على سبيل المثال لا الحصر لا تتجاوز وثيقة خُطتها "الاستراتيجية" الخمسة صفحات كحدٍ أقصى، وبالتالي لا يُقاس عمق التفكير الاستراتيجي بكثرةِ الصفحات وتفاصيلها. وعليه فإن الكثير من قادةِ العمل الأكاديمي للجامعات، والكُليات، والمعاهد، والذين يعملون في مُستويات إدارية مُتقدمة خاصةً المُستوى الاداري الأول، والمسؤولِ عن عملية "التخطيط الاستراتيجي" تلك المبنية وفق المعالم سابقة الذكر، لا يُدركون ذلك الفرق بين أنواع التخطيط، وأدوات كُل نوعٍ تبعاً للمستوى التنظيمي وهي: أولاً: التخطيط الاستراتيجي والمُتمثل بدور الإدارة العُليا: والذي يُفترض به أن يكون ثاقب النظرة، واسع الأُفق، راسماً للخطوطِ العريضة ومعالم المسير إلى المُستقبل، ثانياً: التخطيط التكتيكي والمُتمثل بدور الإدارةِ الوسطى: والذي يتم على مُستوى الوحدات الإدارية والأكاديمية هُنا، والذي يجب عليه أن يعي بفهم دور تلك الوحدات، وتحركها المُتكامل والمُتوازن تجاه تحقيق تلك الاستراتيجية، وأما ثالثاً: فالتخطيط التشغيلي المُتمثل بدور الإدارة التنفيذية الدُنيا، والذي يجب أن يُحقق المطلوب من أعمالٍ إداريةٍ روتينية تفصيلية (مهام ونشاطات أكاديمية)، منوطة بتلك الوحدات والأقسام الادارية سعياً منه لتحقيق أهداف المُستوى الأعلى منه. ولأجل تقريب صورة ما أتحدث عنه: نفترض على سبيل المثال جُملة "نحو جامعة حديثة وعالمية" كرؤية لمؤسسة تعليمية جامعية، هذا يتطلب من تلك المؤسسة الجامعية نظراً لوجود كلمة (عالمية) وجود فُروع عالمية لتلك الجامعة، كذلك يفترض تواجدها المُؤثر والفاعل في الاتحادات الأكاديمية العالمية، كما يُفترض بأن يؤمها الطلبة والأكاديميين الزائرين من الأجانب، كذلك يجبْ أن تسري فيها معايير الجودة الأكاديمية العالمية، وعلى أقلِ تقدير أن تكون مُصنفة عالمياً ضمن أفضل 50 جامعة دولية ... إلخ. ناهيك عن الخلط بين مفهوم "الرؤية والرسالة" في صياغة الخُطط الاستراتيجية الجامعية، حيثُ يجب أن لا تتجاوز رؤية المُؤسسة خمسة كلمات، وكُلما كان عدد الكلمات أكبر كُلما ضعفت تلك الرؤية، والتي تُمثل في جوهرها ما ترنو المؤسسة إلى تحقيقهِ من طموحاتٍ وأحلامٍ بعيدة المدى تُبقيها في حالة من الصدارة، والاستمرارية، والبذل للوصول النسبي وليس المُطلق لتلك الرؤية، وأما الرسالة: فهي تُعبر عن سبب الوجود والغاية منه؛ فالمؤسسات الأكاديمية سبب وجودها وغايتها التعليم، وأما أدوات الوصول إليه فهي معالم تلك الاستراتيجيات التي وضعتها لذاتها في سبيل بناء مُجتمعاتها. أما بخصوص الأهداف فهي نوعين: أهداف عامة تُمثل غايات المنظمة (الجامعة أو الكلية) أقصد هُنا، وأخرى خاصة تُمثل طريق الوصول لتك الغاية بنوعٍ من التفصيل، فنقول على سبيل المثال: الهدف العام يتمثلُ في التركيز على البحث العلمي النوعي والتطبيقي، وأما الأهداف الخاصة المُرتبطةِ به فتتمثل أولاً: بتطوير أدوات البحث العلمي من وسائل، ومعدات، ومختبرات، ثانياً: صياغة نظام واضح للترقيات الأكاديمية، ثالثاً: إعداد موازنات للبحث والتمويل للمشاريع التطبيقية، رابعاً: بناء قاعدة بيانات بحثية خاصة وربطها بقواعد البيانات البحثية العالمية المرموقة، وأما خامساً: فتعزيز الشركات البحثية المحلية والعالمية ...إلخ، جميعها مُقاسة كماً ونوعاً، ومُجدولة في حدود زمانية ترتبط بمديات التخطيط المُختلفة قصير، ومُتوسط، وطويل الأجل. الخُلاصة إن هذه الأمثلة سابقة الذكر تعدُ من أبجديات صياغة استراتيجيات أكاديمية فاعلة، والتي يجب أن يُدركها جميع القادة الأكاديميين، بحيث تَحُدها على الدوام معايير الجودة الأكاديمية الصارمة، والتي تُركز على القياس الكيفي لا الكمي للمنظومة الأكاديمية برمتها وفي جميع جوانبها من مُدخلاتٍ تعليمية: (جودة اختيار الطلبة، الأكاديميين، البيئة الجامعية، الوسائل والأدوات، المختبرات، المشاغل، والمناهج الخاصة والمعيارية) مُروراً بالعمليات الأكاديمية: (أبحاث علمية، نشاطات أكاديمية منهجية وغير منهجية، تكوين مهني، تشبيك مجتمعي محلي ودولي، مُناخ تعليمي مُحفز) وصولاً إلى مُخرجات تعليمية مرموقة: (خريجون، بناء معرفي ومهاري مُتقدم، بصمة وأثر مجتمعي، حُلول وابتكارات للمجتمع المحلي والدولي ...). وفي الختام إن كلمة "الاستراتيجية" ذات المنشأ العسكري، تتمحور حول التساؤل ب "لماذا"؟ والمتبوعة بعلامة استفهام تفيد بالتفكير الجدي في كل ما هو آتٍ وذات علاقة، فالتساؤل ب لماذا؟ يُمثل دلالة منه على (السببية والغائية) من وجود الأشياء، وكنوع مِنْ وميض الفرض المستمر في الأذهان حول الأشياء ذاتها، هذا الوميض الاستفهامي والمُسمى "بالسيناريو"، يفترض به أن يدور في مُخيلة كل صاحب قرار يعي المعنى الحقيقي "للتخطيط والبناء الاستراتيجي"، في عملية إدارية تُحفزنا وتقودنا للاستمرارية، والديمومة، والبقاء لهذه المؤسسات بأنواعها، بصرف النظر عن أحجامها ونشاطاتها وإن تلونت وإن تعددت، في ظل عالم يفرض عليك ديناميكية التكيف، في مُقابل تناقص الثبات المقوض نحو الضمور والتراجع، وبذلك فإن ما لا تدركه الأبصار لن تُدركه البصائر، يقول الرئيس الأمريكي روزفلت: “التمني يستهلك نفس الطاقة التي يستهلكها التخطيط”، وهذا فعلاً ما نشهده في واقعنا وواقع مؤسساتنا العربية من وهم بالمستقبل، وكأن بنا فقط نضع صور مُشرقة حوله، لغيات الترويج، والتصوير، والتفخيم، والتبجيل، والحقيقة مُرة مَرارةَ العَلقم. *أكاديمي ومُختص في تنمية الموارد البشرية وبناء المؤسسات |