لا تضيعوا البوصلة في فهم الصراع مع الصهيونية
نشر بتاريخ: 15/03/2025 ( آخر تحديث: 15/03/2025 الساعة: 09:02 )
في خضم الصراع الشديد الدائر على أرض فلسطين و محيطها، تنشأ من حين لآخر اختلالات في فهم طبيعة الخصم الذي تواجهه شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.
و بطبيعة الحال فإن الخلل المفاهيمي يؤدي دائما إلى اختلال و تشويش السياسات ، أو إلى الترويج لأفكار مضللة لتبرير الضعف في مواجهة التحديات.
و حتى لا تضيع الرؤية الاستراتيجية، في خضم ردود الأفعال التكتيكية و الانفعالات العابرة و المؤقتة، لا بد من إيضاح القواعد الأساسية التالية لفهم سلوك قادة إسرائيل والحركة الصهيونية عموما.
أولا، إن إسرائيل ليست مجرد كيان طارئ نتيجة ظروف تاريخية معينة، بل هي مشروع استعماري استيطاني إحلالي استند إلى فكرة تلمودية خيالية بأن فلسطين، و الأردن وأجزاء كبيرة من مصر و سوريا و لبنان و العراق وشمال السعودية هي أرض إسرائيل الكبرى التي وعد الله اليهود بها منذ آلاف السنين، رغم أن عددا قليلا منهم لم يعش فيها سوى لفترة زمنية قصيرة. و لا مكان في حدود "إسرائيل الكبرى المتخيلة" للشعب الفلسطيني أو لأي شعوب أخرى.
و هذا المشروع -الفكرة ، هو المرجع الأساس المستقر في دماغ و عقل كل قادة الحركة الصهيونية من يمينها إلى يسارها، إن وجد، و هو الأساس الأيديولوجي لكل السياسات و الممارسات و الحروب الإسرائيلية.
ثانيا، إن تنفيذ الفكرة يخضع لموازين القوى ، و يحتمل حلول ووقفات مرحلية، تضطر خلالها إسرائيل و الحركة الصهيونية لقبولها بحكم موازين القوى القائمة، مثل اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية أو اتفاقيات الهدنة المؤقتة. لكن جميع الوقفات و الاتفاقيات المرحلية لا تلغي بأي حال المشروع الأساس المذكور، بل تخدم الوصول لأهدافه النهائية.
ثالثا، إن المشروع الصهيوني، ومنذ تباشيرانطلاقته المعاصرة الأولى، كان و ما زال مرتبطا بالدول والمشاريع الاستعمارية الغربية التي رأت فيه الحليف الاستراتيجي الطبيعي للسيطرة على شعوب و ثروات المنطقة و الشرق الأوسط عموما و منع تبلور قوة منظمة وموحدة فيها، ورأى فيها مصدر القوة و الإسناد الذي يستحيل بدونه تنفيذ المشروع الصهيوني و تحويله من فكرة إلى واقع.
وقد بدأ التفاعل بين الفكرة الصهيونية و القوى الاستعمارية منذ أيام نابليون بونابرت و حملته على المنطقة، و امتد عبر الغزل مع الإمبراطور الألماني، وحاول حتى مع الدولة العثمانية التي رفضته، لكن أعمق و أقوى التحالفات التي نجحت كان مع الفكر الانجيلي الصهيوني في بريطانيا، وبعد ذلك في الولايات المتحدة، و الذي وجدت فيه الحركة الصهيونية ضالتها و أقوى مصادر الإسناد و الدعم المادي و الفكري و الأيدلوجي لها.
و منذ انطلاقتها استمرت الحركة الصهيونية في أداء دور استعماري و ظيفي لخدمة المصالح الاستعمارية و الامبريالية في المنطقة والعالم. وكانت الذراع الضارب ومخلب الاستعمار البريطاني و الفرنسي في عدوان عام 1956 ضد مصر وضد الثورة الجزائرية، و بعد ذلك عام 1967 لضرب حركة التحرر العربية، و كانت الحليف الأكبر لنظام شاه إيران الديكتاتوري و المدرب لجهاز السافاك القمعي ، وشاركت في اختطاف وتصفيه المناضل المغربي بن بركة، وصارت أقرب حلفاء نظام الأبرتهايد العنصري في جنوب أفريقيا ... و القائمة تطول.
رابعا، رغم أن أجزاء مهمة من الحركة الصهيونية و خصوصا في الثلاثينات و الأربعينات ارتدت لخدمة أغراضها عباءات يسارية، بحكم توازنات القوى العالمية في حينها، وميول فئات يهودية للفكر اليساري بحكم تعرضها للاضطهاد اللاسامي كأقليات في أوروبا، فإن الأيديولوجية الصهيونية بقيت أساسا أيدلوجية دينية أصولية، كما يشكل الفكر الصهيوني التلمودي المتعصب و المتطرف أحد أهم محركات سلوكها في هذه المرحلة ، بل إن الأحزاب الدينية الإسرائيلية المتطرفة أصبحت من أهم عناصر التأثير في السياسات الإسرائيلية و توسعها الاستيطاني و نزعتها العسكرية العدوانية.
خامسا، إن الحركة الصهيونية لم تكن قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل دون كلل على تجنيد و استغلال اليهود في كل العالم و تجند الآن أجزاء واسعة من الإنجيليين المتصهينين خصوصا في الولايات المتحدة و بريطانيا، وتستغل نفوذهم المالي والاقتصادي في التحكم بالانتخابات و نتائجها في الدول الغربية خصوصا، و ليس حصرا، و أبرز الأمثلة على ذلك ما يفعله اللوبي الصهيوني في التأثير على الانتخابات التشريعية و الرئاسية في الولايات المتحدة.
سادسا، مع احتداد الصراع مع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة جرى تحول خطير في الحركة الصهيونية، التي اتسمت أيدلوجيتها دائما ب العنصرية المتطرفة، نحو الفاشية. و لا يمكن تفسير الإبادة الجماعية التي نفذت و تنفذ في قطاع غزة، و مشاريع التطهير العرقي الشامل للشعب الفلسطيني ، وجرائم الحرب الأخرى كالعقوبات الجماعية و التجويع إلا بأنها نتاج فكر و سياسية فاشية خطيرة لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. ويتلائم هذا التحول تماما مع تحولات مشابهة في بلدان غربية أخرى نحو اليمينية العنصرية المتعصبة و الفاشية.
سابعا، إن الاستيطان و التوسع الاستيطاني الجاري في الضفة الغربية ليس ظاهرة عابرة، أو مقتصر على فئة متطرفة، بل هو التطبيق الفعلي لكل المشروع الاستيطاني الذي يكرر في الضفة الغربية بما فيها القدس ما فعله من توسع استيطاني وإعادة هندسة للواقع الجغرافي والديموغرافي في أراضي 1948. وهو يفعل الشئ نفسه في الجولان المحتل و سينفذه في أي بقعة جغرافية يتمكن من احتلالها والسيطرة عليها.
ثامنا، إن الحركة الصهيونية و حكام إسرائيل مستعدون باستمرار لشن أشد و أشرس الهجمات ضد كل من يقاوم مخططهم الأصلي أيا كان شكل المقاومة، مسلحا أو شعبيا أو سلميا أو حتى بالفكر والكلام. وهذه الهجمات تستخدم ليس فقط القوة و العنف المسلح بل و منظومات إعلامية و تحريضية و لوبيات، تأثيرها أقوى في كثير من الأحيان من الأدوات العسكرية، لفرض هيمنة الرواية و السردية الصهيونية للصراع الجاري و لحشد الدعم و التأييد لإسرائيل و الحركة الصهيونية و لقمع القوى و الحراكات المؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني. وتمثل شيطنة الخصم و تشويه صورته ووسمه بالإرهاب أهم أدوات الحملات التي تشن ضد كل من يقاوم المشروع الصهيوني.
و ما نراه اليوم من تحريض و شيطنة لحركة حماس و قوى مقاومة أخرى، وعبر ذلك شيطنة الشعب الفلسطيني بكامله، مجرد نموذج لسلوك تكرر مع قوى أخرى في السابق. و لو رضخت حماس و قبلت مثلا باتفاق أوسلو و اعترفت بإسرائيل وقبلت التعايش مع الاحتلال و الاستيطان سيختلف السلوك الإسرائيلي تجاهها، ولكنه لن يضمن بقائها أو بقاء الشعب الفلسطيني في فلسطين. وقبل حماس كانت حركة فتح و قوى فلسطينية أخرى ومنظمة التحرير توصف بالإرهاب، بل مازالت تصنف بالإرهاب في الكونغرس الأميركي، لأنها كانت تشارك في مقاومة المشروع الصهيوني، و الكل يذكر كيف صار الشهيد الراحل ياسر عرفات عنوانا للهجمات الصهيونية ، رغم موافقته على اتفاق أوسلو ليكتشف لاحقا أنه كان فخا، و كيف صُنف عل أنه الإرهابي الأكبر بعد أن مُنح جائزة نوبل للسلام ، ثم حوصر وعُزل حتى تم اغتياله.
لا مجال هنا للتفصيل أكثر في شرح هذه القواعد الثمانية المذكورة، و لكن لا غنى عن فهمها بعمق و إدراك مضمونها لكل من يريد أن يفهم ، أو يتعامل ، أو يشارك في الصراع الوجودي الدائر في فلسطين والمنطقة.
و ما زالت المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني ، و سلوك كثير من الأطراف الإقليمية، هي الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، التي قالت وفعلت كل ما يمكن فعله ، و نفذت كل ما أمكن تنفيذه من جرائم ، لإيصال رسالتها بأنه لا مكان لحلول وسط مع الشعب الفلسطيني، بل وقضت على كل مشروع في ذلك الاتجاه بما في ذلك اتفاق أوسلو الذي استخدمته مرحليا لتغيير ميزان القوى لصالحها. و رغم أن عنوان الاستراتيجية المعلنة لحكام إسرائيل الحاليين، وكذلك قادة المعارضة الصهيونية، هو حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني وإنهاء وجوده على أرض فلسطين التاريخية.
ويترافق وهم الحل الوسط مع وهم آخر بأن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطا نزيها في الصراع الدائر رغم تأكيدها المتواصل بالأفعال و الأقوال أنها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل. ولا يعني ذلك أن من غير الممكن الاستفادة أحيانا من فجوات و خلافات تكتيكية تظهر من حين لآخر بين إسرائيل و الولايات المتحدة، ولكن ذلك شيْ و اعتبارالولايات المتحدة وسيطا عادلا شيْ آخر.
لا يوجد سوى تفسير واحد للتعلق بالأوهام التي ثبت مرارا عدم صحتها، وهو عدم فهم الواقع في أحسن لأحوال، أو العجز ، أو الخوف، او التقاعس عن التصدي للمهمة التي لا بديل لها في الصراع الدائر ، و هي تبني استراتيجية موحدة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بمواجهة المشروع العدواني الصهيوني، بدل محاولة الاختباء العبثية من مواجهته ومواجهة آثاره المدمرة.