وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

خارطة تحرر التعليم الفلسطيني: البيانات والجودة والسياسات

نشر بتاريخ: 24/04/2025 ( آخر تحديث: 24/04/2025 الساعة: 10:16 )
خارطة تحرر التعليم الفلسطيني: البيانات والجودة والسياسات

تتشكل التجربة التربوية الفلسطينية اليوم عند مفترق طرق حاسم، حيث تتقاطع استحقاقات التحرر الوطني مع ضرورات بناء نظام تعليمي عادل وفعّال، فلا يمكن لمسار تعليمي أن يحمل شعبه نحو ضفاف الحرية والكرامة ما لم تتجذر رؤاه في تربة الواقع، قادرة على الإنصات لآلامه وتطلعاته معاً، إن القراءة النقدية لهذا المشهد لا تتيح مجالاً للحياد أو المداراة، بل تقتضي تبني مقاربة تربوية نابعة من الوعي العميق، مرتكزة إلى بيانات صادقة لا تزيّنها الحسابات الشكلية، وساعية إلى تحقيق جودة تتخطى معايير الإنجاز الكمي نحو إعادة تشكيل الإنسان كذات حرة، وتصوغ السياسات التربوية لا بوصفها استجابات ظرفية، بل بوصفها مشاريع تحرر شاملة، وفي هذا الأفق، يغدو الدمج الخلاق بين الوعي النقدي والخبرة العملية، وتوظيف نظم المعلومات التربوية برؤية يقظة، أساساً لبناء خارطة طريق تتجه صوب تعليم يحرر الوعي، ويعزز الفعل، ويُثبت الإنسان الفلسطيني في قلب مجراه التاريخي لا على هامشه.

أولاً: البيانات التربوية كأداة لتحرير الوعي

البيانات كأداة كشف للواقع لا للتبرير: تُعد البيانات التربوية أداة جوهرية لكشف طبقات الواقع وتحليل تناقضاته، لا وسيلة لتبريره أو تجميله، فهي تتجاوز حدود المؤشرات الكمية الجامدة، لتغدو مرايا عاكسة للتفاوتات البنيوية والاختلالات العميقة المتغلغلة في النسيجين التعليمي والاجتماعي، وبدل أن تُستغل لإعادة إنتاج البنى القائمة أو لمنح الشرعية الخطابية للوضع القائم، تصبح البيانات، حين تُقرأ بعين نقدية، أدوات لفهم علاقات القوة المستترة، وكشف الفجوات الجندرية والجغرافية والاقتصادية التي تتفاقم بفعل الاحتلال وسياسات العزل والحصار، وعندما تُفعّل نظم المعلومات التربوية، مثل EMIS، بروح تحليلية واعية، تتحول من أدوات بيروقراطية صماء إلى نوافذ لفهم الواقع بما هو عليه، وإلى مرتكزات تأسيسية لوعي نقدي قادر على الدفع نحو تحولات تربوية أكثر عدلاً وشمولية.

دمقرطة الوصول إلى البيانات وتمكين المجتمعات المحلية: في السياق الفلسطيني، لا يكفي جمع البيانات وتخزينها في تقارير مغلقة، بل ينبغي أن تصبح ملكاً مشتركاً للمعلمين، والمجتمع المدني، والمجالس المدرسية، لتوسيع دائرة المشاركة الواعية في صناعة القرار التربوي، ومن خلال الورش المجتمعية وتحليل بطاقات الأداء المدرسي مع الأهالي، كما هو الحال في بعض تجارب التعليم المجتمعي، تتحول البيانات إلى بؤر حوارية تولد فهماً جماعياً للحقوق، وتحفز حراكاً مجتمعياً للمطالبة بإصلاحات بنيوية تضمن العدالة التربوية والانصاف الاجتماعي.

ثانياً: الجودة التربوية: من الكم إلى الوعي النوعي

إعادة تعريف الجودة من منظور تحرري: تتحرر الجودة من أسر القياسات الكمية عندما تُفهم كعملية تمكين للمتعلم لإعادة إنتاج عالمه، لا كآلية لتكديس الشهادات والدرجات، فالجودة هنا لا تختزل في مؤشرات الامتثال الرقابي، بل تتمدد إلى معايير تتعلق بقدرة النظام التعليمي على تطوير التفكير النقدي، وتعزيز الحوار، وبناء الفعل التشاركي، حيث يصبح الطالب قادراً على فهم واقعه وتحليله والعمل على تغييره، مما يعيد تعريف الإنسان كمشروع مفتوح على الحرية والمعنى، وبالتالي، ينبغي أن تقاس جودة التعليم الفلسطيني لا بمراتبه في PISA أو TIMSS، بل بمدى تحفيزه للمتعلمين على مساءلة البنى الاجتماعية والسياسية التي يعيشون في ظلها.

الجودة المرتبطة بتكافؤ الفرص وتوزيع الموارد: لا تكتمل معاني الجودة إلا حين تعاد صياغة العلاقة بين التعليم والعدالة الاجتماعية، فالمعرفة التي تُحتكر ضمن نخبة محدودة وتُحجب عن الفئات الهامشية، تفقد وظيفتها التحررية، إن توزيع الموارد والفرص بمعايير المساواة التاريخية يشكل شرطاً تأسيسياً لبناء تعليم يتماهى مع آمال الناس وطموحاتهم لا مع مصالح النخبة، وتصير المدرسة ساحة للنهوض الجماعي، لا مرآة تعكس التفاوتات الطبقية والسياسية، فتغدو المناطق المحاصرة والمهمشة، كالأغوار وغزة، في صلب استراتيجيات الجودة الوطنية، ويغدو توظيف بيانات الجهاز المركزي للإحصاء أداة توجيهية لضخ الاستثمارات التربوية باتجاه هذه المناطق عبر برامج حساسة للسياقات المحلية، تربط التعليم بالاحتياجات اليومية والمقاومة المدنية السلمية.

ثالثاً: السياسات التربوية: من الامتثال إلى الفعل النقدي

السياسات التربوية كأداة تحرر لا إدارة أزمة: تتحرر السياسات التربوية من أسر الاستجابات الظرفية حين تُبنى كرؤية طويلة المدى تستهدف إقامة مقاومة معرفية تعزز الوعي النقدي الجمعي، فالسياسة التربوية الأصيلة لا تدار كرد فعل على الأزمات، بل تنبع من فهم نقدي للبنى الفكرية التي تكبل المجتمع، وتسعى إلى تحرير العقل الجمعي من الهيمنة الثقافية المفروضة عليه، وبذلك تتحول السياسة التعليمية إلى مشروع تغييري عميق لا مجرد آلية لإدارة الأزمات اليومية.

القرار التربوي كفعل تشاركي: يتحول القرار التربوي إلى فعل حي نابض بالحياة حين يشارك في صناعته المعلمون والطلبة وأولياء الأمور وقادة المجتمع المحلي، لا أن يُفرض قسراً من قمم البيروقراطية، وتغدو المدرسة فضاءً ديمقراطياً يمارس فيه الأفراد حقهم في التعبير الحر والمشاركة الفاعلة، مما يعيد صوغ العلاقة بين التعليم والحرية، وتنشأ سياسات نابضة من نبض الميدان، لا من إملاءات الممولين الدوليين ولا اشتراطات السوق.

التجربة المحلية كمصدر للسياسة: تستمد السياسات التربوية الحية شرعيتها من التجربة اليومية التي تنسجها المجتمعات عبر صراعها مع واقعها، وتقدم المراكز المجتمعية لتعليم الكبار والشباب في فلسطين نموذجاً أصيلاً على التلاحم بين التعليم والاحتياجات العميقة للناس، دفاعاً عن الأرض، ومحو الأمية الوظيفية، وصون الهوية الوطنية، فتنبثق من التجربة اليومية حلول تربوية محلية لا وصفات مستوردة، ويعاد تعريف النجاح الأكاديمي ليغدو مرادفاً للمواطنة الفاعلة والمشاركة الواعية، وتتحول المدارس إلى مراكز للوعي الاجتماعي بدلاً من أن تبقى مؤسسات لفرز الأداء الفردي.

رابعاً: التجربة والنقد: أساس لرسم خارطة التحرر التربوي

التجربة الحية كمنبع للمعرفة التربوية: تُشكل التجربة الحية أساسًا لبناء المعرفة التربوية، فهي ليست مجرد تجارب فردية بل هي تفاعل مستمر بين الإنسان وبيئته، وفي السياق الفلسطيني تصبح التجربة اليومية للطلبة تحت الاحتلال، وفي ظل سياسات العزل والإقصاء، مصدراً أساسياً لصياغة مناهج نقدية قادرة على الربط بين الماضي والحاضر، وبدلاً من تدريس التاريخ كحقائق مفصولة عن الواقع يجب إدماج الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال وسياسات الفصل العنصري والأبرتهايد كجزء حيوي من المنهج التعليمي، مما يعزز الوعي الوطني ويطور القدرة على التحليل النقدي، وبهذا الشكل تتحول المدرسة إلى فضاء لاستعادة الذاكرة الجماعية وحماية الهوية الوطنية، حيث تغدو التجربة الحية ركيزة لبناء وعي نقدي مقاوم يُمكّن الأجيال من مواجهة محاولات التزييف والإقصاء ويُعزز ارتباطهم بحقوقهم الثابتة.

النقد كعملية تحرر دائم: يُعَدُّ النَّقدُ فِعلاً غيرَ عابِرٍ، بل مساراً تحرُّرياً دائماً، فإنه ينبغي أن تبقى السياسة التربوية الفلسطينية خاضعة لمراجعة نقدية مستمرة، قائمة على قراءة متجددة للبيانات، وتحليل دوري للنتائج، وتوسيع مساحات الحوار المجتمعي حول اتجاهات التعليم، فيتحول النظام التعليمي إلى كائن حي، يتطور مع تطور الوعي الجمعي وتحولات المجتمع.

ختاماً، يتجلى التحرر التربوي الفلسطيني في بناء نظام تعليمي ينبثق من الواقع وينقده ويسعى إلى تغييره عبر أدوات علمية وتجريبية متجذرة في فلسفة الوعي النقدي والتجربة الحية، فحين تُقرأ البيانات بعيون نقدية، وتُطلب الجودة كتحرر لا كامتثال، وتُصاغ السياسات عبر مشاركة واسعة نابضة بروح المجتمع، وتُستلهم التجربة المحلية كمنبع للمعرفة، تتشكل ملامح تعليم فلسطيني يليق بشعب ينشد العدالة والحرية والكرامة.