وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

محمود درويش في جامعة بيت لحم - لا اريد مكانا لادفن فيه اريد مكانا لاحيا فيه

نشر بتاريخ: 07/04/2006 ( آخر تحديث: 07/04/2006 الساعة: 23:23 )
وكالة معا - طارت التذاكر بسرعة ، كما يطير رفّ حمام فوق سقيفة لاجئين عند الغروب، ومنذ سنة الفين لم تشهد مدينة بيت لحم مثل هذا الاقبال على مسرح جامعة بيت لحم ، وقبل الموعد بساعة سارعت عائلات المدينة لحجز مقاعدها على مدرج الجامعة بانتظار قدوم الشاعر الفلسطيني محمود درويش ، الرجال وقد تأنقوا ببدلاتهم وربطات العنق والنساء الانيقات قد رفرفن بخفة ورومانسية تتماشى مع شاعرية هذه الامسية .

وفيما انشغل رجال الشرطة وامن الجامعة ينظمون دخول حوالي ثلاثة الاف عاشق للقصيدة الى المكان المخصص ، رفض اكثر من الف وخمسماية شخص الاكتفاء بمشاهدة درويش على شاشة العرض الخارجية ، وكانت الرغبة لديهم في مشاهدة الشاعر تفوق الرغبة في الانضباط للقصيدة ، واضطر رجال الامن لقبول نصيحة احد اعضاء المجلس التشريعي ادخال الجميع الى المسرح المزدحم .

محمود درويش تفوق الليلة على قصائده ، وحظي باستقبال لا يحظى به رؤساء الدول ، فبالاضافة للمحافظ صلاح التعمري ورؤساء بلديات المنطقة واعضاء البرلمان وعوائلهم ورجال الفكر والثقافة والاعلام ، كان الطلبة وقطاعات المرأة والاطباء والمحامين والشعراء الذين جلسوا مثل تلاميذ افلاطون يهزون رؤوسهم استطرابا .

احد شبان بيت لحم قال قبل دخول درويش القاعة : اشعر وكأنني في طريقي للقاء امرؤ القيس او المتنبي ، وقالت طالبة جامعية : لقد عرفنا محمود درويش من قصائده وامل ان ننجح هذه الليلة في سماع اكبر قدر ممكن من القصائد .

في السابعة مساء ، اوصدت الابواب ، ودلف الشاعر درويش الى القاعة من بابها الشمالي وسط تصفيق حار ومتواصل ، فما كان من درويش الا ان جلس بين رئيس بلدية بيت لحم د. فكتور بطارسة وبين المحافظ صلاح التعمري بينما كان الجمهور غارق في تصفيقه .

عريفة الحفل الحسناء فيرا بابون ، وبكلمات مستوحاة من رومانسيات قصائد الشاعر رحّبت بالضيف ، وقالت ان هذه الامسية جاءت تتويجا لنشاط اسبوع بيت لحم الثقافي ولجنة احياء الاديب الفلسطيني ابن بيت لحم جبرا ابراهيم جبرا ، ورحّبت بمن على شرفه جمع كل هذا الحضور ، انه رسول الكلمة محمود درويش كما قالت .

الحواجز العسكرية ، ثقل الحصار وخناق الجدار لم يمنع بيت لحم من الفرح والطرب ، لان الفلسطينيين هنا يؤمنون ان ليس لغير الحق انتصار.

امير القصيدة الفلسطينية حل شاعرا على امارة السلام ، وقبل ان يبدأ قصائده ، عزف الفنان التلحمي عيسى مراد استاذ الموسيقى في معهد اداورد سعيد على العود ، فنقر الوتر حتى توتر الجميع استحسانا ، وحرّك الساكن الحزين في النفوس العطشة لدى الضور او لدى المشاهدين على قناة الجزيرة المباشرة .

وحين اعتلى محمود درويش المسرح ، وحين اعتلى ظهر القصيدة ، صهلت الكلمات تحت لسانه مثل احصنة جامحة في فيافي خضراء .

وقبل ان يفوه درويش بكلمة ظلّ الجمهور يصفق حتى احمرت يداه تعبا ، واحمرت وجنتا الشاعر خجلا ، فشكرهم على كرم الضيافة وحسن الاستقبال ، وبصوت هادئ قال : جئت اقرأ بعض قصائدي في مدينتكم المقدسة ويشرفني ان اهدي هذه الامسية الى روح الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط فوقف الجمهور الفلسطيني يصفق اكبارا لروح الشاعر السوري الماغوط .

درويش بدأ كلماته بالقول : دائما احتار من اين ابدأ ، ودائما ابدأ بقصيدة على هذه الارض ما يستحق الحياة وهي قصيدة تدعو الشبان الفلسطينيين الى حب الحياة وليس ازدراء البقاء .

ثم انتقل الى قصيدته فكّر بغيرك وهي قصيدة ذات مضمون جيفاري ايثاري وعلى حد وصف احدى طالبات الجامعة : انها قصيدة ذكية جدا .

وعبر باقي القصائد التي امتدت من السابعة وحتى التاسعة والنصف تحدث درويش عن المكان والزمان والموت والحب والندم والالم والكلام والصمت ، وقال ان المكان هو عثور الحواس على مطئ للبديهة ، واضاف يخاطب عقل الجمهور ، لا اريد مكانا لادفن فيه ، اريد مكانا لاحيا فيه والعنه ان شئت .

وكرر درويش هذه العبارة مرتين ، اما الجمهور الذي لوعته الحروب فصفق لها واستطربها وكانه كان يقول لدرويش اكمل وهات المزيد .

وعن الماضي صدق الشاعر مع نفسه فقال " لم نكن غامضين ولم نكن واضحين " وحين طلب قسطا من الراحة في الثامنة والثلث ، جلس على مقعد رومانسي وسط الشموع وراح عيسى مراد يعزف على عوده اغاني مارسيل خليفة ، ثم اردف درويش ، سقط الحصان عن القصيدة وراح يستذكر الجليليات وهن يرقصن فوق الاقحوان .

واثناء قصيدة الحلم كان يسهل على أي مراقب ان يشاهد الدموع وهي تسح من بين رموش الصبايا ، وقال شاب " لقد اخافني محمود درويش وهو يتحدث عن الموت وعن عمر الستين بهذه الصورة " ولكن وكأن محمود درويش كان يترق السمع الينا فقال : بيلزمنا شوية حب ، حياتنا فيها نكد كفاية " .

وابدع ، وابدع ، وتألق الشاعر وهو يلقي قصائد للحسان وللجميلات وللحب وللشهوة الادمية فكان الجمهور تارة يشعر انه في عصر الملعقات وتارة يشعر بانه معلق تحت رحمة سيف قصائد تلميذ مراهق يفتح عينيه على الحب لاول مرة في مدرسة دير الاسد .

وبعد كرّ وفرّ، وبعد حب وخسارة، وخسارة ثم حب، ومن دون انتقام او ضغينة انتصر الحب على قصائد درويش وانتصر عشاق الشعر على حراس جامعة بيت لحم وانتصرت تاء التأنيث على شوارب الفرسان، وانتصرت جامعة بيت لحم على قهر مستوطنة جبل ابو غنيم وانتصر الفؤاد على الظنون، ووقف الجمهور على رجليه وعن بكرة ابيه وصفق طوال ثلاث دقائق متواصلة فهرب درويش من شدة الخجل وراء الستارة ولكن عريفة الحفل نادته ان يأخذ دروع التقدير التي قدمتها الجامعة ممثلة برئيسها الاب دانييل كيرسي ولجنة اسبوع بيت لحم ممثلة بالسيد مجدي الشوملي.

ولمن لم يشبع من القصيدة ، ولمن يرغب باقتناء ديوان الشاعر الاخير كزهر اللوز او أبعد وقد مهره درويش بتوقيعه اتخذ درويش مكانا قصيا ، وتدفق العاشقون على الطابق الارضي للحصول على الديوان ، فوحدهم العاشقون يظنون ان النهر مرايا فيقفزون .