وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أطفال برائحة الشواء! في غزة.. حين امطرت السماء موتا وفسفورا

نشر بتاريخ: 22/12/2009 ( آخر تحديث: 22/12/2009 الساعة: 13:57 )
غزة- سمر الدريملي- لا تزال "صباح أبو حليمة" تتخيل أن تأتي طفلتُها الرضيعة "شهد" وتلقي بنفسها في أحضانها مرددةً: "ماما.. ماما" رغم أنها دُفنت منذ أكثر من 11 شهراً جثةً "متفحمة" نتيجة إصابتها بشظايا الفوسفور الأبيض؛ الذي ألقته الطائرات الحربية الإسرائيلية على منزل عائلتها مطلع شهر يناير من العام الجاري.

"صباح".. وفي أحد صباحات الحرب الأخيرة على غزة (شنّتها إسرائيل على قطاع غزة أواخر ديسمبر 2008، وحتى 21 يناير من العام الجاري) كانت تُعد طعام الإفطار لأسرتها المؤلفة من (10) أفراد، وإذ بقذائف الفوسفور الأبيض تتساقط بكثافة على بيتهم الدافئ الواقع في مدينة بيت لاهيا شمال القطاع، لتحوّله إلى جحيمٍ يصهر جسد زوجها وأولادها صغاراً وكباراً، فاستشهد خمسةٌ منهم، فيما أصيبت هي والباقون بحروقٍ متفرقةٍ في الوجه ومختلف أنحاء الجسد.

"صباح" -التي لازال وجهها تغطيه آثار الحروق والجروح- تقول: "لم أتوقع أن أفقد زوجي؛ واثنين من أبنائي؛ وزوجة ابني؛ وفلذة كبدي "شهد".. تلك الصغيرة الحبيبة إلى قلبي، فهي البنت الوحيدة التي أنجبتُها بعد أن أنجبتُ عشراً من الذكور".

وتضيف بشيءٍ من الحزن والذهول: "كنت أنوي أن أفطم "شهد" عن الرضاعة بعد خمس سنوات، وذلك من شدّة حبي لها؛ واهتمامي بها وبصحّتها، وكنت أشتري لها أحلى الثياب وأغلى الألعاب.. لكن كل شيء أحرقه الفوسفور.. حتى ابنتي "شهد" تساقط جلدها وهي في أحضان أبيها.. ولم يبق إلا رائحة شواء أطفالي ورائحة الدم والفوسفور ..".

تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل استخدمت العديد من أنواع الذخيرة والقنابل والأسلحة في حربها الأخيرة على غزة، وبضمنها الفوسفور الأبيض؛ وهو مادة كيميائية دخانية تصيب الجسم بحروقٍ بالغة، وقد تخترق الجلد وصولاً إلى اللحم والعظم، ويحترق الفوسفور الأبيض بمجرد ملامسته للأكسجين منتجاً ضوءً ساطعاً ورائحةً كريهة، وكمياتٍ كبيرةً من الدخان، وتمتد آثاره الخطيرة إلى كل مكوّنات البيئة بشكلٍ عام، إذ يتسرب في التربة، وإلى أعماق البحار، ويهدد الكائنات البحرية كالأسماك.

رائحة الجلد المنصهر..!
يُذكر أن جميع من أصيبوا من عائلة "أبو حليمة" كانوا قد تلقوْا العلاج المناسب وشُفوا، أما "صباح" (البالغة من العمر43 عاماً) فقد استمرت تعالج في مستشفى الشفاء بمدينة غزة لحوالي (4) أشهر؛ وذلك بعد إصابتها مباشرة، ولازالت تتلقى العلاج بين الفينة والأخرى؛ بسبب مضاعفات الإصابة، كما أنها خضعت لعلاجٍ نفسيٍ بسبب الصدمة التي تعرضت لها إثر مشاهدتها -بأم عينيها- لاحتراق أطفالها وزوجها، إذ بقيت لفترةٍ طويلةٍ غير مصدقةٍ بأنها فقدت من فقدت، خاصةً حبيبتها "شهد"، وظلّت -لعدة أسابيع- تستيقظ مفزوعةً تنادي: "إلحقوا ولادي مولعين.. إلحقوا ولادي بموتوا.." وهو ما دفع طبيبتها النفسية لاصطحابها في زيارة لقبور أولادها وزوجها.

وتحرص "صباح" حالياً على زيارة قبورهم في كل مناسبة، لتدعو لهم، وتنظف حول قبورهم، وتستذكر أحلى وأغلى الأيام التي كانت فيها برفقتهم، كما تسقي العشب والشجر الأخضر حول قبر رضيعتها "شهد"، لاعتقادها أنها بذلك تنير لها قبرها، وتخفف من وحشتها ووحدتها تحت التراب.

من جهته أوضح "سلامة أبو حليمة" (أحد أقرباء صباح) أنه "وفور وقوع الحادث هرعنا إلى إنقاذ من بقي من الأحياء ولنقل جثث الشهداء، وأثناء قيامنا بذلك علمنا بأن دبابات إسرائيلية بدأت تتوغل نحو المكان فقمنا بوضع الجثث في مكان آمن ونقلنا المصابين، وبعد بضعة أيام تمكنا من العودة مرة أخرى للمكان لتفقد الوضع ودفن الضحايا، فتفاجأنا بأن الجثث كانت متناثرة هنا وهناك، وجثة شهد كانت تبعد قرابة الكيلو متر عن بيتها الذي قتلت فيه".

وأكد سلامة أن قوات الاحتلال الإسرائيلي وخلال توغّلها البرّيّ في أول أيام الحرب قامت بتجريف الأرض الزراعية التي يملكها زوج "صباح" شمال بيت لاهيا، مما أصابه -رحمه الله- بالحزن، حتى أنه كان يردد: "من أول ما إجت اللقمة في التم وقعت" حيث كانت الخضار والفاكهة قد نضجت لكن لم يتم قطافها بعد. مشيراً إلى أن قذائف الفوسفور التي أُلقيت على البيت أحرقت الطابق الثاني منه بشكلٍ كامل، وهو الطابق الذي كانت تقطنه "صباح" وأسرتها.

وتعيش "صباح" -حالياً- في الطابق الأرضي من البيت؛ إذ لا ترغب في العيش مرةً أخرى في ذات المكان الذي وقعت فيه "المحرقة" –على حد تعبيرها- إذ أنها وفور دخولها لهذا البيت تسمع صيحات وضحكات ابنتها، وتشم رائحة جلود أبنائها وزوجها، وتعود الصورة المأساوية المظلمة لتراودها من جديد.

الخوف من الفرح
"ندى" قصة مأساوية أخرى؛ نسجتها شظايا الفوسفور الأبيض؛ إذ لم يكن أمامها سوى البحث من جديد عن فستان زفافٍ آخر بدلاً من ذاك الفستان الذي أعجبها هي وخطيبها "أمجد"، فآثار الحروق والقُطب المنتشرة في مختلف أنحاء جسدها تستدعي إيجاد فستانٍ مغلق، لا يكشف ولو جزءً بسيطاً من جسدها..!

ومرت الأيام والأسابيع وتزوجت "ندى" في منتصف شهر إبريل من العام الجاري.. "ندى"؛ تلك الفتاة الجميلة التي تبلغ من العمر (17) عاماً، تشوّه جمالُها بسبب إصابتها بمادة الفوسفور الأبيض في مختلف أنحاء جسدها، إلى جانب اكتساء جسدها بآثار قطب العمليات الجراحية التي أُجريت لها؛ نظراً لإصابتها بشظايا صاروخٍ إسرائيليٍ انفجر بجوار منزلهم الصغير الواقع في حي الزيتون جنوب مدينة غزة.

"ندى" التي كانت -يوم زفافها- تتباهى بنضارة كل جزءٍ من جسمها؛ أصبحت اليوم تبتسم بتصنّع.. وترقص على استحياء.. فآلام الحروق والقطب والعمليات الجراحية مازالت تفجّر الألم داخلها.. وعلى الرغم من ذلك؛ فقد بقيت تجامل الناس طوال الفرح، فتحيّي صديقاتها.. وتُقبّل جبين والدتها.. وتشبك أصابع يديها بيدي عريسها، في محاولةٍ منها لإسعادهم؛ وإدخال البهجة إلى قلوبهم.

ومرت شهورٌ عاشتها "ندى" مع زوجها بسعادةٍ منقوصة، وفي حالةٍ من التوتر والقلق الدائمين، فهي -كما تقول- "لم يُكتب لها أن تحمل حتى الآن، وتخشى أن يكون للإصابات التي تلقتها في جسدها دوراً في ذلك، أو أن تكون الحالة النفسية التي عاشتها وأسرتها في الحرب هي السبب، لا سيما وأنها كادت أن تصاب بنوبةٍ قلبيةٍ مرات عديدة نتيجة الخوف والذعر".

وتُعبر "ندى" عن شعورٍ عارمٍ من الحزن الشديد؛ كونها لم تتوقع أن يحدث معها ما حدث، فكما تقول: "رغم أني لازلت في ريعان شبابي؛ إلا أنني رأيت ما يشيب من هوله رأس الوليد.. لقد أدركت حقاً ماذا تعني ويلات الحرب".

صفحة جديدة
يُذكر أن إصابة "ندى" كانت الأشد والأخطر مقارنةً بإصابات باقي أفراد أسرتها، حيث أصيبت بحروقٍ بالغةٍ في جميع أنحاء جسدها؛ نتيجة إصابتها المباشرة بالفوسفور الأبيض؛ كذلك إصابتها بشظيّة في ظهرها استقرت في بطنها، مما أدّى إلى استئصال طحالها وإحدى الكليتين، كما أن الأمعاء تضررت بشكلٍ كبير، وبقيت لعدة أشهر تزور المستشفى من وقتٍ لآخر لإزالة الشظايا المنغرسة في أنحاء مختلفةٍ من جسدها، ولإغلاق الفتحة التي كانت مخصصة لإخراج البراز، والتي فتحها الأطباء في جنبها إلى أن تشفى أمعاؤها من الغرز.

جدة "ندى" (57 عاماً) تقول: "عانت ندى من حالةٍ نفسيةٍ صعبة، لدرجة أنها كانت ترفض الأكل، بل وتتمنى الموت كل لحظة، إلا أن زواجها فتح لها صفحةً جديدةً في الحياة، ونتمنى أن يرزقها الله قريباً بمولودٍ يفتح لها آفاق الأمل في الحياة، فهي مازالت صغيرةً، والعمر مازال أمامها".

اشتعال.. طالما أن هناك أكسجين..
د. "نافذ أبو شعبان" (استشاري ورئيس قسم جراحة التجميل والحروق في مستشفى دار الشفاء بغزة) -وهو أكبر تجمع طبي في القطاع- أكد أنه "في بداية الحرب على غزة اعتقد الأطباء أن الحالات التي كانت تأتي مصابةً بحروق هي من جرّاء شظايا الصواريخ الإسرائيلية ولهيبها، حتى أن الكثير من الحالات كنّا نقدم لها العلاج السريع ونطلب منها بمغادرتها المشفى للبيت، من أجل أن نفسح المجال للحالات الأشد خطورة، لكننا فوجئنا بأن تلك الحالات كانت تعود لنا من جديد، وذلك لتدهور حالتها الصحية، ولاشتداد وتعمّق الحرق وتوسّع مساحته، عندها بدأنا نُجري التحاليل لمعرفة ماهية هذه الحروق، وبمساندة الأطباء العرب والأجانب -الذي أتوا إلى غزة لمساعدتنا- تأكدنا بشكلٍ لا يقبل الشك بأن تلك الحروق كان سببها الفوسفور الأبيض، إذ كانت المرة الأولى التي تستخدمه إسرائيل في عدوانها على غزة".

وتابع: "بدأنا نتعامل مع الحالات المحترقة بالفوسفور بشكلٍ مختلفٍ، إذ صرنا ندخل المصاب فوراً لغرفة العمليات، ونغطيه لعمل تنظيف للمناطق المصابة، واستئصال الأنسجة المحترقة والمتهتّكة والميتة، كي نوقف عملية الاحتراق، إذ يستمر الفوسفور بالاشتعال طالما أنه يلامس الأكسجين، وأحياناً كنا نكشف عن منطقةٍ في جسد المصاب فتبدأ بالاشتعال، فنسارع إلى تغطيتها على الفور".

واستطرد قائلاً: "في إحدى المرات كنا نقوم بعملية تنظيف لأحد المصابين بالفوسفور الأبيض، فتناثرت قطعٌ من جسد المريض على صدر طبيب التخدير "محمود الجمال" فأصيب بحرقٍ في صدره؛ فسارعنا لإسعافه على الفور، وبرغم ذلك دخل بعدها العناية المركزة بسبب مضاعفات الحرق على صدره".

"محرقة صهيونية"
ونوه د. "أبو شعبان" إلى أن "الفوسفور الأبيض له مضاعفاتٌ كثيرةٌ، إذ تتسبب حروقه العميقة بالوفاة، كما أنه مادةٌ سامةٌ تتغلغل في الدم فتسممه، كما يؤدي إلى تمزّق وتهتك في الأعضاء ويسبب نزيفاً داخلياً، ناهيك عن الاضطرار لبتر بعض أطراف المصابين به، كما يؤدي لحالات إغماءٍ وتشنّجات، وصعوبة في التنفس، وآلامٍ حادةٍ في العينين".

وأوضح د. "أبو شعبان": "شاهدنا حالاتٍ صعبةً كثيرةً محترقةً بالفوسفور الأبيض، إذ وصلت للمشفى جثث متفحمة، وأخرى مازال الدخان يتصاعد منها، وحالاتٍ لازال جلدها يتقاطر وينصهر، وحالاتٍ وصل الحرق فيها إلى العظم، لكننا للأسف؛ لم نستطع أن نحصيها أو أن نصنّفها، وذلك لكثرة أعداد المصابين والجرحى والشهداء خلال الحرب، لكن الذين أصيبوا بالفوسفور تجاوزا المئات".

وعبر "أبو شعبان" عن أسفه لعدم وجود "دراسات علمية توضح مدى خطورة الفوسفور الأبيض على المدى البعيد، سواءً على الإنسان المصاب أو غير المصاب، وعلى البيئة برمتها، لا سيما وأن هناك تحليلات تؤكد بأنه قد يؤدي إلى انتشار الأورام السرطانية، ويزيد من حالات تشوّه الأجنة، ويؤدي للعديد من المخاطر".

وقال د. "أبو شعبان": "هناك العديد من لجان التحقيق العربية والدولية الرسمية جاءت إلى غزة، وأخذت عيناتٍ من المرضى، وقطعاً من الفوسفور التي نحتفظ بها، وفي نتائج تحقيقاتهم أكدوا بأن إسرائيل استخدمت الفوسفور الأبيض في حربها على غزة".

وفي عُلبةٍ محكمةٍ الإغلاق عرض لنا د. "أبو شعبان" بعض قطع الفوسفور المستخرجة من أجساد المصابين؛ إذ يحتفظ بها تحت طبقةٍ من الرمل، وفور أن أخرجها بدأت بالاشتعال من جديد، وفي هذا الصدد قال د. "أبو شعبان": "كنا ننصح المواطنين في غزة بضرورة وضع قطع من القماش المبلل على قطع الفوسفور في حال تساقطت أمامهم أو على بيوتهم، ليوقفوا اشتعالها على الفور، ومحاولة عدم استنشاق دخانها".

وقال د. "أبو شعبان": "ما حدث في الحرب محرقةٌ صهيونيةٌ ضد الأبرياء في غزة، وعلى كافة الجهات الدولية التحرك بشكلٍ جديٍ لمنع تكرار هذه المحرقة، وضرورة إرسال لجان تحقيق محايدة لمعرفة كافة أنواع الأسلحة والذخيرة التي استخدمتها إسرائيل في حربها على غزة، إذ أن هناك شكوكاٍ بأنها -وإلى جانب الفوسفور الأبيض- استخدمت سلاح "الدايم" واليورانيوم المنضّب أيضاً، مما يعني أن مستقبلاً كارثياً ينتظر مواطني قطاع غزة، لاسيما قطاعي الصحة والبيئة".

بطيء التحلل
"نزار الوحيدي" (خبير التربة والمياه في وزارة الزراعة) أشار إلى أن: "الفوسفور الأبيض مشكلته أنه بطيء التحلل في التربة، ويبقى ناشطاً فيها لعدة سنوات، كما أننا نجهل المكوّنات المصاحبة له وما هو نوعها ومدى خطورتها، كما أن تسربه للخزان الجوفي هو احتمالٌ واردٌ جداً؛ فهو ضحلٌ وقريبٌ من السطح، ناهيك عن أن تربتنا رملية، ونفاذيتها عالية، وذلك خطرٌ إضافيٌ وعبءٌ بيئيٌ جديدٌ على الخزان وعلى التربة، ويزيد من احتمالات التلوّث والتسمم".

وأضاف "الوحيدي": "عادةً ما تسبب المركّبات المصاحبة للفوسفور حرقاً للتربة، وخلق مجموعةً من المشكلات أقلّها: فقدان خصوبة التربة، وتُكوّنُ مركّباتٍ كيميائيةٍ جديدة؛ نتيجةً لتفاعل المكوّنات الحيوية والكيميائية، وهي بطبيعتها سامةٌ للنباتات والحيوانات الرعوية". منوهاً إلى أن: "الكثير من الحيوانات الرعوية ماتت مباشرةً بعد الحرب؛ لا سيما في الأماكن التي ضُربت بقنابل الفوسفور الأبيض بكثافة، ناهيك عن حالات التسمم والاختناق التي قتلت الكثير من الكائنات الحية والحيوانات البريّة وأنواعاً مختلفةً من النباتات؛ الأمر الذي أدّى إلى خللٍ كبيرٍ في التوازن البيئي وفي التنوّع الحيوي".

وأكد "الوحيدي" أن "خبراء إيطاليين أكدوا مؤخراً أن مياه الشرب ومياه الري في غزة -والتي مصدرها الخزان الجوفي- ملوثة فعلاً بالفوسفور وبعناصر ومواد كيميائية مختلفة، مما قد يسبب -على المدى البعيد- إجهاضاتٍ للحوامل وتشوهاً في الأجنة وأمراضاً سرطانيةً مختلفة".

الاستسلام.. للهب الفوسفور
"محمد البابا" (مصور وكالة الأنباء الفرنسية) كان المصور الصحفي الوحيد الذي تمكن من التقاط صور فوتوغرافية لسقوط قذائف الفوسفور الأبيض على مدرسة للاجئين شمال القطاع، والتي كان يحتمي فيها حوالي 3000 مدني فلسطيني. يقول "محمد البابا" في هذا الصدد: "لأول مرةٍ في حياتي أرى مثل هذا المشهد المرعب، فالقذائف الفوسفورية أُطلقت على المدرسة، وخرج منها آلاف الشعب الدخانية والنارية، وقد أدّت إلى مقتل أمٍ وابنتيها كانوا يحتمون بأحد فصول المدرسة. كما أن العديد من المسنّين والمسنّات استسلموا لرائحة الفوسفور الكريهة، وللهب نيرانه، إذ من الصعب أن يهربوا؛ لضعف حركتهم؛ إلا أن المسعفين تمكنوا من حملهم وإخراجهم بأقصى سرعةٍ ممكنة".

ويضيف: "..الموقف كان صعباً للغاية، فالكثير من المشاعر انتابتني في تلك اللحظة، خوفٌ مع رعبٍ مع انتماءٍ وطنيٍ مع شعورٍ بضرورة القيام بعملي كمصوّر صحفيٍ من ناحية؛ وكإنسانٍ من ناحيةٍ أخرى؛ لا سيما أمام منظر المصابين والشهداء؛ جرّاء تلك القذائف".

و"البابا" مثَلُهُ مثلُ عددٍ من زملاء وزميلات المهنة الذين قابلناهم؛ يوافق على أن الإعلام المحلّي والدولي لم يعالج موضوع استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في حربها على غزة بشكلٍ عميق، وإنما كانت مجرد تغطية خبرية وتوثيقية ولفترة محدودة.

وتُحرّم اتفاقيةُ جنيف استخدام الفوسفور الأبيض ضد المدنيين؛ أو حتى في الأعمال الحربية في المناطق التي يقطنها مدنيون، وتعتبر استخدامه جريمة حرب.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدولية اتهمت إسرائيل باستخدام الفوسفور الأبيض -بشكلٍ ممنهج- في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ودعت المنظمة (التي تُعنى بحقوق الإنسان) إلى إجراء تحقيقٍ دوليٍ بشأن استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في حربها الأخيرة على قطاع غزة. كما طالبت المنظمة بإجراء تحقيقات أخرى داخل إسرائيل, في الوقت نفسه حثّت مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة على تشكيل لجنة تحقيق في خروقات إسرائيل الأخرى في حربها على غزة.

وكانت جهات رسمية إسرائيلية نفت استخدام الجيش الإسرائيلي للفوسفور الأبيض في حربه على غزة، لكن مع ازدياد التقارير حول هذا الأمر وتوزيع الصور التي تثبت استخدامه؛ اضطرت الجهات الرسمية الإسرائيلية إلى الاعتراف بأن الجيش الإسرائيلي استخدم الفوسفور الأبيض بالفعل، لكنهم أصروا على أن الاستعمال كان قانونياً وطبقاً لتعليمات القانون الدولي.

وقد ورد في تقرير "بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة" أو ما يُعرف بتقرير "غولدستون" أن "إسرائيل اتسمت بالاستهتار على نحوٍ منهجيٍ في تقرير استخدامها قذائف الفوسفور الأبيض في مناطق مبنية" مطالباً بـ "..النظر بجدية في حظر استخدام قنابل الفوسفور الأبيض في المناطق المبنية".

يُذكر أنه في السابع والعشرين من شهر ديسمبر من العام 2008 كانت غزة على موعدٍ مع حربٍ صهرت في آتونها البشر والحجر والشجر بلا أدنى تمييز، فكلهم -من وجهة نظر الآلة الحربية الإسرائيلية- فلسطينيون، وكلهم من غزة، وقد أطلقت إسرائيل على عمليتها تلك اسم "عملية الرصاص المصبوب"، وكانت تلك الحرب الأشد شراسة منذ عام 1967، فقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال العدوان 1419 شخصاً، بينهم 318 طفلاً، و111 امرأة. ووفقاً لما أعلنته وزارة الصحة في غزة فإن عدد الجرحى الفلسطينيين بلغ نحو 5300 شخصاً، من بينهم نحو 1600 طفل، و830 امرأة.