|
غزالة في باب الزقاق/ بقلم: عيسى قراقع
نشر بتاريخ: 07/07/2005 ( آخر تحديث: 07/07/2005 الساعة: 19:00 )
تناهى الى سمع الطفلة الفلسطينية "غزالة سراحنة" ابنة الثلاث سنوات انباء الاجتماعات الفلسطينية الاسرائيلية المتعلقة بانسحاب الجيش الاسرائيلي من مدينة بيت لحم ومن مدن فلسطينية اخرى....
وشاهدت بأم عينها استعداد الناس والمسؤولين وكافة الاجهزة الامنية لهذا الحدث والتحضيرات الجارية له...وهي بحدسها البريء اعتقدت ان انسحاب جيش الاحتلال من المكان يعني وبشكل بديهي الإفراج عن والديها المعتقلين في السجن الاسرائيلي وانتهاء غربتها ووحدتها وانتظارها الطويل. لن اكبر بعد اليوم في الفراغ....قالت غزالة وكأنها تعلمت أن المكان لا قيمة له بدون الانسان...فالبيت بحاجة إلى أم وأب وحديقة وفراشات.... وقد تجادلت غزالة مع بقية الاطفال مؤكدة انه لا يعقل أن يقبل أي مسؤول فلسطيني انسحاب جيش الاحتلال من أي مدينة في حين يبقى الأسرى رازحين خلف القضبان....فالارض لايحرك نبضاتها وسخونتها غير الرجال... نادت الصغيرة غزالة على براريها, خرجت من مخيم الدهيشة وركضت في شارع القدس-الخليل، كانت الرياح التموزية الدافئة تحرك شعرها الاشقر المتدلي على كتفيها... نثرت احلامها على المارة والناس ولأول مرة تشعر انها لم تعد ملاحقة من القناص، سيعود والديها من السجن بعد غياب، سيكون للأشياء معنى: التنورة الخضراء، والكتاب والحكاية.... توقفت غزالة في مفترق باب الزقاق... هذا المفترق الذي يعتبر القلب النابض لمحافظة بيت لحم، تمتد منه خمسة شراين بدونها لا يصل الماء الى بيت جالا وبيت ساحور والقدس والخليل. وفيه يتجمع بائعو الكعك والصحف وبائعات المرمية والفقوس، ومنه مرّ كل الأنبياء والملوك والرحالة.... وعندما اراد موفاز السيطرة على مدينة بيت لحم ركز مصفحاته في باب الزقاق. لقد كان باب الزقاق عبء على الجنرال وكان لا بد لغزالة ان تصله حتى تشعر انها حرة. وهنا في هذا المكان تقتحم الاسماء كل ذاكرة.... موت جائع الى الحياة، ومطرٌ جائع الى البشر, رائحة خبزٍ وأحلام تصحو..... باب الزقاق يفتح صدره للصغيرة، يقذف صور شبابٍ سقطوا في هذا المفترق لم يودعهم احد....ومن هنا جاءوا بدباباتهم وناقلات جندهم وعبروا الى الكنيسة ليحاصروها اربعين يوما، وهنا تدفق الدم واختلط الطحين بتراتيل العذراء الشهيدة. اسماء تلمعُ في المفترق تلحُ على الحضور، وليد صبيح وبسام أبو عكر واحمد المغربي وعاطف عبيات، وحسين عبيات، واحمد الزغاري، ومحمود سراحنة، وصامد خليل ورياض العمور، وربيع ربيع، واحمد اسعد، وخالد طافش....وجوه تتزاحم في الماء والشمس، تقمصوا أوراق الشجر وغابوا في الصيف الاخير.... للمكان قدرة على الحديث والإفاضة في الإفادة فاتركوه ينادي على الاحياء والاموات لان القيامة هي آخر فصل من فصول الحياة الناطقة... ودعو باب الزقاق يستعيد شكله وهيئته حتى يستحق الاسم والمعنى... من قال ان الجغرافيا لا لغة لها ولا عائلة وميراث؟؟ ليس من فراغٍ ان تسمي المدن والشوارع والحارات بأسماء ابطالها ومحريريها وشهدائها، باسماء ادبائها وفلاسفتها وانبيائها....فالخطوات لها اسماء وظلال...لهذا اعاد ابن خلدون الحياة الى التاريخ الإنساني والمجتمعي عندما اكتشف في مقدمته روح المكان. غزالة لا تريد انسحاباً ديكورياً يعيد اعتقال امنياتها ويدمر العابها ويقصف نشيد مدرستها، وهي ليست بحاجة الى جواز سفرٍ اسماء والديها فيه لا زالا في السجن، وهي لا تريد افقاً غامضاً يقوم على الوعد وكثرة الاجتماعات والمؤتمرات والعلاقات العامة.. ان غزالة تريد انسحاب الوجع من مؤبد الانتظار على الاسلاك الشائكة...وتدفق الحنين غزيراً لتنهض الأرض من جفافها، تستعيد كبريائها وحدودها وسيادتها واهلها المعتقلين والمنفيين والفقراء والمظلومين والمعذبين الحائرين بين القرارت والسلطات المتداخلة.. غزالة تريد ان تركض في سهولها وجبالها وفي غابات أحلامها دون أن يصدها حاجز عسكري او يطاردها حرس الحدود او تسرق بلوناتها مستوطنات زاحفة....لذلك صدقت غزالة بان رحيل جيش الاحتلال يعني عودة والديها وانتهاء معاناتها.. سأظل واقفاً هنا...أنادي على الأسرى وعلى أمي كما نادي عليهم توفيق زياد قبل احد عشر عاماً وكانت الارض تسمع وتملي شروطها على البراكين والزلازل والرعود والعواصف والمستقبل.. أطلت أمها من شباك سجن تلموند، واطل الصراخ الانساني من وسط الرمل والنسيان والزنازين الصدئة وغزالة لا ترمش ولا تنام، تحمل بين أصابعها حلمها الصغير، تفرشه على ارض باب زقاق مؤمنة انه لا بد من حبة قمح ليكون الريح حراً... ومن صوت غزالة يندلع الحريق: عن جنازات في يوم عيد وعن مبعدين وأسرى وليل شديد عن أمي وابي اختطفوهما وبقيت معلقاً على فجر من حديد إنها مسافة وقرار حتى يعود والديّ يا سيدي رئيس مجلس الوزراء.... -انتهى- |