|
أفتقدك أخي الشهيد محمد!
نشر بتاريخ: 07/08/2006 ( آخر تحديث: 07/08/2006 الساعة: 11:23 )
غزة- سمر الدريملي- معا- "هذه مناسِبة له لا بل تلك، أليس هذه بأطول وأرفع، هذه حلوة يا أمي..."
نبحث له عن عروس وهو في الثلاجة.. ثلاجة الموت.. نبحث له عن فتاة جميلة يسري الدم في عروقها وخدودها الحمر ودمائه تتصفى قطرة قطرة.. ووجهه الأبيض الطفولي يتجمد ويتحول بالتدريج إلى اللون الأزرق.. أخي الشهيد محمد.. لحظة استشهاده بعد مغرب يوم الخميس الموافق السادس من تموز/ يوليو الماضي كنا أنا وأمي في عرس للعائلة، ما أسعدنا في تلك اللحظات كانت العروس جميلة والعريس يقوم بحركات شقية يداعب بها زوجته أمام الجميع.. وأنا وأمي نضحك ونمزح ونعلق ونبحث بين الفتيات الراقصات عن واحدة تناسب محمد في المستقبل كزوجة.. وعلى رغم من ذلك كانت أمي بين الحين والآخر تستعجل رواحنا "قومي يلا بدنا نطمن على البيت وأشوف أخوكي محمد أكل ولا لأ ما اتغدى كويس". وصلنا إلى البيت وفي الشارع المعتم الكئيب حيث لا كهرباء بسبب "الصهاينة"، وجدنا أحد أقربائنا، "ليش واقف على الباب؟".. سألته أمي بعفوية وهي تبتسم، قال لها: "ولا اشي بس اطلعي فوق"، ونظر لي خلسةً وعض على شفته مشيراً لي برأسه بأن آخذها وأصعد إلى البيت". مسكت بيد أمي وأنا أرتجف من داخلي خوفاً من أن يكون ما تبادر لذهني من توقعات صحيح.. أصعد سلالم الدرج وأمي خلفي.. لا.. لا يجب أن أكون بجانبها ..أسبقها ثم أرجع لأكون خلفها.. أتقدم ..أسرع.. متلهفة ما الذي يدور في بيتنا الآن.. "يلا يا إمي اسرعي..".. بيتنا معتم وتوأمي سحر تجلس في الصالون تبكي وأختي منى الكبيرة واقفة بالقرب منها تنتحب، سألت "الإجابة".. بصوت منخفض "محمد استشهد؟"، "آه محمد استشهد" رميت حقيبة اليد التي كنت أحملها بقوة ولا أعلم أين سقطت يومها وصرخت "كيييييييييف، ايمتى"، أمي مازالت تتسأل "ايش في ؟"، وقبل أن أسمِّعها مسكت رأسها وحضنتها "محمد استشهد"، وما أصعبها من لحظة.. وما أقساها..ياه كم هي مريرة.. وقتها جميعنا أطلق آهات من قاع قاع قلبه، ولو لم نفعل لكان أحدنا أصيب بجلطة.. لا أريد أن أخوض في تفاصيل كثيرة الآن.. كل التفاصيل مهمة وكل ما أكتبه عن أخي محمد -(20 عاماً)_ الذي كان يشبهني كثيراً مهم وهام، إلا أنني كصحافية قمت بتغطية العديد من قصص الشهداء وشاركت في بيوت عزائهم، لم أكن أعلم أنني في يوم من الأيام سأدخل الدائرة، وأكون شقيقة شهيد، هذا شيء أفتخر به بالطبع، لكنني شعرت بأنني لم أكن أوفيهم حقهم في الكتابة كصحافية، وفي المواساة وتقديم الدعم كمواطنة فلسطينية، صحيح كنت وزميلاتي الصحافيات كثيرا ما تخالط دموعنا كتاباتنا وكلمات أمهات الشهداء، لكن ذلك لا يكفي، الحدث جد كبير والفراق صعب كثيراً، وأن تفقد أحد أفراد الأسرة شيء يكسر القلب والخاطر ويزرع الحزن في النفس إلى أمد بعيد طويل .. وعله أبعد وأطول من العمر.. ياه هل كل أهالي الشهداء مروا بما مررنا نحن به، من عذاب ووداع وحقد وقهر وحزن ؟!! أين ذهبوا بملابس أبنائهم الشهداء، وأحذيتهم وذكرياتهم وأكلاتهم المفضلة وأصحابهم وأصواتهم وروائحهم وحاجياتهم الخاصة، وحبيباتهم، وصورهم، وألقابهم ومزحهم، ولون عيونهم وبشرتهم؟! أين ذهبوا بألعابهم، وغرفهم ووساداتهم وطريقتهم في المشي وأسلوبهم في الأكل والشرب، وجوالاتهم، وشتائهم وصيفهم؟! أين ذهبوا بأعيادهم وأيام ميلادهم؟ أين ذهبوا برمضانهم وشوالهم وحجهم وعمرتهم وسذاجتهم وزهدهم في الحياة الدنيا؟! ملابس محمد وأحذيته وأغلب ما يخصه مخبأ في خزانتي نخشى أن تراه أمي فتزيد حسرتها، آخر "بلوزة" رأيناه يرتديها في نفس يوم استشهاده قطنية ولونها أبيض أبدلها بأخرى سوداء عندما ذهب للمقاومة في بيت لاهيا، هو ومجموعته من كتائب شهداء الأقصى -حيث التوغل الصهيوني كان هناك وقتذاك- أمي بحثت عن البلوزة كثيرا وترجتنا أن نعطيها إياها ولو لثواني، وعندما أخرجناها لها كأنها جمعت الدنيا وما بها بين يديها.. حضنتها ببكاء وعويل وأخذت تشمها بحرارة الشوق، وتديرها وتبحث عن عرقه فيها، كانت تريد أن تغوص بداخلها وتسري بروحها بين خيوطها.. تشعر بأنه مازال حياً يرتديها. أمي لا تريد أن تغسل البلوزة وأوصتني أن أضعها داخل كيس محكم الإغلاق كي تبقى رائحته الزكية معبقةً إياها. نشعر أحيانا بخجل إن علت ضحكاتنا، نشعر بخجل وربكة إن أدرنا القنوات على روتانا سينما "بالغلط" أثناء بحثنا عن قناة مازالت تخر منها دماء طاهرة في فلسطين ولبنان، نشعر بأن الفضاء والنور في العالم كثير.. والشجر الأخضر والزهور كثيرة ولا داعي لها.. نشعر بخجل إن تذوقنا طعام حلو، نشعر بحيرة أمام أطفالنا وهم يلحون علينا لأخذهم في رحلة إلى البحر.. أو مازال هناك بحر في غزة؟!.. نشعر بأن ثمة حاجيات أساسية تنقصنا في البيت إلا أن السوق بجوارنا بعيد بل بعيد جدا.. خاصة وأنه لم يمر على استشهاده الأربعين يوماً بعد.. محمد كان يحب المعكرونة والفتة، والرز وحليب.. أمي نسيت كيف تُطهى هذه الوجبات ولا تريد أن تطهوها أصلاً، أقسمت بأن لا تصنعها طالما رحل محمد.. تقول لنا وتتمتم دوما "ذكِّروني في روتيني وحياتي قبل استشهاد أخيكم، ساعدوني أرجع طبيعية..". وعندما ذهبت لتزور قبره وأعتقد بأنها المرة الأولى والأخيرة، أخذت تبكي وتقول لنا "فش كريك أحفر عليه أشوفه"، "بنقدرش نحفر نشوفه وأحضنه"، وتنظر إلى القبور حوله وتسأله "أيشلونك هؤلاء يا ابني، هل أنت مرتاح بعيداً عنا، وقريبا من الأموات وبين أشجار الشوك والصبر، ربنا يرحمك". لن أذكر شيئاً عن أبي وإخواني فيكفي أن أقول أنني لأول مرة بحياتي آراهم يبكون، وأسمع صوت آهاتهم وأرى ضعفهم الحزين، ووجوههم الشاحبة وعيونهم الحمر من حرقة الدموع. محمود أصغر شقيق لنا (18 عاما) كان ينام مع محمد في غرفة واحدة ومنذ استشهاد محمد يأبى إلا أن ينام في الصالون على "الكنبة"، متمتما "ما أحلاك وما أجرأك يا محمد". وأنا أكتب هذه الكلمات قلبي يدق سريعاً ويرتجف خوفاً على أمي إذ لازالت تحوم في أرجاء البيت باكيةً، تبحث عن صورة له أو رائحة. أرى بأن تفاصيل قصة استشهاد فلسطيني واحد فقط، كفيلة وجديرة بأن تهز العالم الميت، وتقنعه بأن الكيان الصهيوني كيان غاصب يجب تحرير الوطن الفلسطيني والعربي منه، إذ مازال يطحن في عظام أطفال فلسطين، ويسْكن أشباح الحزن والكآبة في صدور الأمهات. أخي محمد أحبك كثيرا وكم أتمنى أن ألقاك شقيقتك التي تشبهك |