|
اقتصاديات الضياع.../بقلم: فريد أعمر
نشر بتاريخ: 17/10/2011 ( آخر تحديث: 17/10/2011 الساعة: 14:31 )
لفت انتباهي مقال للبروفيسور عبد الستار قاسم عن اقتصاديات القمار والخداع يقصد بذلك الاقتصاد الرأسمالي. المقال طويل للدرجة التي جعلتني لا أتابع قرأته لكنه أثار شغفي للكتابة حول بعض أسباب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها العالم منذ سنوات.
قبل عقد التسعينات كانت أمور المحاسبة وعمليات البنوك من ناحية مالية ولا أقول من ناحية فائدة الإنسان وحياته وأخرته، كانت أفضل حالاً من حالها في العقود اللاحقة لأسبابٍ أهمها التعديلات التي دخلت على اتفاقيات بازل التي تضبط عمل البنوك، ومعايير المحاسبة الدولية التي تنظم أُمور المحاسبة والموازنات واحتساب الأرباح والخسائر لدى الشركات بما في ذلك البنوك، والاستغلال غير المنضبط لوسائل الاتصال ونقل ملكية الأموال خاصة الانترنت. في السابق كانت المؤسسة التي تشتري قطعة أرض تسجلها في دفاترها بقيمة الشراء وتبقى كذلك حتى لو تضاعفت قيمتها السوقية ألاف المرات. فلا مجال لاحتساب أرباح إلا إذا تم بيع العقار بيعاً حقيقيا. الأمر لم يكن عادلاً، عالجته معايير المحاسبة الدولية بطريقة سيئة، أصبحت الأرض تقيم بالقيمة السوقية على الأقل مرة في السنة، مع تزايد المضاربات على أسعار الأراضي زادت قيمتها، وزادت مع ذلك عمليات التقييم التي قد ينفذها شخص أو أكثر ويبالغ في تقدير قيمتها مقابل حفنة من الدولارات تدفع له. الحال كذلك انسحب على البنايات، فأصبحت ممتلكات الشركات من العقارات تـُثبت في ميزانياتها بأكثر من قيمتها الحقيقية، فتتضخم موجودات الشركة ( حقوق الملكية) بشكل وهمي. الأسهم التي تمتلكها الشركات، مثلاً شركة أ تملك 1000 سهم من أسهم شركة ب، في السابق كانت الأسهم تثبت في دفاتر الشركة المالكة بسعر التكلفة أو القيمة السوقية أيهما أقل. بعض الأسهم كانت تكلفته مثلاً 1 دولار وقيمته السوقية 10 دولار فكان يثبت بقيمة 1 دولار، جاءت التعديلات لتثبت قيمة السهم بسعر السوق، وطبعاً الفرق يعتبر أرباح. تسارعت عجلة المضاربات على الأسهم والعقارات خاصة في ظل تسير عمليات الاقتراض من البنوك لتمويل لتمويل المضاربات. حتى في البلاد العربية أذكر شركات مساهمة كانت تؤسس برأس مال يتكون من عشرات ملايين الدولارات، في نظامها الداخلي وعقد التأسيس تشعرك بأنها سوف تبني البلد، فقط حفر القبور ودفن الموتى لا تتحدث عنه، كانت تستأجر غرفة أو غرفتين أو تأخذ غرفة من مقر شركة يسيطر عيها نفس الأشخاص الذين يسيطرون على الشركة الجديدة، من أجل البريستيج يتم تعيين موظفين أو ثلاثة واحد منهم يكون سمسار أراضي وواحد سمسار أسهم تتخصص الشركة في امتلاك الأسهم والعقارات والمضاربة عليها وتمويل ذلك بجزء كبير من رأس المال بالإضافة إلى القروض من البنوك. أسهم هكذا شركات كانت معظم أيام السنة ترتفع جراء المضاربات بنسبة حوالي 5 % حتى أن وصلت القيمة السوقية لسهم الشركة التي كانت قيمة سهمها الاسمية تعادل 7 دولار جراء المضاربات وصلت قيمته السوقية إلى أكثر من 197 دولار!!! علماً أن قيمته الدفترية ( حاصل تقسيم صافي قيمة الموجودات بعد طرح الالتزامات والتي تتضمن أسهم وعقارات مبالغ في تقدير قيمتها) كانت أقل من 15 دولار. الشركات التي تستحوذ على ( تمتلك) أسهم هكذا شركة كانت تثبت في دفاترها قيمة السهم على أنها تعادل 197 دولار. ( على الدفاتر حققت أرباح وهمية طائلة) ومن اشترى منها هكذا سهم اشترى بالوناً منفوخاً بالهواء. البنوك كانت في السابق عندما تريد أن تعطي شخصاً قرض لتمويل شراء أرض، أو سيارة، أو سلعة ما، أو بناء تتحفظ في تقدير قيمة ما يراد شراؤه، وتطلب ضمانات حقيقية كافية متحفظ في تقدير قيمتها، مع العولمة أصبحت تمنح قروض لمن هب ودب بمبالغ طائلة، وضمانات رمزية، وحتى مع رمزيتها يكون مبالغ في تقدير قيمتها، الواسطة والمحسوبية ونفوذ المسيطرون على البنوك كان له دوراً في منح القروض. البنوك شجعت الناس على الإسراف على التبذير، تسابقت في استقطاب الناس خاصة شريحة الموظفين لإغراقهم في ديون من أجل شراء سلع استهلاكية، وسيارات، وأثاث....ألخ.زاد جشع البنوك لجمع الأموال من أجل أن تعيد إقراضها للناس، لدرجة أن بعض البنوك في الغرب وفي شرق أسيا أقامة محافظ أسهم وسندات أسمتها إسلامية ( وهي ليست كذلك) من أجل استقطاب أموال الذين يريدون استثمارها في أُمور غير ربوية وغير محرمة. الكثيرون تركوا وظائفهم أو أهملوا متطلبات وظائفهم وأصبحوا يضاربون على الأسهم من خلال أجهزة الانترنت والفاكس والهاتف الموجودة في مكاتبهم لأغراض العمل. الكثيرون أهملوا أشغالهم الخاصة في الزراعة والصناعة وغيرها وتفرغوا للمضارة في البورصات. الذي كان يجمع أسهم ويرى قيمتها السوقية تزداد يومياً كان منشغلاً في احتساب الزيادة اليومية في قيمة ثروته، وبالغ في نفقاته( زيادة الدخل خاصة غير المتعوب عليه يصاحبها زيادة تبذير) والكثيرون اقترضوا من أجل شراء أسهم أُخرى، إلى أن وقعت الكارثة وانهارت أسعار الأسهم، وهربت الحيتان من السوق بعد أن ضاعفت أسعار الأسهم وباعت ما لديها أو جل ما لديها من أسهم للناس المتهافتين على شرائها. في الكثير من البلدان ملايين افتقروا مقابل مئات من المضاربين دخلوا عالم الملايين والمليارات. تريليونات من الدولارات أصبحت تستخدم للمضاربة في البورصات على أسعار الأسهم والعقارات والبترول والذهب...ألخ الأسعار حلقت عالياً البالون انتفخ ثم انفجر. دخل النصب بعض الأسواق العربية من أوسع أبوابها، مجموعة منحرفين، ضالين، نصابين مجرمين يشكلون شركة وهمية هنا أو هناك تحت عنوان استثمار أموال الناس في أسهم وبورصات عالمية مقابل أرباح طائلة. في الشهر الأول يجمعون أموال من حسني النية ويتصرفون بتلك الأموال، ما يجمعوه في الشهر الثاني يدفع جزأً منه لأصحاب الأموال التي جمعت في الشهر الأول بنسب وصلت إلى 25 % من رأس المال على اعتبار أنه أرباح حققتها أموالهم من عملها في البوصات العالمية!! وهكذا. الناس، النساء، الأرامل، الذي يشقى من أجل أن يبني بيتاً سمعوا بأخبار الأرباح الطائلة، لم يكتفوا بما لديهم من سيولة، بل باعوا ما يمكن بيعه من ممتلكاتهم وراجعوا تلك الشركات ترجوها أن تستثمر أموالهم، بل الكثير منهم كان لا يأخذ ( أرباحه) بل يطلب منهم إضافتها إلى رأس ماله حتى تتضاعف الأرباح وهذا ما كان يـُسعد النصابين. الشركة بعد شهور من اللعبة القذرة كانت تتبخر وتتبخر معها أموال الناس!! حتى أُناس من علية القوم في وظائفهم كانوا من ضحايا هكذا عمليات. بعض النصابين حضروا إلى الأراضي الفلسطينية وجمعوا أموالاً من أهالي البلدة التي لا تتشرف بنسبهم لها، فتحوا لهم مكاتب فيها، وبعد ممارسة اللعبة لشهور تبخروا وتبخرت معهم الأموال. والأسواء من ذلك أن البنوك خاصة في أُوروبا وأمريكا كانت تجمع القروض التي تمنحها بضمانات وهمية ، مثلاً القروض العقارية، وتصدر سندات دين بضمانة تلك القروض فتبيع تلك السندات للآخرين، أي تحصل من الناس أفراد واعتباريين على قروض بضمانة القروض التي سبق ومنحتها، وذلك من أجل أن تستمر في منح قروض جديده. سندات الدين قابلة للتداول حيث كانت تباع من شخص لأخر. بدأت تتعثر بعض البنوك وشركات التأمين خاصة في أمريكا جراء مضارباتها، وجراء تخلف الكثيرين من الذين تورطوا في أخذ قروض استهلاكية أو قروض للمضاربة وخسروا أموالهم حيث تخلفوا عن سداد ما عليهم من أقساط لتلك القروض. البنك الذي باع تلك القروض بسندات دين لبنك أو جهة أُخرى أي حصل من هذه الجهة على قرض بضمانة ديونه عجز عن سداد أقساط القروض المستحقة عليه، لأنه لم يـُحصل من الناس أقساط القروض التي منحها لهم، واجه عسر السيولة، بداءت أخباره تتسرب. هكذا بنك أصبحت قيمة سهمه في السوق تهوي، المودعون لديه بداؤا في سحب أموالهم ، زادت عدم مقدرته على دفع المطلوب منه، انهار البنك وانهارت معه الشركات التابعة له. بدأت عقدة هكذا بنوك في أمريكا وأُوروبا تفرط، أصبحت أسعار الأسهم تهوي، الأشخاص الشركات من مختلف أنحاء العالم الذين اشتروا هكذا أسهم أصبحوا يحسبون خسائرهم دون وجود من يشتري الأسهم قبل أن تهوي أكثر. انتقلت العدوى إلى مختلف بلاد العالم ( العولمة جعلت العالم قرية صغيرة، وجعلت اقتصاد مختلف الدول مرتبط بالاقتصاد الأمريكي والكثير من البنوك خارج أمريكا كانت تمتلك أسهم شركات أمريكية) فجأة انتشرت العدوى صيف عام 2008 إلى مختلف أسواق العالم، أصبح حملة الأسهم ( مالكيها) يشاهدونها وهي تهوي يومياً، البالون كان منفوخاً وانفجر بعضهم سارع إلى بيع ما يملك من أسهم بأقل الخسائر،وبعضهم اعتبرها سحابة صيف وأبقى على أسهمه على أمل أن تعود وتنتفخ إلا أن التنفيس ما زال مستمراً، فمثلا بعض أسهم الشركات التي كانت قيمتها السوقية 20 دولار واشتراها المستثمر بهكذا سعر أو أقل بدولار أو دولارين أسعارها في السوق حالياً بضعة سنتات ولا يجد من يشتريها!!! الغنائم ذهبت لعلية القوم في الشركات خاصة البنوك الذين أصبحت رواتبهم بمبالغ فلكية، وما زالت ،وكذلك لكبار المضاربين، بعد انفجار البالون أصبحت الشركات تستغني عن أعداد كبيرة من الموظفين، زادت جحافل العاطلين عن العمل...ألخ تراجعت قيمة الضرائب التي تحصلها الحكومات من أرباح الشركات، بل أصبحت بعض الدول تضخ من أموال الخزينة العامة لوقف انهيار البنوك والشركات الكبرى، زادت الشرائح الفقيرة التي تحتاج لمساعدة الحكومات التي تراجعت مواردها...ألخ. زادت بعض الدول خاصة الولايات المتحدة من طباعة أوراق نقد وضخها في السوق لمواجهة أزمة السيولة،تراجع سعر صرف الدولار وتراجعت معه أسعار صرف العملات المرتبطة بالسيد الدولار. كأن هذه المأساة بما صاحبها من إفقار ناس وإخراج آخرين من عملهم لم يكفي، كي تصاحبها أزمة أُخرى وهي الارتفاع الحاد الذي شهدته أسعار النفط والمواد الغذائية مع تراجع القيمة الحقيقية لدخول محدودي الدخل من موظفين وعمال وغيرهم...فأصبح العالم يدور في حلقة الاقتصاد الحر المنفلت الأناني والعولمة ونتائجها السيئه. فلا الاقتصاد المنغلق الكسول المسخر لخدمة علية القوم الذي كان سائداً في الاشتراكية، ولا الاقتصاد المنفلت الجشع الأناني الذين يخدم الاحتكاريين والمتنفذين والانتهازيين السائد حالياً يمكن أن يخدم الإنسان. [email protected] |