وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

طفولة قديمة / المتوكل طه

نشر بتاريخ: 08/01/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:25 )
يتقشّر الليل بهدوء، أو يتبخّر تدريجياً،
ويصعد ما تبقّى من حِبْر شفيف إلى البعيد،
وينبلج الصُبحُ بارداً،
ونبدو كأننا التماثيل الصّلبة
التي استيقظت بكامل عافيتها.
ونتجاوز البيوتَ الهادئة المطمئنة،
ونعبر الطرقاتِ الترابية الملبّدة،
والمفضيةَ إلى الحقول الباذخة، في
آخر ساعات هذا الليل النهاري.
ويكون الزُّرّاعُ والفلاحون، مصحوبين
بأولادهم ونسائهم، قد ولجوا الزَّرْع،
ولم يتبق منهم سوى الهسيس وصدى
النداءات الخافتة،
وخلفهم غيم الطوابين وبخور القمح المخبوز.
ومع انتهاء الضحى، وصعود الغزالة
رمحين في السماء، يكون الفلاحون
قد أنهوا أعمالهم، وعادوا إلى بيوتهم
يفيضون بالعرق البارد والخضرة البهيجة
والخيرات العارمة الشهيّة، تواكبهم
رائحةُ الأرض والثمر الفّواحة،
وخلفهم الحقول المقلّمة بأتلام
الغرين المترقّب، كأرحام
العرائس، للبذور المنعوفة
بفرحٍ واطمئنان.
وعلى ثيابهم البُقع الخضراء وبقايا الطين العالق،
وأجراسُ الدواب التي تخبّ إلى مراقدها.
* * *
في الحقول المتراصّة المرصوفة،
تنفرد الأرضُ الحليقة لتوّها،
ولم يتبق على وجهها غير العقير النابز،
أو صليبة قمح أو شَعير أو حابون حِلْبة أو ذُرة،
كأنها أَهرام انفرطت وتعلو
بحبوبها اللعوبة .. العابقة!
والبيادر المتفتّحة تشرب رذاذ نجومها الماسيّة.
هنا، ثمة محراث يفترع الأرض فيفتحها ..
لتصعد من جراحها الريّانة فحولةٌ تعبّيءُ
المدى .
وفي الأعالي الواطئة رفّ
الشنّار الدارج والسابح
في فضاءات حرير الصّبا.
وهناك؛ القامات المنحنية، كأنها تركع،
لتلتقط القرون الخضراء والأزرار الحمراء،
أو تجزّ قامات العروق المائسة .
وترى عن كثب؛ رجلاً بفأسه يُجلَّف
ويحوّط ويُمسِّد، كأنه يرسم لوحة
من التراب المنُقّى، ليَبْذُر
أو يزرع، في أحواض ومساكب تشكّلت
كلوحة الشطرنج المالسة..
وحولك مَنْ يملأ حاويات القش
أو السلال بأكوام الخضرة والإضمامات،
ويرتّبها كالجدائل، ويسوّيها ليظهر أحلاها..
وفي كل الجهات؛ تتناثر المواقد،
والأيادي تتحلّق حولها، تأكل وتشرب بحركات
هانئة رتيبة.. وهبوب الزاد في كل مكان.
ويتنادى الجيران، يتعازمون ويدعون بالعافية
لبعضهم البعض.
وتظلّ الحواكير وأعراس الحصاد والزّرع
وسحابات الجذورالفوّاح،
وما سيسكن الجرار والخوابي ..
مشهدي الأثير.
وسأذكر، كيف كانت حِزم
أشعة الشمس الطازجة تقع صلبة
على الأرض.
فينبسط دثارُ الذهب الغامر،
وتتجلّى الزهور البرّية، بلونها الجلّناري
الذي يكاد دمُه ينقط على التراب،
وبركان التيجان تتزاحم لتشكل
بساطاً سحرياً يخفق .. كأنه
سيطير، دون جدوى !
وتطالعك تجاعيد الجبال الملتحية
الخلاّبة، والحصان المكحّل يصهل
في قلبها الزيتوني، فتعلو نافورة
النثار المضيء.
وكأن الناي يتماوج فيجرح صفحة
النابض المتوثَّب الظمآن،
والمثخن بزهر النبيذ المُشرق
كدوائر النور الملّون.
وعلى ضفاف السناسل المرتّبة، بعناية
أصابع الآلهة القديمة، تشهق حبّات
العسل الفتيّ .. والشجر يتنفّس بعطر الصخور.
هنا؛ الجمَال هو صاحبُ هذه الأرض،
أما نحن البشر، فقد كُنّا سكّانها
ليس إلاّ .

* * *
ولعل تلك الصباحات العامرة الماتعة
المزدحمة بأنفاس الطبيعة النافذة،
هي كرنفال طفولتي، الموشوم على
صفحات روحي وقلبي وعقلي .
وبالتأكيد، لن أنسى تلك الطرقات،
هائشة الأطراف،
والممتدة بموازاة سلسلة الجبال،
التي كانت تحيط المدينة..
تلك المدينة الوردية التي كُنّا نسمع
حكايا جنودها و حرّاسها ومليكها من آبائنا.
كان الكبار يصوّرونها كمدينة سماوية
محفوظة بالصخر، وأهلها يقطنون مغاير
محفورة، باستواء وهندسة، كأنها بيوت
مُعلّقة على سفوح الجبال،
كأعشاش النسور المحدّقة في الأبعاد.
وكم تمنّينا أن نعبر السيق الطويل،
المنسرب في جوفها كالأفعى الخُرافية،
والموصل إلى ساحة الخزانة أو
المدرج أو السوق أو المذبح.
وقيل؛ إن المدينة كانت تفتح أبوابها
بضع مرات في السنة، ليدخلها الأقيالُ
وشيوخ القبائل وكبار الكهنة، ليسلّموا
على الحاكم، ويؤكدوا ولاءهم لعرْشه
الوثير، ويقبّلوا يديه .. وينالوا الرّضى،
ويعودون بقصص الوَصْف والمديح والإعجاب،
مبهورين بما رأوا ولمسوا.
غير أن الحاكم منع تلك العادات، ولم يعد
لهؤلاء أن يصلوا إلى أعتابه،
إثر محاولة أحدهم طعنه بخنجر مسموم،
كاد أن يودي بحياته ..
ولم يسمح بعبور المدينة إلاّ للكهنة،
ليؤدوا طقوسهم في المعبد الكبير،
مرتين في العام، ليضعوا
في غبغب الآلهات ما جمعوا من قِطَع
نقدية دفعها إليهم الناسُ، لتصل إلى منتهاها،
في حفرة صغيرة أمام أقدام الأصنام.
غير أن حُرّاس المعبد كانوا يجمعون
الذهب والفضة، ليضعوه بين يدي
قادتهم، الذين كانوا يدّعون أنهم
يرفعون تلك الأموال لسيَّدهم صاحب القصر،
الذي تحرسه الآلهات.

* * *
كان ثلة من الخياّلة الجنود يدخلون
المدينة، بغتةً، ويتّجهون مباشرةً
إلى بيت شيخ المدينة، الذي يستمدّ
قوة حُكْمه للناس، من أتباع الحاكم،
الذين يكلّفونه بجمع الضرائب، أو
جمع العُمّال، أو انتقاء بعض
الفتية لتأخذهم المدينة ليصبحوا
حُرّاسها.
وكثيراً ما ينادي شيخُ المدينة في الجموع،
ويطالب الشبانَ بالحضور إلى
مَقرّه، لينتقي الجنودُ العددَ المطلوب منهم،
ليعملوا داخل المدينة، سُخْرةً، مقابل
طعامهم ونومهم، ولمدة قد تصل إلى الموسم
أو السنة أو العشرين ..
ولطالما تحدّث بعضُ مَنْ عاد منهم، عن
الشقاء والبؤس والعبودية، فيما كان
بعضهم يعبّر عن فخره بأنه دخل المدينة
ورأى واجهاتها، على الرغم من بعض
القسوة أو الجوع أو البرد، أو
موت بعض زملائه تعباً أو مرَضَاً،
والذهاب به إلى جهة غامضة !
أما الحُرّاس، فكان الخياّلةُ ينتقون
الفتيان الذين لم يبلغوا الحُلم بعد،
والذين قاربوا على العاشرة أو
الثانية عشرة من أعمارهم، وعليهم
علامات الصحّة والقوة، دون
أن يجرؤ آباؤهم على الاعتراض أو
الرفض !
في المدينة، ثمة معسكر يدخله هؤلاء
الأطفال، ليصبحوا بعد ثلاثة أعوام
من التدريب والتشذيب والتلقين ..
فرسانَ المدينة !
يذهب بعضهم لحراسة البوابات أو
الطرقات أو البيوت ..
ويتنقّلون من موقع إلى آخر .. فيما
يتم انتقاء الأكثر قوّة وطولاً ووسامة،
ليصبحوا حُرّاس القصر والحاكم.
ويتم إخصاء هؤلاء الفتية الرجال، حتى
يأمن الحاكم على حريمه، وحتى ينقطع هؤلاء
لخدمته، دون نازع أو رغبة في
التملّك أو الاقتران أو الزواج.
إنهم رجال ناعمون أشدّاء بلا خصوبة
أو شهوات ! مكرّسون للمنافحة،
بأعمارهم، عن سيّدهم المُقدّس !
وإذا ما تَعِب أحدهم أو أصابه الوهن
أو المرض، فيتم نقْله للعمل في أشغال
الطبخ أو النظافة، على أن يقطعوا لسانه،
حتى لا يسرّ لأحدٍ بما رأى في القصر !
أو يقدّمون له شراباً ممزوجاً بسمّ ناقع،
ويحملونه إلى حفرات مُعدّة خارج أسوار المدينة !

* * *
ولشيخ المدينة عددٌ من النساء
والجواري والإماء والخادمات،
يكلّف أحذقهن بالبحث عن فتيات
حسناوات، ذوات قوام ونضرة،
لأخذهن وصيفات وخادمات في المدينة !
ويحمل الخيالةُ الصبايا رغم صياح ورجاء
وحسرات آبائهن ونداءات أمهاتهن،
ويبدأ إعداد الصبايا وتوزيعهن على
بيوتات القادة والوزراء،
ويتمّ فرز أجملهن إلى القصر،
للعمل في عرصاته وجنباته وغُُرَفِه ..
وجميعهن مبذولات للحاكم أو
لمَنْ يشاء !
ومَنْ تحمل منهن، يأخذنها إلى
مقصورة الوالدات .. حتى تضع حَمْلها،
وتبقى مع وليدها عاماً تُرضعه،
إلى أن يأخذوه منها، رغم صراخها المذبوح،
إلى دار يكبر فيها هؤلاء .. ليصبحوا، فيما بعد،
حُرّاساً آخرين !
* * *
كُنّا مأخوذين بالمدينة المُغلقة، ومفزوعين منها..
فيما كان الآباء يَرْجُون السماوات لترزقهم بالذكور،
حتى لا تُساق بناتهم إلى المجهول المفضوح !
أما مَنْ كان يخاف على أبنائه .. فكان يهجر المدينه؛
يبيع داره، ويحمل أثاثه الخفيف، ويرحل،
دون أن يلوي على شيء.
وظلّ هذا الحال،
حتى لم يعد في المدينة رجالٌ
يدافعون عنها، أو يموتون شهداء على بواباتها .
لقد رحلوا عن المدينة، وأداروا ظهورهم لها،
كأنهم الذئاب المُتعبة .. من كل شيء.