وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

صرخات خديجة ... هل استطاعت أن تحيي ضمائرنا !؟

نشر بتاريخ: 23/03/2012 ( آخر تحديث: 24/03/2012 الساعة: 10:02 )
نابلس - معا - كتبت رولا سلامة - لم تكن صرخات خديجة كافيه لتحيي القلوب بعد أن ماتت لعشرات السنين ، ولم تكن خديجة لتأثر في النفوس ، فقد اعتبرت ميته مع وقف التنفيذ ، فمن منا يكترث لسيدة تجاوزت العقد السابع من العمر ، مدفونه بين الأحياء في قبو لا يصلح ضمن مفاهيم الانسانية لأن يكون مأوى أو مسكن لبني البشر ، لكن خديجة تحملت وصمدت وصرخت وجاعت وعطشت وتعرت ولكن لا من مجيب ، فنحن نعيش في زمن دثرت فيه معاني الانسانية ، وابيدت فيه كل مشاعر الحب والعطاء والأمل ، وغابت عنه شمس الحق والحرية ، وجل تفكيرنا انصب على البحث عن ملذات الحياة وجمع المال والبحث عن الوسائل المتعددة لانفاقة ، أصبح الانسان في مذكراتنا رقما ، وأصبحت الانسانية شعارا كان ما قبل التاريخ ، وأضحت المبادىء مزيفة والحب كلمة نحتفل فيها مرة كل عام ، وانتشرت المؤسسات التي تعني بالانسان المواطن على امتداد خارطة الوطن من شماله الى جنوبة وبعرضه وبطولة لتقدم الدعم النفسي والتدريب والتثقيف لقطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني ، ولكن خديجة لم تكن واحدة من هذا الشعب .

|168853|

قد يكون اللجوء والحرمان وكرت الوكالة وغرفتها التي تتحدث عن واقعها حقائق موجودة ، ولكن الحقيقة التي بين يدي الآن تشير وبدون أدنى شك الى أن خديجة لا تمتلك أي من الأوراق الثبوتية وشهادة الميلاد والهوية الشخصية ، فقد نسيها الزمن وعاشت البؤس والشقاء والحرمان لعشرات السنين ، فقد حكم عليها أن تدفن في قبو ويكون ونيسها الأوحد هناك أصوات تخرج من زريبة للمواشي ملاصقة لغرفتها ، فأبسط ما يقال عن واقعها أنها تعيش مع المواشي وبعض القطط التي تأتي لتطمئن عليها وتشاركها كسرات الخبز التي تتناولها وبعض ما يرسله الجيران عند سماعهم بصرخات خديجة وسماعهم لتوسلاتها بطلب الطعام بعد أن تجوع ولا تجد من يفتح باب غرفتها ويزودها بلقيمات معدودة لا تكفي لاشباع قطة من قطط المخيم التي تأتي لتتجمع حول غرفتها بسبب رائحتها الكريحة وتعدد استخداماتها ، فنحن نتحدث عن غرفة أشبه ما تكون بقبو جهز خصيصا لامتهان كرامة الانسان ، اعد مع سبق الاصرار والترصد ليكون سجنا هيء لها لتقريب ساعة أجلها التي لا يعلمها الا الله ، تفنن بتعذيبها نفسيا وحرمانها بعد أن فرض عليها واقعا رفضته هي حتى اللحظة الأخيرة ، كانت تتحدث بخجل عن اضطرارها لقضاء حاجتها ليل نهار في زاوية من زوايا القبو ، وفي الزاوية الأخرى فرشة عمرها عشرات السنين وعليها وسادة وغطاء أبسط ما يقال عنهم أنهم لم يروا النور ولا الشمس ولا حتى صابون الغسيل لسنوات وسنوات .

|168851|

كانت خديجة تميل لتقترب مني وتحدثني بصوت منخفض خوفا على سلامتها وخوفا من أن تتسلل بعض كلماتها لاذان فتعاقب بعد خروجنا من المنزل بالضرب أو بالصراخ أو حتى بالحرمان من تناول كسرة الخبز أو ما يرسله الجيران ،كانت كلماتها الأولى عندما شاهدتني وطاقم برنامجي " فلسطين الخير " كلمات لا زلت أذكرها بأحرفها وتوسلاتها " خذوني للملجأ ، خذوني من هون "وهل يمكن للمرء أن ينسى واقعا كهذا ، وهل يمكن لصورة كهذه أن تمحى من ذاكرة أي منا ، فوقع كلمات خديجة كانت كالصاعقة التي غيرت مسار حياتي وجرعتني بألم وغضب لم يستطع أن يدخل حياتي قبل هذه اللحظة ، كلماتها خرجت من أعماقها تتوسل وتكاد تبكي وهي تناشدنا ، فماذا عساكم أن تفعلوا لو وصلت كلمات خديجة لآذانكم ؟

|168850|

قصة خديجة ببساطه أنها تعيش مع ابن شقيقها وزوجته وأولاده العشرة أو ما يزيدون ، هي عزباء وتعيش هذا الواقع منذ ما يقرب من ثلاثين عاما ، كانت قبلها تعيش في كهف في مدينة نابلس مع شقيقها ومن ثم انتقلت لتعيش في مخيم عين بيت الماء في مدينة نابلس بهذه الغرفة التي لا ترى النور ، وبعد وفاة شقيقها بقيت تقيم في الغرفة مع ابن شقيقها والذي يقوم بتربية المواشي في الغرفة الملاصقة لغرفة خديجة في وسط المخيم ،وتنبعث رائحة كريهة من الغرفتين ، غرفة خديجة لا يمكن تفريقها بأي حال من الأحوال عن غرفة المواشي ، لا بالشكل ولا بالرائحة ولا بالأوساخ المتراكمة في زوايا الغرفة وعلى جدرانها لتصل للسقف الذي يئن من الأوساخ التي يحملها ويستصرخ ولا مجيب .

|168849|

قد يكون القدر مصحوبا بصحوة الضمير ممزوجا بالخوف من المستقبل المجهول يدفع بني البشر لرفع الظلم عن أقرانهم ، وقد يكون الخوف من محاسبة الضمير لأولئك الذين ما زال لديهم الضمير، وقد يكون الواجب الأخلاقي والمسؤولية الاجتماعية قد تحركت بعد أن نفذ الصبر ولم نعد نحتمل الانتظار أكثر ، وقد يكون كل ذلك معا قد حرك ذلك الشرطي الشاب ليبادر للاتصال معنا ويبلغنا عن قصة خديجة ومصيرها ، فتحية تقدير واحترام أرسلها لجهاز الشرطة الفلسطينية ، فقصص نجاحاتكم وانسانيتكم وانتمائكم الصادق قد غيرت حياة الكثيرين واستطعتم أن ترسموا الغد الأجمل لمن حرم من الحياة الكريمة ، وها أنا اليوم اضيف باسمي وباسم نساء فلسطين وسام فلسطين الأمل على صدرك أيها الشرطي الشاب أيمن واكد .

|168848|

خديجة ، دفعت ثمن اللامبالاة وعدم الانتماء والتجاهل وغياب العدالة الاجتماعية لسنوات عديدة ، كانت تصرخ ويصل صوتها لعشرات البيوت ومئات الأفراد داخل المخيم الذي تعيش فيه ، لم يبالي أحد بتلبية نداءاتها المتكررة ، ولم تصل استغاثتها لذوي القلوب الرحيمة الا متأخرة، بعد أن أكل الدهر من صحتها وشبابها ، وبعد أن أصبحت لا تقوى على المشي ، وبعد أن احدودب ظهرها وشاب شعرها وأكل المرض من جسمها النحيل ولم يبق منه شيئا ، فعسانا نتعلم درسا بعد قصة خديجة ، فها نحن نحتفل في شهر اذار من كل عام بيوم المرأة العالمي وعيد الأم ونجمع الورود والهدايا والحلوى ويفيض المنزل بما لذ وطاب ، ونجلس لنحتفل مع أحبتنا ، وننسى خديجة وأمثالها ، وننسى امهاتنا وجداتنا ونساء الوطن ممن حرمن كثيرا وعانين كثيرا وممن يتواجدن في بيوت المسنين ودور الرعاية ، فدعونا نطلقها صرخة مدوية لا احتفالات ولا تكريم ولا ورود ولا عطور ، لا توزيع للحلوى ولا للنياشين ، لا القاء للخطابات والكلمات ، لا تكريم الا للنساء المحرومات ، فأمثال خديجة من يستحقون التكريم والتعويض عن الضرر النفسي والاجتماعي الذي تعرضن له ، وأمثال خديجة من يستحق أن نحتضنهن ونكافأهن ونواسيهن ونساعدهن على رسم بسمة قد تغير مسار حياتهن ، أن نعلمهن كيف تكون البسمة ، كيف تتحرك الشفاه لاستقبال الضحكة ، وكيف بالارادة والتصميم والتكافل والدعم النفسي والمؤازرة نستطيع أن نضيء شمعة في حياة المحرومين أمثال خديجة .

|168847|

خديجة ، استغاثت فلبينا نداءها بعد أن سمعناه ، وخديجة تمنت لسنوات وسنوات أن تذهب لتعيش بكرامة ، بارادتها انتقلت لبيت المسنين وبارادتها غيرت حياتها ، وبدعم ذوي القلوب الرحيمة وبمساندة من سمعوا قصتها فوقفوا الى جانبها ، فتحية ابرقها باسمي والمخرج محمد فوزي والمنتج خليل حسنية وباقي طاقم "فلسطين الخير " الذين ابدعوا في عملهم، نحي أولا لخديجة وعهدا أن لا ننساك فقد غيرت قصتك حياة الكثيرين ، وأعادت الأمل لحياة المحرومين ، وتحية اخرى ارسلها لمحافظ نابلس السيد جبرين البكري وطاقم المحافظة ممثلا بالسيدة عنان الأتيرة والسيد غسان المصري الذين لبوا نداءنا واستغاثة خديجة وأنقذها من الموت المحتم ، وعلينا أن لا ننسى هنا طاقم الهلال الأحمر الفلسطيني والسيدة بداية كنعان ام ناصر مديرة بيت المسنين في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والتي انتشلت خديجة واحتضنتها وغيرت حياتها .