وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

جُرعة النار إلى قدّيس الارض عبد الله علاونة / المتوكل طه

نشر بتاريخ: 25/03/2012 ( آخر تحديث: 04/04/2012 الساعة: 09:28 )
صورته المعلّقة على الجدار، ذات إطار بسيط قديم، تبدو ألوانها قد بهتت قليلاً. تمعن النظر إليها، فيصحو الرجل وتلفحك أنفاسه، ويصل صوته الدافيء إلى أذنيك، فتمدّ ذراعك لتصافحه أو تعانقه، فتصل إلى الجدار، وتعود إلى رشدك .

ثم تنظر إلى وجهه، وتردّ على ابتسامته الرسولية بضحكة أنيقة حقيقية، وتومىء برأسك كأنك تلاقيه بتحيّة، تليق بأسطورةٍ من عمالقة البلاد، الذين أحالوا ملصقاتهم إلى أيقونات، فَتَعي من فورك أن الرجل يتماوت، وأنه حيّ يختبيء تحت الشاهد، وسيعود عمّا قريب، فاجلس وانتظر، لأنه سيقرع الباب ، وسيملأ المكان .

وتعاود تفحّص الصورة فيتراءى لك أن ألف حصان وحشي يُحاول الخروج من النهر، وأن الرذاذ الناري يتناثر في كل اتجاه. أو أن كل البراكين المخزونة قد تفتقت وراحت تصّاعد بغيومها الحمراء، الفوّارة، وتتكوم، وتجري في جداول ساخنة، راسمةً لوحة جحيم أخّاذ، سيسحب في تضاعيفه كل فقاعات الهواء والعدم الرديء.

أو أن غابة بالبَرْقِ الذي يشقّ العتمات قد امتلأت بالماء، الذي راح يطفو، حاملاً معه الشجر الذي فارق عَرْشه الأبدي إلى البعيد. أو أن رجلاً له ملامح التقاء الساحل بالجبل، على رأسه إكليل كرز، وفي عينيه حلم مُعجِز، قد وُلِد في زاوية الراوية في العقد القديم، ذات ربيع دافق، فامتلأ بالشّهد، وجرى مع السحاب الأليف، وحفظ النشيد أو آية التراب، وكان اسمه عبدالله.

***

""عائشة لعبد الله وعبد الله لعائشة"، هكذا بدأ الأمر، وتزوّجا ولمّا يبلغا السادسة عشرة من عمرهما، وهذا هو سِبْر الناس في القرى.

كانت أسرتاهما جارتين في قلب البلدة، ذات الينابيع المتفجرة، تحت كل بيت وبعد كل محراث. واتفق أن عبدالله قد جعل "العقد القديم" بيت العائلة، الذي دثرت الجرافاتُ الصغيرة مقدمتَه فأصبح مُشرعاً على الشارع، صالونَ حلاقة له، بعد أن أمضى ثلاث سنوات من عمره الغضّ بعد زواجه مباشرة، في السجن، فتعلّم هناك الحلاقة وتشذيب الشوارب واللّحى، جاعلاً زملاء المعتقل تجاربه، ما جرّ عليه السخط والنكات، ولحقته جملة (تعلّم البيطرة في حمير النَوَر) .
وأُطلق سراحه، متوقداً، أكثر وعياً، وقدرة على هندسة الرؤوس، وواصل مهنته التي أتقنها، بالصحّ والخطأ، على رؤوس الفلاحين، الصبية والحرّاثين، وعاش مع صغاره وزوجته، ليُعتقل ثانية وثالثة وعاشراً، حتى قدَّ من عمره القصير عقداً كاملاً في الزنازين والغرف المعتمة .

لقد بقي متزوجاً ثمانية عشر عاماً، راح منها عشر سنوات في القيود، وبقيت ثمان سنوات وَهَبَهُ اللهُ فيها مع عائشة ثلاثة أولاد وأبنتين، قبل أن يرحل نهائياً عن صالونه وأقبيته الرطبة، ويسكن الجنّة .

***

لكَ جُرأةُ الموسيقى، وفي صوتك شرايينُ الشهداء ودمع الجُلنّار الحزين. وفي ناظريك مقاصل الليل التي أودت بِدير ياسين وقانا. وبين يديك السريّس الذي امتصّ ريق الصخر المغسول بدم الشيخ. وعلى قدميك البلّور النادي في الفجر. وفي ظهرك تتنفّس البشرية الخارجة إلى خلاصها، والضبع يلوك حقائب صغارها المذعورين.

ومن فوقك غزلان الغيم لحارسة الساحل الأبجديات والزيت والقلاع. وفي كل خليّة تنبض في جُرْمكَ، تتضوّع القدسُ بزيتونها وقبابها وشرفاتها الباذخة، باللبلاب والمنثور. وفي غَدِكَ موّال النّصر وانبلاج الغرف وأجراس القوافل العائدة بالحنّاء.

وفينا أنتَ وأنتَ. ويكفي أنكَ أنت.

***
كان أنصار 3 المعتقل الصحراوي المحطّة الأخيرة لعبدالله، حيث الانتفاضة العبقرية الأولى في أوج إندفاعتها واتساعها وألقها، مثلما كان المعتقل خياماً تضفضف بالجسارة والغضب والرجال، ومرجلاً يعيد صياغة أكثر من ثمانية آلاف معتقل، يزلزلون ليل الصحراء ويشعلونها بأغانيهم وثباتهم، حتى بات المعتقل قلعةً يتصادى في جنباتها موت الموت، وصوت الحياة، ويلد الأمل مع كل صرخةٍ أو قيدٍ، أو مواجهة تسفح الدم سخياً على العوسج، والذرّات المنفرطة تحت الأقدام الراسخة .

كان عبد الله أو "أبو الأمجد" كما يناديه إخوته، قائداً فذّاً من قادة المعتقل، فلّع الأسلاك الشائكة بيديه العاريتين، ساعة فتح الجنود نيران بنادقهم على المعتقلين، فتبعه الالآف، الذين طوّحوا الأسلاك المجدولة الناتئة ومدافع الغاز والكلاب، إلى ما وراء الصدى، قبل أن يذهبوا بهم إلى الزنازين والعذاب من كل لون ساديّ .

***
تغريك الصفحةُ البيضاء، فتعلو إليها بالرصاص اليانع، لتفوح رسمةُ البلاد؛ من الكرمل إلى عباءة القِرفة، ومن الليمون إلى تلال القمر.
لعلكَ تريدها أن تنبسط أمامك دون حواجز وأسوار عنصرية، وبلا مقابر جماعية أو إبادة للأقواس والساحات.

لعلكَ تكره البَطل الذي نما فيك، وتريده أن ينتهي من مهمّته الخُرافية، ليبدأ زمن الفراديس على هذه الصفحة المدمّاة، لترجع بشراً عاديّاً يأكل العكّوب، وينام على فَوحَان الكستناء، ولا يبهظه طول الانشغال بأولئك الضحايا الذين يتكاثرون، كُلّما رفع الحاخام قُبَّعَته فوق طوفان الجثث التي أُتْخِم بها.
ولعلكَ تريدُ أن تتخلّص من شظايا الزجاج المطحون الذي يسمّم صدركَ، لكثرة ما دفعوك إلى كراهية الأموات، وهم يدورون كالأشباح بين البيوت، ليأخذوا رضيعاً من ضلوع الصوف.

ولعلكَ مَلَلْتَ قتال الشائهين، الذين ضاق بهم البرّ والبحر ليمنعوك من مدينتك البيضاء. وتريد أن تستريح تحت عريشة الضحى دون ضجيج.
ولعلكَ لم تكمل سيناريو ما بعد الحرية، لأنهم غرزوا في ظهرك رُمح الغَدْر، وأعشوا عينيك بِمُسيلات العار، وانكشفوا أمامكَ كما هُم، تماماً، وحوشاً بشفرات شائخة تخثّر فوقها دمُ الطير البريء.

****

في المعتقل كان الشاب سائد حلمي ابن مخيم العروب يرسم على القمصان الداخلية الجديدة، التي يحضرها الصليب الأحمر، لوحاتٍ يهديها إلى زملائه في المعتقل، كأننا كُنّا نُجمّل أحزاننا، وكأن سائد يستشرف الغيب، إذ رسم على فالينة بيضاء لوحةَ شهيدٍ محمولٍ على الأكف والهتاف، ففرح بها أبو الأمجد وحملها معه يوم عاد إلى بيته، في قرية جبع جنوب مدينة جنين، لتتجلّى هذه اللوحة على أرض القرية جنازةً مهيبة لعبد الله، الذي أرتقى شهيداً، بعد خمسة أيام من وصوله إلى الدار. كان أبو الأمجد قد ترك حِمْله الثقيل على كاهل عائشة، التي حظيت بشريك شهيد جليل، حفر اسمه على المشاعل وفولاذ الحناجر والنقوش التي لا تزول .

وكبر الصغار، الذين هجّرَ الاحتلالُ طفولتهم، كأنهم ولدوا ممتلئين بمعاني الفجائع والتضحية والفقدان، أو أن عبد الله قد أورثهم روحه التي تفلتت من الظلمة والمَظْلمة إلى الشمس، وصبّ في أرواحهم جرعة النار التي دفعتهم جميعاً، أولاداً وأُمّاً، إلى الاعتقال غير مرّة، فما أن يخرج أمجد حتى يدخل عمر، وما أن يتحرر عمر ووالدته حتى تنطبق القيود على معصمي نعمان، هذا الذي حكموا عليه بخمسة عشر عاماً، أمضى منها، إلى الآن، عشرة أعوام، كبر فيها أولاده، أو أحفاد عبد الله الذين كرّروا سيرة أعمامهم أو جدّهم .

***
الوطنُ اسمٌ للسماء، وهو الحياة، بكل حمولتها لأبنائه، على اختلافهم ومقارباتهم، ويظلّ جميلاً على كل حال.
أما الأكثر جَمالاً فهم أولئك الوطنيون الذين يعيدون للوطن حياتَه، ليظلّ أرضاً للقشعريرة والمناديل والاطمئنان.
فما أجملكَ ! وانتَ تؤصّل في الوجدان لباء الطين بسماوات لا نهائية، وأحلام لا تقتل أصحابها الطيّبين.

***
المطر عنيف، وقد أرهق المركبة، التي راحت تخبُّ بنا إلى جبع. وما أن دلفتُ باب العقد القديم أو صالون الحلاقة، الذي صار ديواناً أو غرفة ضيوف، حتى تماهت عيناي مع ذلك المطر الشرس، الذي افترع وجهي وأنهكني، وتخيّلت أبا الأمجد يوم زرناه، بعد اعتقال ما،وبجانبه شقيق عمره جمال ربايعة ، واستحضرتُ تلك الوجوه، التي عبّأت ذلك الصالون بالحكايا المتداخلة الساخنة والعالية والبهيجة، وجوه قادة العمل الطلابي في جامعة بيرزيت آنذاك؛ مروان البرغوثي وسمير صبيحات وأحمد الديك ونايف سويطات ويحيى السلقان وعلي برهم وفايق كنعان وخالد اليازجي وآخرون .

***
حال المدائن من حال بلابلها وشنّارها وعصافيرها. باختصار؛ البلاد تشبه طيورها. فإذا جنّحت كما شاءت، وبَنَتْ أعشاشها على أهوائها، وغرّدت على أفنانها، وضمّت زغَبها في الوكنات، رغم مزاج الفصولِ، فهذا يعني أن أكتاف الأزقة تعبق بالنرجس، وأنّ الحوش تجلّله الجدّات بالحكاية المستحيلهَ، وأنّ الراعي يعود وهو يلوّح للذئاب باللقاء، وأنّ النجمة ستجد طريقها الخفيّ إلى صدر الكمّثرى، وأن المرايا تعمّ بالسِحر وطيّات العرق، وأن الحنين سيصل إلى نداءات المساطيح، لترقص أعراف الحصان، ويضرب بحافره الكهرماني أرض العيد.
فيا أيّها الذيّال! تناسخ نيازك في غلالات اللانهاية المُشرعة، وافْهَقْ في شوارع المجّرات .. لتصحو .

***

أتذكّر أيضاً تلك الليالي النهارية التي مشى أبو الأمجد في تلافيفها خفيفاً إلاّ من سلاحه، ليطمئن الشباب في الجامعة، وليواصلوا كفاحهم الشريف ونضالهم الصعب . أبو الأمجد بنظارتيه السميكتين ولحيته المبذولة للبياض، رغم فتوّة ملامحه، هو نفسه القائد الطلاّبي في جامعة بيرزيت، برفقة أخيه وصديقه مروان البرغوثي في العام 1984، وهو عبدالله علاونة الذي جعل غرفة سكنه في بلدة بيرزيت صالون حلاقة متواضع، يزيّن فيها شَعرنا، ويخجل أن يتقاضى أجراً ! وكان ربّ عائلة وذا مسؤوليات ثقيلة وشديدة الحساسية والخطورة والأهمية .

وأذكر أبا الأمجد يأخذني من ذراعي، مُلْحفاً لأن أهبط إلى ساحة الدبكة، في قرية كوبر شمال رام الله، ليلة زفاف مروان البرغوثي، وليضع ذراعه على كتفي، ويتقافز مع الحلقة الراقصة الساخنة رشاقةً وجذلاً، والمحتفلون في ذلك السامر يحملون مروان على أكتافهم، فتهيج النار في العروق والحواكير والنجوم .
وهو عبدالله علاونة حين هرَّت دموعه وتدفقت بغزارة، يوم رأى الجنود يكبّلون طفلاً، ويسوقونه إلى أحد الأقسام في أنصار !
ولماذا تبكي يا أبا الأمجد ؟

لم يجب، غير أنني سمعته يتمتم باسم ابنهِ الصغير !

***
وهو أبو الأمجد الذي لم يكمل تعليمه الجامعي، لكثرة ما طورد واعتُقِل، لكنه علّمنا بصمته العميق وقليل كلامه العزيز، كأنه يدعُ عمله يتحدث، وليس فمه الذي كان ينفرج بابتسامة ضافية حين يلاقيك، أو حين يعجبه السماع، وكان يصمت بحيادية صارمة عندما يضايقه المتشاوفون أو الَهذَر أو الادّعاء ! وهو عبد الله علاونة الذي يمجّ سجائره بشغف حين يصحبها فنجان قهوة! ولا يأكل إلاّ لماماً، كأنه حرّم على نفسه تناول الطعام، غير ذلك الذي تجترحه أم الأمجد! وكان محقّاً، فمَنْ ذا الذي يقبل بالخيْش ولديه حرير عائشة ؟!

***

كرنفال السنابل في بيتك حلّ قبل الحصاد.
تفتحتِ السنابلُ، وانثال الحَبُّ على المصطبة، وامتلأت الخوابي، فاستيقظ أجدادك الأوّلون، بقاماتهم المنصوبة، يحملون مناجلهم المصقولة، ووقفوا مرصوفين حول الكرنفال، كأنهم يحرسون سبيكة إلهية من ذَهَب السماء.
صعد عبد الله الحفيد من وسط البيدر، ويبدو أن رافعةً لا تُرى تعلو به فوق كومة التِبْر المذرور. فيه من ملامحهم ما يتوّجه هالةً من خلائقهم، وراح يشقّ طريقه نحو شباك النُّور، فأوسعوا له الطريق، وهم شاخصون بخطواته التي تَعالت، إلى أن حطّ على أوّل الكوّة، فَفرَدَ ذراعيه .. وساحَ في السطوع.
***

وهل أنسى ليلة شارف فيها على الهلاك ضحكاً ! يومها جاء زميلنا في المعتقل "بسام" وتحلّقنا حول بُرش أبي الأمجد، وراح بسام يقصّ حكايته في العراق مع زوجته الكردية، التي كان يصحو من نوْمه يناديها، كأنها تنام على ضفّة سريره في البيت، فيكتشف أنه في المعتقل، فيمسح وجهه باسم الرحمن ويتلو أدعية مكرورة .. وينام، ليحلم ثانيةً بها، وهكذا، حتى كشف لنا سرّ شغفه وتعلّقه بها ! يقول: ذهبت إلى الموصل للدراسة الجامعية، وتعرّفت على جارتي الأرملة، وتزوجتها لأن زوجها شهيد قضى على الحدود العراقية الإيرانية ! ومكثنا معاً ثلاثة أشهر أعدتُها خلالها إلى ذروة الوسن والغياب اللذيذ، وكانت ظمآنة إلى حدّ التوحّش، ولم انكسر بقدر ما كنتُ أوزّعها في الجَمْر، وأغرقها في القيعان، وأعلو بها إلى حمأة الظهيرة الحارقة. وفجأة ظهر زوجها ! الذي تبيّن غيابه أسيراً .. فطلّقتُها احتراماً لنضاله وعياله، الذين كنتُ أباهم لأسابيع هانئة رائعة . غير أن الزوج العائد قد رجع دون رجولته التي أعطبها الرصاص ! فوقعتُ بين ضميري وشهوتي، ونداءات المرأة المتلهّفة .. وبين فراغ جيوبي، لأن أبي قطع عنّي المصروف، حينما علم أنني تزوجت، مُرسلاً لي: طالب ومتزوج ؟
وماذا بعد يا بسّام ؟

يُسهب بسّام في الوصف، ويقدّم حكايته الكاريكاتورية بكل مفارقاتها بِظُرْفٍ وطرافة وبلهجة أصحابها .. إلى أن يصل إلى لحظة انكشافٍ، نُقهقه من هول فُجاءتها وغرابتها .. حتى كاد أبو الأمجد يموت من فلتات الضحك المخيف الجارف .
يا إلهي ! حتى الضحك يقتلنا .

***

يدقُّ عِرقُ الرّقبة، وتستنفرَ قواكَ المُعطّلة، وتلفّ ألف مرّة حول الكوكب، لتجد طريقةً ترشدك لإخفاء المسدس والرسالة!
أضواء الدوريات تفشّى، والكشّافات تجعلُ هزيع الخريف حريقاً مدوّياً، والجنود بأثوابهم الحديدية كالدببة يطوّقون الحارة، وعلى البوابه قَبضَاتٌ وصَخب ورَطْن وضوضاء !

يدخلون بلا هدى، وينتشرون في الغُرف والمطبخ والصالة والشُرفة، يفتّشون كل شيء ويقلبون كل قائم ونائم .. ولم يجدوا شيئاً !
كان المسدس ملفوفاً ينام في علبة السُكّر الموضوعة على الطاولة أمام الجميع. أمّا الرسالةُ فكانت مطويّة بين صفحات المصحف الشريف، الذي كنتَ تُقَبّله بعد كل تلاوة .. لتنام.

ربما وصفوكَ بـ "الضمير" و "الرمز" .. لكنك كنت، كذلك، الصوفيّ الذي أدرك قوّةَ الحرف، وقدرةَ الرصاص لبلوغ الكشف.
وعَلِمْتَ أن شدّة القُرْب حجاب.

***
يجلس على بُرْشه ويُباعِدُ بين ساقيه، ويتناول كاسة الشاي البلاستيكية التي وضعها بين قدميه، ثم يتلمّظ بسوادها، وينفث دخانه بهدوء .
كان سارِحاً، ولا يريد أحداً ليقتحم وحدتَه وتفّكرَه . ناداني بما أُحبّ، فهرعتُ إليه. فأوسع لي وناولني سيجارة وظلَّ صامتاً .
ما بكَ يا رجل ؟
حروفه الممتدة كانت حاسمة واضحة، وظننتُ أنه يخطب في جَمْع من الطلبة كعادته في بيرزيت. غير أن الموضوع اليوم يختلف كثيراً.
قال: هل أخطأتُ في التوقيت عندما أمرتُ بإطلاق النار على قدميّ ذلك الحرامي، الذي يعتبر نفسه قائداً، وقد سرقَ موازنة التنظيم ؟
وأجاب من فوره: نحن على حق، وكان لا بُدّ لهذا السارق ومَنْ على شاكلته أن يفهموا أن مال الثورة حرام، وينبغي عدم العبث به، إنه دموع أيتام ودم شهداء وأنّات أرامل وجراح سخيّة وسنوات رمل في السجون .. كيف لضميرهم أن يبيح لهم السرقة ؟
ونهض أبو الأمجد من مكانه، وراح يذرع ساحة المعتقل، كأنه بخطواته القلقة السريعة يفرغ شحنات غضبه .
***
خرج أبو الأمجد من روضته، ومشى في ليل الشوارع، يحمل مُلْصقاً رسَمه لشهيد الأمس، لأن أم الشهيد الطازج لم ترَ لوحةً أو مطبوعة على حيطان البلدة لإبنها المضرّج بالعندم .
غير أن الدم الناقع، الذي ما زال ينزّ من صدر أبي الأمجد، هو الذي دلّ الناس على أنه الفاعل، لكن بعضهم أنكر عليه قيامته، فبكى كل الشهداء في التراب.
***
وهل مرّت كل تلك الأعوام على ذلك الأبكم الشجاع، الذي جاءوا به إلى المعتقل ! إنه باسل "الأخرس" الذي أعجز المحققين ولم يتمكّنوا، رغم كل وسائلهم الجهنمية، من سحب اعتراف خطيّ واحد منه، مع أن عدداً من زملائه اعترفوا عليه كُرهاً، وكان أكثر من أمطر دوريات الجنود بقنابل المولوتوف.
الأخرس السمح الناشط الذكي يقرأ شفاهنا فيعرف ما نريد، وبيديه وتعبيرات وجهه نفهم إجاباته.
غير أن أبا الأمجد لا ينبس بشفتيه مع الأخرس، بل يكتفي بالنظر إلى عينيه، فيدرك ما يريد ! وتصاحبا وتضاحكا دون كلام، وراحا يضعان طعامهما معاً ويأكلان، ويقعدان متقاربْين ساعة العَدَد، ويتبادلان السجائر، ويطرق الواحد بكفّه كفّ صاحبه، كأنه يصادق على موقفه .
أمر عجيب ! والأكثر عجباً أن الأخرس قد انتبه ساعة اقتحم الجنود المعتقل، أن أحدهم يصوّب بندقيته قاصداً أبا الأمجد .. فتلقى قنبلة الغاز بدلاً منه .. ووقع الأخرس مغشياً عليه، غير أنه فتح عينيه، وهو على حمّالة الإسعاف ناظراً إلى أبي الأمجد، مبتسماً، كأنه يهنّئه بالسلامة .

***
يحقّ لي أن أغبط عُمْري الذي عايش أبا الأمجد، ولو قليلا، وتحضرني الآن تلك الأسماء الكبيرة التي كانت حوله؛ أذكر منها لؤي عبده، محمد الحوراني، أبو دلال، كامل جبيل، طلال دويكات
د. ثابت، أحمد عديله، بلال الشخشير، زياد هبّ الريح، أبو بشار، أبو الذهب، عبد الله فقوعة، رشيد منصور، قدورة موسى، ومجدي علاونة وآخرون .. غير أن أقربهم إليه كان "عكا" ابن عمه وابن مجموعته، كانوا يجتمعون حوله أفراداً وجماعات ممتدة، وينبشون معه تلك الحكايات التي ما فتيء أبو الأمجد بطلَها المُتَوَّج .
هل تذكر يا أبا الأمجد، في سجن جنين، وأنت تُهرَّب من المكتبة كتاب "الديالكتيك" وتقرأه سِرّاً تحت البطانية ! وهل تذكر يوم ركضتَ خلف السجّان، الذي كان يشتم الأعراض، بِشَفرةٍ لتمزّق وجهه وتقطع لسانه .. ما جرّ على السجن استنفاراً مُفزعاً !
***
وللحظّ الحَسَن، فإن الشرطيّ الاحتلالي لم يستطع أن يدحش الخيارة بين إلْيتيّ أبي الأمجد، رغم أنهم قيدّوه وأبرحوه ضرباً، على إثر إحراقه للعَلم الإسرائيلي، باب سجن رام الله، قبل أن يضعوا القيود في معصميه.
كان سمير صبيحات ونايف سويطات وسيف الدين الديّك ونزهت شاهين، المطلوبين لجيش الاحتلال، قد قطعوا الطريق، مشياً على الأقدام، من جامعة بيرزيت عبر عين قينيا وسط الجبال وصولاً إلى قرية عين عريك، للاختباء في بيت نزهت ! فَدَهمَهم الجيش واعتقلهم، وركنهم أمام السجن، فأشعل أبو الأمجد سيجارة نخّل بجمرتها عَلَم الاحتلال، فرآه الحارس، قبل أن يزجّوا بهم إلى الزنازين، وتنتهي حفلة انتهاك عِرض أبي الأمجد، بأن احتفظ بعذريته، بفعل انخباط السجن والزنازين واحتجاج المعتقلين العنيف.
***
ولعل أهم ما يميزّ شخصية عبد الله علاونة أنه عقلاني مثقف هاديء ومفكّر، يمتلك كاريزما قيادية نادرة، وبطانةُ كل ذلك أن الرجل كتلة ثورة تمشي على قدمين. ومع هذا فهو فنان بامتياز وصاحب خطّ بديع؛ فهو الذي صمّم، مثلاً، شعار الشبيبة الفتحاوية، وشعار لجان المرأة للعمل الاجتماعي. وهو الذي وضع مواد النظام الداخلي للشبيبة الطلابية في فلسطين. وله لوحات سريعة، أنجزها في لحظات تفكّرٍ أو صفاء أو سِعة وقت.
وأبو الأمجد الفدائي النقيّ، لم يحتمل رؤية هامش الفساد والسواد، الذي راح يتّسع في حياة الثورة الفلسطينية، ما جَرَّ عليه حملات ديماغوجيه قام بها الفاسدون ثوّار المكاتب النهّابون، الذين صادفهم خلال سفره على رأس وفد طلابي العام 1985، وصل به إلى تونس، ما دَفَعه إلى الإعلان صراحة دون تزويق، أمام القيادة، لتشدّ قبضتها على رقاب آكلي أموال السحت ولحم الأرامل، وضرورة القضاء المبرم والسريع على كل تلك النتوءات، التي تلوّث الثورة وتعثّر ديمومتها. لكن الدهاقنة المستريحين مصاصي الدم والحقوق، خاتلوا أبا الأمجد، وشككّوا في أقواله وذرائعه، ودنّسوا هدفه المجيد النبيل. ومع ذلك ظلّ أبو الأمجد على مواقفه، يترصّدهم في كل مكان.
وما أن عاد من رحلته تلك، حتى تلقّفته براثن الاحتلال واعتقلوه بتهمٍ مُختلقة ممجوجة.
***

وهل تذكر وأنت تحقّق، في إحدى الغرف المعتمة، على ضوء الشمعة، مع أحد العملاء المشبوهين، كيف حَرقَتْ الشمعةُ البطانيات، لأن النعاس والتعب قد غلباك أنت وجمال الديك ؟
وهل تذكر كيف كان شكيب أبو جبل، مسؤول مجموعة فدائيي الجولان يهرّب إليك كل الرسائل، التي كان يرسلها هناك، فتوصلها إلى أبو جهاد – رحمه الله- !
وهل تذكر كيف خرجت َثاني أيام زواجك لتلعب مع الصبية في الحارة ؟ فنادتك أمّك .. يا وحيدها الأثير !
***
تستيقظ عائشةُ من نومها ريّانة راضية. تتثاءب بكسل ماتع، وتكدّ ضفائرها المبلّلة بالطلّ والغار، وتتحسس احتكاك الرّعد بالقرنفل، وتتأكد أنه جاءها بالوَشْم والكحل .
وتنهض لأحفادها، تعدّهم للصباح والدّرْس، وفي بالها قصّةٌ، لن يصدّقها سوى غائب لن يعود.
***

امتدّ الإضراب عن الطعام هذه المرّة، ودخلنا في اليوم الحادي عشر، فساءت أحوال بعض المعتقلين الصحيّة، ووقع بعضهم في إغماءات، وضعف البعض، ولم يتبق من الملح الذي نرمعه مع الماء إلاّ القليل .
اقترح أبو الأمجد، وهو الذي يعاني من السُكّري والضغط، أن نتوقف عن سفّ الملح، ونترك ما بقي منه لأصحاب العافية الهشّة . والغريب أنه يتحدث ووجهه الطَلقُ ينبيء بالبشرى !
من الرائع أن يكون القائد صلباً ذا معنويات عالية، ويضحك في وجه الجوع العبوس القاتل .إلاّ أن أبا الأمجد وفور ذهابه إلى بُرْشِه، تمدّد من تَعبهِ، وتعكّر وجهه واكفهرّ !
ما الذي غيرّ حالك يا أبا الأمجد ؟
لا أحفظ، حرفياً، إجابته المتشعّبة، غير أني أذكر مضمون قوله الذي يفيد بأنه لا يخشى الموت، ولكن يخشى على أم الأمجد التي "قِيّدها" بخمسة أطفال، وتركها وحيدة تخبط في وجه العوز والحاجة؟
ووضع كفّيه على خدّيه، وسالت دمعتا زجاج جارح على أصابعه، مع نداءات خافته ردّدها، لعلها تصل إلى أم الأمجد، عسى أن تسامحه على غيابه، وأنه تركها وحدها نهباً لاستحقاقات ممضّة في فراغ مهول .
***
استشهد الطالب في كلية الهندسة شرف الطيبي، ليؤكد دمُه أن جامعة بيرزيت كانت بؤرة الحراك الوطني، وخليّة المجابهة المتقدمة. كنتُ حينها مُدرّساً للأدب العربي في الكلية برام الله، وطلب مني مجلس طلبة بيرزيت قصيدة تليق بشرف ليوم تأبينه، الذي جَمع كل رموز ومؤسسات الوطن. وكان أبو الأمجد يبادرني، كُلّما التقينا، بقوله:
قُلْ أعوذُ بربّ عاصفةِ العواصفْ
إن كان إبنُ الفتح خائفْ
قد شاهد الطلقاتِ تسْكُنهُ
فكبّرَ وهو واقف !
وهذا مقطع من قصيدة شرف، التي تشرّفت بإلقائها في بيرزيت في شتاء 1984.
ولأني لا أعودُ إلى قصائدي القديمة، إلاّ أن الشهيد شرف يحضر بكل عَبقه وحدّته وسخاء قلبه، الذي حمله باقةً لأمّه الأرض، في يومها، كُلّما رنّ صوت أبي الأمجد، كالجواهر العتيقة في روحي.
والشيء بالشيء يُذْكر، فقد قام الصديق نايف سويطات وأطلق على مولوده البِكْر اسم شرف، تيمّناً بالشهيد.
وما زال نايف يبادرني، كلّما صادفني قائلاً:
إعصفْ فإني عاصفة
وجروح قلبي راعفه
وجموعنا في "كتسيعوت" الموت
هبّت واقفة
لا الموتُ يكسرنا
ولا .. الخ
وهذا مقطع من قصيدة ارتجلتُها في معتقل (كتسيعوت) أنصار 3، ساعة اجتياح المدرّعات والكلاب والرصاص للأقسام.
يا الله ما أروع الأصدقاء الكبار !
***
الثورة إحساس فرديٌ بالقهر. هكذا تبدأ، لكنها تتواصل بالتقاء المقهورين، ليشكّلوا جداراً صلداً محيطاً، من صوّان الإرادة، ليصدّ غوائل الحثيّات، التي أيقظها مصاصُ الدماء بعصا الوَهْم والعُقَد المبتذلة، ودفعها لتخترق الحجارة الملتحمة بالأرض والسماء، وناطحها لينفذ منها إلى أمْسِه المُلَفَق الهجين.
وما زال الغريب الساكن في البارحة، يسوّق صورته، التي حزّ فيها رقبته بسكّينة الوثنية، ليبكي العالم على الضحية، ويمرّر مشهده الخائب، وتنسى الدنيا الذبيحَ الأوّل، الذي لوّن بدمه أقواس الآفاق. لكنّ العَمى لا يتيح لصاحبه إدراك النبع الحرام المتدفّق في شوارع كل قرية ومدينة، وفي ثوب كل حاملٍ، يسقط ملحُ فخذيها على أسنان الحديد المدبب، في ألف حاجز وليل.
***
في المعتقل يمرّ الوقت كالموت، ما لم تَقْتُله بِحِراك وفاعليّة، وتُزْجي الساعات بجدول قراءة وكتابة، أو عمل في المطبخ أو المغسلة أو إدارة الجلسات التثقيفية والمحاضرات والحضور الواعي .. الخ
لكن أبا الأمجد، وفي كل سجن ومعتقل، يبحث عمّا يناسب المعتقلين من أنشطة تعمّق وعيْهم، وترفع معنوياتهم، وتقوّي مناعتهم وتصون حَصَانتهم الوطنية، فناداني وقدّم سؤاله الكبير أمامي لأُجيب عليه !
يريد أن أكتب مسرحية ليقدمها المعتقلون أنفسهم لزملائهم ..
بعد أسبوع، كانت المسرحية جاهزة، بما تيسّر، وحينما قرأها، أذهلني لدقّة ملاحظاته وسِعَة مخياله وقدرته في تحسس الكلام .
والعجب العجاب أن أبا الأمجد هو الذي أخرج المسرحية، وأشرف على عروضها المتواضعة، فيما كان يحذف كلمة ويضيف جُملة، ويقترح صيغة أخرى، بعد كل عَرض .
لكن المسرحية الموسومة على الورق قد صادرها السجّانون، في إحدى غزواتهم المفاجئة، واقتحامهم لأقسام المعتقل، حين حملوا، كالعادة، كل الأوراق والدفاتر. يا إلهي كم يخاف الاحتلال من الأوراق والحبْر والسطور !
والمسرحية تحاول أن تصوّر بلدةً يَدْهَمُها جنود الاحتلال، ويتمركزون على تلّة مشرفة، فيبدأ المواطنون، تدريجياً، بالتخفّف من أقنعتهم، ليظهر وَجْهُ كلًّ منهم على حقيقة . بمعنى أن شيخ الجامع الذي كان يخطب يوم الجمعة، قد تخلّى، فجأة، عن ديباجته الهادئة وراح يقول للناس ما يتهامسون به عن بعضهم البعض، دون خجل أو لياقة أو حساب . فيما راح جزّار البلدة يلهث وراء الزبائن بساطوره، وهو يقرّعهم على فسادهم ولكاعتهم وقلّة دينهم وسماجة سلوكهم . ثم يظهر لنا حلاّق البلدة يُشطّب وجوهَ الجالسين حوله بالموس، وهو يصرخ فيهم على جلافتهم وجُبنِهم ونفاتهم .. وهم يهربون منه .
.. وهكذا، تتوالى المشاهد تباعاً، ما أثار ضحكاً أسود ومرارة في الصدور !
بقي أن أشير إلى أن أبا الأمجد اعترض على إظهار شخصية الحلاّق بهذه الكيفيّة ! لكنني تغابيت ولم أستجب له، وكان ضحك المشاهدين، في كل عرض، يتعالى أكثر وأكثر، كلّما أَطلّ الحلاّق بشخصه الغاضب المقيت .. وكانوا ينظرون إلى أبي الأمجد، فيضحك معهم، وتغمر الجميع قهقهات مُجلجلة ما أن ترتفع حتى تهدأ، ويسود بعدها صمت ثقيل .. ثقيل .. ثقيل .

***
كان الشهيد د. ثابت، رحمه الله، من أقرب المقرّبين إلى عبدالله، أمّا أبو الأمجد فَيُجلّ الرجل، ويخفض رأسه قليلاً، احتراماً ومهابة !
هذا أبو الأمجد الذي يخشع الجميع، دون استثناء، أمامه، باعتباره قدّيساً تطهرّياً، ينحني أمام د. ثابت ؟
يقول عبدالله: إن د. ثابت صديقي هناك !
فهل كان أبو الأمجد يقرأ الغيب، ويعلم أن "هناك" هي الجنّة !

***
جيل أبي الأمجد صاحب المأثرة الكبرى في تفجير الانتفاضة الكبري نهاية 1987، فهُم خريجو الجامعات وخريجو السجون، والقيادة الرائدة الفعليّة، التي أفادت من تراكمات العمل الفدائي الفلسطيني وتداعياته الإيجابية، ما مكّن هذا الانفجار الكوني في الضفة والقطاع من أن يكون انتفاضةً جديدةً بكل المقاييس، استطاعت أن تُعرّي الاحتلال، وتحيّد سلاحه الثقيل، وهشّمته بمقلاعها وإطارها المشتعل، وأعجزت قوة الاحتلال صاحب آلاف الرؤوس النووية.
هذا الجيل الذي تربّي في قواعد الثورة وفي المعتقلات، واكتسب نسغ الوعي في شتى الكليّات، هو الجيل الذي كان يدرك حالة الضغط التي تُبهظ الشعب الفلسطيني وتخنقه، وكان لا بُدّ لهذا الضغط من أن يولّد انبعاثه الناري ضد كل أشكال وإجراءات ووجود الاحتلال.
وما أن انشقّ الباب واضطرمت الانتفاضة، حتى قادها هذا الجيل، الذي حوّل العمل الثوري السرّي إلى مواجهة مباشرة، وهو يتقدّم الصفوف بلحمه الحيّ وصدره المكشوف.
بمعنى أن هذا الجيل نقل مواجهته مع الاحتلال من النخبة إلى الشعب، واندمج معه. ونستطيع أن نؤكد أن جيل عبد الله علاونة هو الذي نقل الثورة من ظاهرة "الفرد الفدائي" إلى "الشعب الفدائي".
إن هذا الجيل بحسّه ومعرفته ووعيه وتجربته، أدرك أن الإقتصار على شكل نضالي واحد يتنافى مع جدليّة النضال، ما جعله يوسَّع نطاق العمل المقاوم، ليصل إلى الفعل النقابي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والتربوي والاقتصادي ..، وعمل على تأصيل هذا الفعل عبر إقامة المؤسسات وإنشاء النقابات والاتحادات واللجان.
وَيُحْسَب لهذا الجيل أنه أنقذ الثورة بعد صمودها الأسطوري في بيروت، حيث عملت قوى كثيرة وكبيرة إقليمية ومحيطة على تفكيك الثورة في الخارج، فجاءت الانتفاضة رداً عملياً على الأرض، مُلتحماً ومكمَّلاً لمشروع الثورة، لتبقى القضية حيّة نابضة مُمْرعة.
ويشهد المراقبون والباحثون على أن هذا الجيل هو الذي أنهى، وإلى الأبد، محاولات الاحتلال خلق قيادات بديلة غير وطنية، كما أنهى الخيارات السياسية الأخرى، التي كانت تستهدف القضية والهوية والقرار الفلسطيني الحُرّ.
إن جيل أبي الأمجد الذي يعتبر الأكثر ثقافةً وتنظيماً وإيثاراً، هو الذي أبدع في تسطير البُنى التنظمية، التي حملت الانتفاضة وحمتها، والتي كان لها امتدادات عميقة ومتشعّبة في المجتمع الفلسطيني.
إن هذا الجيل، أيضاً، هو الذي وقف بحزم واعٍ أمام كل الانحرافات الفكرية والسياسية والاجتماعية. وإن تجربته التي كبُرّت ونضجت في القواعد والمعتقلات، قد مكّنته من حمل تجربةِ الحركة الأسيرة الطوباوية الملتزمة من الغُرف المغلقة إلى فضاء الشارع الفلسطيني، وجعلها حياةً يومية وهاجساً للناس !
لهذا كلّه قام الاحتلال بإبعاد قيادة هذا الجيل، أو بقتله، أو باستهدافه؛ إعتقالاً ومطاردةً، وهذا ما يفسّر، مثلاً، إبعاد مروان البرغوثي وأحمد الديك وسمير صبيحات وغسان المصري ولؤي عبده وجبريل الرجوب وأكرم هنية وحسام خضر وعطا أبو كرش وزياد النخالة وعودة الرنتيسي إلى خارج الوطن، فيما أبقوا المئات من قيادة هذا الجيل في المعتقلات، أو تحت الإقامة الجبرية. فيما صوّب الاحتلال ناره السوداء ورصاصَه الأعمى إلى قلب عبد الله علاونة وثابت ثابت ومحمود أبو مذكور وغيرهم، من الذين جعلوا قائمة الشرف لا نهاية لها، حتى ينتهي الاحتلال.
***
واليوم أَحضرُ إلى بيت أبي الأمجد لأطّلع على رسائله، التي كان بعثها على مدار اعتقالاته المتوالية، من معتقل أنصار إلى عتليت إلى جنيد إلى نفحة إلى الجلمة - ما أكثر السجون -وحسبتني أعود اثنين وعشرين عاماً إلى تلك الفضاءات، التي توهّجنا فيها مع أبي الأمجد في المعتقل، وتذكّرتُ كيف كنتُ أكتب رسائلي، وأرى المعتقلين يخطّونها بدموعهم المتخفّية وحبرهم الكاوي وشوقهم المتفجّر .

قرأت الرسائل أو مررت عليها دون أن أعي أن المغرب قد حلّ بغبشه على الآفاق .
أحسست أن صدري احتشد بأثقال مبهمة، وشيء يعضّ قلبي ويعصره.
سقى الله تلك الأيام الرانخة بالدم والصلابة والعزم . ومن يصدف تلك الأيام فليسلّم عليها ! لقد كانت أياماً كاملة الضوء .
***
لا ينام بعيداً عنها، كان يغفو وهو في حضنها ! بل كان يشقّ جِلْدها وينسرب تحته، ليتماهى مع أوردتها وأعصابها، كأنه يعود جَنيناً فيها.
مثلما كان يتركُ مقصَّ وأدوات الحلاقة، ويهرعُ إلى الدار طفلاً مع أطفاله، يعابثهم ويداعبهم ويلاعبهم، ويصير رَخِصاً يتقولب كما يريدون، مَرِناً ليبتهجوا في كركراتهم بين يديه وفوق ظهره.
لا !
ينام على حافة السرير، كأنه ينأى عنها، يدير وجهه، والقلق يفجعه ويمزّع وجهه ورمانة قلبه، لا يحنو ولا يطوّقها بذراعه ولا يشرب أنفاس التفاح.
مثلما يكتفي بأنْ يربت على ظهر ولدٍ أو يمسح وجنة ابنةٍ، ولا يجايلهم بدغدغاته وقُبلاته وتمريغ لحيته على وجه الحليب.
ربما ! كان في الأولى يعوّضهم عن غياب حاضرٍ وآخَرَ على الطريق.
وكان في الثانية لا يريد لهم أن يعتادوا على مرحٍ .. ويروح فجأة !
***
صينية القشّ الوسيعة لم نرَ حوافها ! كانت أرغفة المسَخَّن أكبر من المعتاد، أرغفة من راقات رائقة مرنّقة بزيت الطفاح والسمّاق والبصل البلدي الذائب شهوة، تحت الديوك البلدية المحمّرة في الطابون، وكنا جائعين. وأدّعي أن معرفتي الريفية والعلاقات الممتدة تجعلني أحكم على كل الأطباق الفلسطينية والأطعمة التقليدية، وأزعم أنني أميز طعم الزيت، وأعرف نوع الخبز، وكيف تمّ إنضاجه، وأُفرّق بين مسخن قلقيلية ومسخن الجاروشية أو بيتا أو الطيرة أو بيت اكسا، وكلها ماتعة شهية وأصيلة، لكنّي لم أذق في حياتي مثل هذا المسخن، الذي أحسست أن أُم الكنعانيين الأولى هي التي أعدّته كما يليق بالإلهة عناة .
قلت لِعُمر ابن عبد الله الصغير، الذي أصبح شاباً ملء العين؛ يا عمر ! قبّل يدي أُمك التي استعادت فلسطين الأولى، قبل خمسة الآف عام، بثوبها المطرّز وصينية المسخن، وحزمة السنابل التي تطلّ من زهريّة الزجاج، كما استعادت فلسطين، اليوم، بدم شريكها وسنوات اعتقاله وأيام أولادها خلف القضبان . قبّل يا عمر يدي عائشة التي يحق لها آية تهبط من السماء تكرّسها نموذجاً للعبادة، لتترسّم نساءُ الأرض خطواتها المُعشبة المجيدة على تراب الكوكب، ولكي يكون في سِفْرنا الفلسطيني مثالاً لوالدة "عوج بن عناق" أو لزوجته أو لشقيقته، التي كانت ترى زوجها يمدّ ذراعه في عباب البحر ليصطاد الحوت ثم يرفعه إلى عين الشمس الناغرة ليشويه ويقدّمه عشاءً لابنائه الطافحين بالحياة . وكانت عناة تقطف كل زهور الربيع وعروق الاعشاب الممتدة وورد الجداول والجبال والحيطان، وتزيّن ثوبها، ليكون ليل العملاق مثل بدر التمام .

***
ما زلنا بعد ثلاثين عاماً نستعيد تلك الحكايات، وما زال الأخوة يفصّلونها كأول مرّة يقولونها على مسامع الحضور، وما زال دمعهم يتجمّد فوق عيونهم، كأننا أمام صورة نحتفظ بها لأنفسنا، عسى أن نرى صورة أخرى، أكثر جمالاً للألبوم.

***
يا عائشة يا اسم العسل والنار والندى الذي انجبل فأصبح قوام المرأة، التي تصهل في صدرها الخيول، وتفحّ في ذراعيها الحمائم، وتتفجر الينابيع الجوفية من جدائلها .

يا عائشة ! يا سرّ اللؤلؤة المختومة، التي أكملت ضوءها تحت عباءة الغيم وتفتحت نجوماً ذهبية في الحقول. يا عائشة ! يا نداءنا في الدمع وجروحنا في الناي وشهوتنا في الجرار . يا أُوار الماء في الليل ويا نرجسة الفصول وموقدة الوجاق . يا عائشة ! يا جرحنا المبذول للشتاء، حتى ترتوي الهامة والفرس . يا جرس البعيد وصورة الجدار وشال الحرير الذابح في غربة السنين، يا عائشة ! يا حروف الجائح والثاكل، ويا نبل اليتيم الذي يتغيّا من الفراغ يداً تمسّد رأسه وتحضن أوجاعه الغامضة .

يا بيتنا المفتوح منذ قرن للزغاريد المقتولة ويا فرحتنا المرتقبة، ليعود المفتاح إلى البيارة والبحر. يا عائشة ! يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار. يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من حليب التين، ونشرق بدمِ الرمّان .

يا عائشة ! يا مواويل الرّهام، الذي يضمّخ السواحل ويزوّج السرو والحمام. يا زوغان المهاجر يهتف في الليل والصقيع والنسيان . يا حقيبة الصغار وتلاوين العيد وبراءة الرسائل المخبأة . ويا طرحة الحصاد وانفراط البيدر تحت رخام النحيب.

يا عائشة ! يا مليون شاهد في كل اتجاه، ويا بوصلة واحدة للزيتون وثدي الأرض الأقرب إلى السماء . يا عائشة ! يا انفعال العصافير حول حابون العصر الزاخر، ويا رجوع العتبات والنعناع وحبق الأماسي في الطرقات . يا عائشة ! يا رحماً يلد الجبال ويمور بالوديان ويذرعها بالظباء، ويصعد إلى التلال بفضّة الحصان المجنون . يا عائشة ! يا أبجدية الذين سيعودون كاملين إلى الرواية، ليتجلّى النبيّ مرةً أخرى، بمنجله، ولا تعلو به الريح إلى الجُلجلة . يا عائشة ! يا نوْمتنا المؤقتة لنصحو على العرس والمهرجان، وننعف الأرز على الزفّة المطهمة، والطفل يتراءى لنا في الحضور .
يا عائشة ! أكملي زينتك، فإن عبد الله الصغير يحفظ القصيدة كاملة دون نقصان .