وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

التحولات العربية واضطرابات الحكم- ربيعٌ بلا أزهار

نشر بتاريخ: 18/03/2014 ( آخر تحديث: 18/03/2014 الساعة: 14:55 )
التحولات العربية واضطرابات الحكم- ربيعٌ بلا أزهار
د.أحمد يوسف

لقد علمتنا الطبيعة ومسيرة الأحداث التاريخية أن هناك – دائماً – رياحاً تسبق العاصفة، كما أن عمليات التحول والتغيير تتهادى معها إشارات يمكن تلقفها، وإرهاصات لا تغيب عن صاحب الفطنة والذكاء.. كان الربيع العربي مواتياً في مدافعته القوية بين حركة الشارع وأنظمة الحكم المستبدة، ولكن بعض نتائجه الكارثية لم تكن بالحسبان، وجعلت منه ربيعاً بلا أزهار.

في تاريخنا المعاصر كانت حالات الانتقال إلى الديمقراطية في أوروبا الشرقية بعد عام 1989م سريعة جداً وناجحة جداً. أما التحولات في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين فكانت لها خلفيات طويلة ومضطربة، ولكن فور تأسيس النظم الديمقراطية، تحولت معظمهما إلى حالات مستقرة وسلمية.. السؤال لماذا يختلف العالم العربي، ولماذا كانت عمليات التغيير عنيفة ودامية في معظم محطاتها، وما هي ملامح الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط في ظل عثرات الربيع العربي وما شاهدناه من انتكاسات في كل من مصر وسوريا ؟؟

* الواقع والوقائع والأحوال التي سبقت عملية التحولات
قد لا يختلف اثنان من المتابعين للشأن السياسي بالمنطقة بأن الربيع العربي جاء مفاجئاً، ربما من جهة الشكل وأسلوب التحرك وليس من حيث التوقيت والتداعيات، فالمنطقة كانت تشهد حالة احتقان داخل الشارع العربي ليس فقط من طرف الإسلاميين وحدهم ولكن - أيضا - هناك القوى اليسارية والليبرالية وبعض التيارات القومية.

إن انسداد العلاقة بين النخب الحاكمة؛ عسكرية أو مدنية، وبين القوى والتيارات الشعبية الدينية والعلمانية كانت قد بلغت ذروتها، والتوقعات كانت تشي بأن الانفجار قادم، ولكن قراءات تقدير الموقف من حيث توقيت الزمان وجهة المكان كانت هي موضع الخلاف.

لا شك أن دموية الأنظمة البوليسية التي تتحكم في الحياة السياسية شكلت رادعاً لقوى الفعل التي تمثلها التيارات الإسلامية والقوى العلمانية من التحرك باتجاه المطالبة القوية بالتغيير والإصلاح، بما يكافئ نبض الشارع المتحفز لتحقيق ذلك عبر حراكه الثوري.

لذا، فنحن لا يمكننا - هنا - تجاهل عشرة عوامل أسهمت بشكل كبير في استنهاض الشباب لبدء حراكهم الشعبي، بالحيوية وبالزخم الذي تحدى آلة القمع لدى الدولة البوليسية (Police State) التي هي اليوم العنوان السياسي لمعظم أنظمتنا العربية، وهذه العوامل هي:

العامل الأول) استشراء الفساد وطغيان حالات الاستبداد وعدمية الحياة السياسية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والإحباط وغياب الأفق الذي اكتنف حياة الشباب.

العامل الثاني) مشاهد الانتفاضات الفلسطينية والتظاهرات العارمة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، والبطولات التي سجلتها عمليات المقاومة النوعية في قلب الكيان الصهيوني.

العامل الثالث) نجاحات حزب العدالة والتنمية التركي (AK Party) ذو الخلفية الإسلامية في تحقيق مستويات عالية من النهوض والاستقرار السياسي، والتميز بإنجازاته الاقتصادية الهائلة، وتقدم مكانته ودوره الإقليمي عالمياً.

العامل الرابع) التوسع الكبير في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media) بين الشباب، والانتقال إلى فضاء العالمية، حيث يتعاظم الوعي الجمعي والحشد وإمكانيات التعبئة والحراك والتضامن العابر للقارات، مما يسمح بتداول الشكوى والحديث عن المظلوميات (Grievances)، وفضح انتهاكات الأجهزة الأمنية، والتحريض على ممارساتها القمعية، وتعرية أشكال السلطة السياسية التي تمنح غطاء الحماية لها.

العامل الخامس) النقلة النوعية في فهم واستيعاب الواقع العربي والإسلامي، والذي كان الفضل فيه لقناة الجزيرة الفضائية، التي نجحت في توسيع دائرة الاهتمام ومساحة المشاهدة لها حتى وصلت – تقريباً – إلى كل بيت في العالم العربي، وتمكنت من خلال حواراتها الحيَّة من تعميق الوعي السياسي والمعرفي لدى الشباب بضرورات التغيير والإصلاح والتجديد حتى يتحقق الأمل بمستقبل واعدٍ لهم.

العامل السادس) اتساع الفضاء الإعلامي لمستويات مكنت أصحاب الخطاب الإسلامي ورموزه الحركية من إيصال رؤيتهم الفكرية، ومطالبهم بالتغيير والإصلاح لكافة الشرائح المجتمعية، والتمكين لهم من إبراز ثقلهم الفكري والمجتمعي بعدما انفتحت أمامهم الأبواب مشرعة، وتحققت بذلك مطالباتهم باتساع فضاء "خلُّوا بيني وبين الناس"، لتصل كلمتهم ورسالتهم للجميع.

العامل السابع) الشعور المتعاظم لدى شعوب الأمة بالذل والمهانة وغياب الحريات والكرامة الإنسانية، وحالة التبعية التي عليها الأنظمة العربية للدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.

العامل الثامن) وجود جيل ثوري جديد؛ متعلم وجامعي غير متأثر بالأيدولوجيات السائدة في العالم العربي، ولم يذق طعم الحرية ولم ينعم بحياة تسودها التعددية الحزبية والقيم الديمقراطية في الحكم والسياسة.

العامل التاسع) حالة التهميش التي شهدتها الكثير من المناطق الريفية في العالم العربي.

العامل العاشر) تغول العسكر والأجهزة الأمنية على شئون الحكم والسياسية في معظم الدول العربية؛ الجمهورية والملكية، وانعدام الحراك الحزبي الفاعل في الحياة السياسية، والتهميش المتعمد لأي دور أو تأثير لمنظمات المجتمع المدني (NGOs) داخل مؤسسات الدولة.

* غياب فضاءات الرؤية واضطرابات الحكم
وكما فاجئنا الربيع العربي بشكل الحراك الشعبي الواسع وسرعة تهاوي الأنظمة الدكتاتورية بالمنطقة، كانت المفاجئة الثانية بالتداعيات السلبية وسرعة التراجع عن مسارات التغيير والإصلاح التي كانت هي المطلب الأول لنداءات "الشعب يريد.."، وذلك بصحوة الدولة العميقة واستعادتها لزمام المبادرة من جديد.

ويمكننا تتبع ذلك بالعودة لخريطة الأحداث والنظر في الواقع وما آلت إليه الأمور في بعض دول الربيع العربي، وما صاحب ذلك من تحولات في بنية التحالفات السياسية والأمنية بالمنطقة.

أولاً) مصر: ثورة على الثورة
كان للتحركات والأحداث التي وقعت بجمهورية مصر العربية في الثالث من يوليو 2013م، وأدت بالجيش للإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وما أعقب ذلك من حركة احتجاج وحملات اعتقال واسعة شنّتها الحكومة الجديدة على قيادات وكوادر حركة الإخوان المسلمين، والانعكاسات السلبية لذلك على البيئة السياسية والأمنية والحقوقية في مصر. بيد أن تأثيرات هذا التغيير الذي حدث وتداعياته خارج حدود مصر كانت مهمة هي الأخرى، وخاصة في شمال أفريقيا والمشرق العربي والخليج وتركيا.

في الحقيقة، لقد أدّى الحدث المصري إلى مفاقمة حدَّة التوتّرات بين الإسلاميين والعلمانيين عموماً، ودفع المنطقة العربية في اتجاه سياسات الحصيلة صفر؛ أي أن الغالب يفوز بكل شيء، بدلاً من أن يؤدّي إلى بناء الإجماع والتكامل.. لقد أصبحت الحالة الإسلامية ممثلة بقياداتها وتنظيماتها في موقف بالغ الصعوبة والحرج، وهي – كما يرى الباحث "أنوار بو خارص" من معهد كارنيغي - التي كانت تتصرّف قبل عام واحد كما لو أن وصولها إلى السلطة عبر صناديق الانتخابات كان حتميّة تاريخية.. ويضيف "بو خارص" قائلاً: بأن العلمانيين، سواء أكانوا في المعارضة أو السلطة، يبدون - في الوقت نفسه - أكثر توكيداً للذات وأقلّ استعداداً للتسويات.

بطبيعة الحال، ونتيجة لهذه التوجّهات، أصبح الإسلاميون الآخرون أكثر تواضعاً في توقّعاتهم. ففي بعض البلدان، ولاسيّما في تونس، نظر الإسلاميون المنتخبون الذين كان لديهم الكثير مما يخسرونه، إلى مصير زملائهم الإسلاميين في مصر وقرّروا تقديم تنازلات بغية تجنّب نشوب مواجهة شاملة مع الأطراف الأخرى في العملية السياسية.. ووفقاً للناشطة أميرة اليحياوي، فقد كان التونسيون "الشعب الوحيد الذي استفاد مما حدث في مصر، حيث أدَّت التأثيرات غير المقصودة للانقلاب في مصر إلى مفاقمة التوتّرات - في البداية - بين الإسلاميين وبين العلمانيين في تونس، بيد أنها ساعدت بعد ذلك في إقناع الإسلاميين بالتوصّل إلى حلول وسط للحيلولة دون فشل التجربة الديمقراطية في البلاد" .وفعلاً؛ نجح الشيخ راشد الغنوشي؛ رئيس حزب النهضة، من ترتيب "خروج آمن" من الحكومة، والحفاظ - نسبياً - على مكاسب حزبه الإسلامي من الثورة.

ومن الجدير ذكره، أن تأثير الحدث المصري لم يقتصر على السياسات المحلية، بل ترك بصماته أيضاً على السياسات الخارجية في جميع أنحاء المنطقة.. فبعد الاطاحة بالرئيس مرسي، جرى إعادة ترتيب شراكات مصر الإقليمية تماماً. إذ تدهورت علاقات مصر بشكل كبير مع الدول التي كانت تقيم علاقة ودّية مع جماعة الإخوان المسلمين، وانتعشت مع تلك التي عارضتها. وأدّت عودة الجيش للإمساك بزمام الأمور في مصر إلى تنشيط السياسات الخارجية للقوى الإقليمية الأكثر محافظةً في الشرق الأوسط، بزعامة المملكة العربية السعودية، في حين تراجعت العلاقة مع الدول التي لم تكن راضية عما قام به الجيش، مثل تركيا وقطر.

ثانياً) فلسطين وحماس: حالة من الإحباط وخيبة الأمل
لم يتأثّر أي نظام سياسي بالأحداث التي جرت في مصر بعد الثالث من يوليو 2013م أكثر من الحالة الفلسطينية؛ أي السلطة الوطنية وحركة حماس، حيث كانت الآمال الكبيرة تحدو حماس في أن تفضي رئاسة مرسي إلى إعادة هيكلة النظام الإقليمي، بما يسمح للحركة ببناء منظومة جديدة من التحالفات كافية لتعوض تراجع علاقاتها التحالفية مع كل من حزب الله وإيران، والتي توتّرت بسبب الحرب الأهلية في سورية. لقد كانت الحركة تأمل - أيضاً - في أن يساعد وجود الإسلاميين على رأس سدة السلطة في مصر على كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، وعلى حثّ الأطراف الدولية الفاعلة على التعامل مع حركة حماس بدلاً من الاستمرار في إدارة الظهر لها.

للأسف، لم تنجح رئاسة مرسي سوى في إحداث بعض التغييرات الهامشية في السياسة الفعلية للنظام المصري، حيث بقي معظم الملف الفلسطيني في عُهدة الأجهزة الأمنية، بدلاً من نقله إلى الساسة الإسلاميين.. ومع ذلك، ترتّب على عزل الرئيس مرسي وخروج الإخوان من دائرة الحكم والسياسة عواقب وخيمة بالنسبة إلى الفلسطينيين، وخاصة حركة حماس.

كانت البيئة العامة بعد الثالث من يوليو في مصر معادية - بشكل عام -للفلسطينيين، ولحركة حماس وقطاع غزة بشكل خاص، إذ كان التعاطف مع القضية الفلسطينية كبيراً في مصر، وكان الكثير من المصريين – حتى وقت قريب - ينظرون إلى غزة باعتبار أنها قضية إنسانية ملحّة وضاغطة، وتتطلب مستويات عالية من التضامن معها، فضلاً عن كونها قضية الأمة المركزية.. ومع ذلك، وبعد الإطاحة بالرئيس مرسي، فقد بدأت وسائل الإعلام المصرية – للأسف - بالدخول على خط العلاقات التاريخية بين حماس والإخوان، وتصويرها في سياق علاقة التآمر على مصر، وذلك في إطار حملة تهدف إلى تشويه سمعة الإخوان والتشهير بهم، وقد عرضت تلك الوسائل الإعلامية – للأسف - تقارير هستيرية مجافية للحقيقة تقول بأن الرئيس مرسي وافق على توطين الفلسطينيين في سيناء المصرية، وإنه هرَّب فلسطينيين لشنّ حملات إرهابية في مصر، لا بل قالت إنه سلَّم أراضٍ مصرية لحماس.!!

إضافة لكل ما سبق من حملات التحريض والتشهير، فقد شرع النظام - بعد عزل مرسي - بفرض قيودٍ على حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود بين مصر وغزة، بما في ذلك العمل - بحماسة غير مسبوقة - على تدمير شبكة الأنفاق؛ شريان الحياة للاقتصاد الفلسطيني، والتي كان نظام الرئيس مبارك قد غضَّ الطرف عنها.

وبالنسبة للسلطة في رام الله، فقد استقبلت إخراج الإخوان من دائرة الحكم والسياسة بالترحاب، إلا أن علاقة الرئيس أبو مازن مع المشير السيسي ليست بالأريحية والمتانة التي كانت قائمة مع الرئيس مبارك، حيث يبدو أن النظام الجديد في القاهرة له وجهة نظر أخرى، وهي تميل فيما يبدو إلى ترجيح العمل مع النائب محمد دحلان وتياره الشبابي داخل حركة فتح في المرحلة القادمة.

ثالثاً) مصر ودول الخليج: تحالفات وخلافات
في قراءة متأنية لواقع التحولات التي حدثت في الخارطة السياسية بالمنطقة، والتي أعقبت عزل الرئيس محمد مرسي من قبل الجيش، فإننا نشهد حدوث تحوّل شبه زلزالي في سياسة المملكة العربية السعودية تجاه مصر، وأسفر عن ضخِّ 12 مليار دولار إلى الحكومة الجديدة المدعومة من المشير عبد الفتاح السيسي، وقد شاركت في تقديمها إلى جانب السعودية كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة.

وبحسب رأي كاثرين وليكنز؛ نائب مدير برنامج الشرق الأوسط بمعهد كارنيغي، فقد "شكّل الانقلاب المصري مأزقاً لدولة قطر، التي كانت تدعم إدارة الرئيس محمد مرسي بقوة. والواقع أن هذا المأزق جاء أيضاً في لحظة حرجة، حيث تنازل الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عن الحكم وسلم مقاليد السلطة لابنه، تميم بن حمد آل ثاني، قبل ما يزيد قليلاً عن أسبوع من الانقلاب. وعلى الرغم من أن الأمير الجديد استجاب مبدئياً للأحداث في مصر بتهنئة الرئيس المصري المؤقت، وهو ما أثار تكهنات بأنه يبتعد عن سياسات والده المؤيّدة لجماعة الإخوان، فإن العلاقات بين الدوحة والقاهرة توتّرت بشكل ملحوظ منذ يوليو 2013م"، بل إنها زادت تعقيداً بسبب مداهمات مكتب الجزيرة واعتقال بعض مراسليها، وقيام مصر بسحب سفيرها – مؤخراً - من الدوحة.

رابعاً) تركيا أردوغان: فارس بلا جواد
لقد شكّل عزل الرئيس مرسي ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ولرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، إذ إن تركيا أردوغان ترتبط بعلاقة شخصية وإيديولوجية وثيقة مع الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي علاقة قائمة على أسس عميقة لحزبين إسلاميين من تيارات الإسلام السياسي تمكنا بنجاح من الوصول إلى سدَّة الحكم عبر صناديق الاقتراع.. كما شكلت العلاقة الوطيدة بين مصر وتركيا أردوغان عنصراً هاماً من حملة المشاركة الإقليمية التركية بعد الربيع العربي، والتي وصفها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بأنها "محور جديد للديمقراطية".

وبالرغم من الانسجام في المواقف والتفاهمات التركية مع دول الخليج حول الملف السوري، إلا أن الخلاف حول ما جرى في مصر بعد الثالث من يوليو 2013م قد أدى إلى توتير وتباعد علاقات تركيا أردوغان عن كل من السعودية ودولة الإمارات العربية، وتعزيزها - بشكل ملحوظ - مع قطر وسمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

خامساً) سوريا: مستنقع الدم والثورة
لم يكن أحدٌ يتوقع أن يتوقف الحراك الشعبي في المحطة السورية، حيث كان التفاؤل بإمكانية حدوث السيناريو التونسي أو الليبي، وينتقل مشهد الثورة بعد ذلك - حسب نظرية الدومينو - من الأنظمة الجمهورية إلى الأنظمة الملكية، أما أن ينتهي المشهد بهذه الحالة المأساوية، من حيث استباحة دماء الشعب السوري بهذه الفظاعة والوحشية، فهذا كان بالكلية خارج الحسابات ولم يكن في وعي أحد من السياسيين أو حسبانه.
وتأسيساً على ذلك، فيبدو أن الغرب كان يريد لسوريا أن تكون المحطة الأخيرة في مشهد التغيير والإصلاح، وكان يريد للساحة السورية أن تصبح هي المحرقة للكوادر الإسلامية، والمستنقع المفتوح لاستنزاف ثروات الأمة، والذاكرة المرَّة لنزف دماء العرب والمسلمين بتحريض من أنظمة سياسية سُنيّة وشيعية.

لقد نجح الغرب كذلك بشرذمة المواقف العربية والإسلامية، وكسر شوكة معسكر الممانعة، وإخراج سوريا مع حليفها الاستراتيجي "حزب الله"، من دائرة المواجهة مع إسرائيل، لينتهي مشهد الصراع بالمنطقة بتفرد إسرائيلي بالطرف الفلسطيني بعد تباعده عما تبقى من عمقه العربي والإسلامي.
وفيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين القوى الوطنية والدينية بالمنطقة، فإن الرأي لدى كلٍّ من سكوت وليامسون وديفيد بيشوب من معهد كارنيغي هو "أن الزمن وحده هو الكفيل بأن يُظهر لنا ما إذا كان الدرس النهائي الذي استوعبه الإسلاميون والعلمانيون مما حدث في مصر وسوريا يتمثّل في إبرام التسويات والتوصّل إلى حلٍّ وسط، طالما أن ذلك لايزال ممكناً، أو الضغط باتجاه تحقيق انتصار شامل على خصومهم، لتجنّب التغييرات التي سوف تترتَّب على ذلك".

* وأخيراً؛ أين تمضي الأمور؟
في خضم هذه التوترات في مصر والمشاهد الدامية في سوريا والتحولات التي تجري على شكل التحالفات الجديدة في المنطقة، يأتي السؤال: "من هنا إلى أين؟".. هذا سؤال ألـ600 مليون دولار كما يقول الأمريكان، حيث إن تعقيدات الواقع هي أكبر من قدرتنا على التحليل والتخيل وتقديم الإجابة الشافية..

لقد أربك الوضع في كل من مصر وسوريا كل الحسابات والتنبؤات، وخلط كل الأوراق، وفتح الطريق لتحولات وتحالفات جديدة في المنطقة، فالسياسات العدائية التي انتهجتها مصر بعد الثالث من يوليو 2013م تجاه حركة حماس ودعمتها – للأسف - بعض دول الخليج، وموقف السعودية تجاه حركة الإخوان المسلمين؛ كبرى الحركات الإسلامية في العالم، باعتبارها حركة إرهابية، شكلت صدمة للكل الإسلامي في وقت عاشت فيه المنطقة العربية إرهاصات تغيير باتجاه تصالح القوى الإسلامية والعلمانية لصياغة أشكال من الشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، وخلق مناخات أفضل للتعايش بين الجميع، وتحقيق ما تتطلع إليه شعوب المنطقة من الأمن والاستقرار والحرية والازدهار، في أجواء تسود فيها الديمقراطية واحترام الحقوق والكرامة الإنسانية.

في الواقع كنا نحن الفلسطينيين من أكثر شعوب المنطقة تفاؤلاً بالربيع العربي، ولكننا اليوم من أشد المتشائمين؛ حيث تحول الحلم الذي تولَّد من رحم الحراك الشعبي إلى كابوس، وخسرنا دولاً مثل مصر وسوريا كان استقرارها النسبي يحفظ بعض التوازن لهيبة العرب أمام إسرائيل.

اليوم، وبكل أسف، تنساق المنطقة لشكل جديد من التحالفات قد يكون أحد أقطابه هو مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، والقطب الآخر هو تركيا وإيران وقطر، وسنجد أنفسنا كإسلاميين لا نملك إلا خيار الاصطفاف مع التحالف الثاني.

وتأسيساً على ذلك، فإن مصر والسعودية ودولة الأمارات ستحاول – على رأي البعض - مهادنة إسرائيل وربما مغازلتها، بهدف الوقوف إلى جانبها والاستقواء بها إذا استدعت الضرورة ذلك.

في ظل هذا الواقع البائس عربياً وإسلامياً، فإن اسرائيل ستمضي قدماً في سياستها الاستيطانية لابتلاع المزيد من الأرض الفلسطينية بالضفة الغربية، واستمرار عمليات تهويد الأماكن المقدسة وإغراقها بالمستوطنين، والوصول إلى حالة يستحيل معها تطبيق حل الدولتين.

إن خريطة التحالفات الجديدة في المنطقة لن تكون في صالح أحد.. وكما جرت العادة، فسندفع كفلسطينيين فاتورة الخلاف كاملة ليس فقط بين العرب وحدهم، ولكن هذه المرة بين العرب والمسلمين.

أتمنى لمصر الشقيقة أن تستقر أوضاعها الداخلية، وأن يسود فيها الأمن والأمان، وأن تظل رافعة للأمة حافظة لهيبتها؛ فإذا عزَّت مصر عزَّ العرب، وإذا عزَّ العرب عزَّ الإسلام، وصار لنا تحت الشمس مكان.