وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الشرق الأوسط وتبلور الأقطاب الاقليمية

نشر بتاريخ: 03/03/2015 ( آخر تحديث: 03/03/2015 الساعة: 15:52 )
الشرق الأوسط وتبلور الأقطاب الاقليمية
الكاتب: عثمان أبو غربية
يتواكب الصراع الذي ما زال قائماً ضد أحادية القطبية مع تشكيل عالمي جديد، حيث تأخذ الولايات المتحدة دور القطب الواحد متزعمة العالم الغربي، بذيلية أوروبية وتبعية في دول ومناطق نفوذها.
بينما تنهض روسيا ومعها الصين ودول البريكس والتحالف مع إيران.
ويتضمن هذا الخضم تركيزاً من قبل الولايات المتحدة على تطويق روسيا بمنظومات تسليحية وبحصار اقتصادي وبدفع أوروبا إلى التقليل من اعتمادها على العلاقات الاقتصادية مع روسيا وخاصةً في مجال الغاز، ومن الواضح أن سياسة تطويق روسيا بالأحلاف التي برزت في خمسينات القرن الماضي هي بذور للعقلية نفسها ضمن معطيات جديدة لمحاولات التطويق والعزل من نوع جديد.

تؤثر خارطة العلاقات الدولية وخضمها بدرجة أساسية على المجريات في كثير من مواقع العالم، ومنها ما يسمى الشرق الأوسط، حيث يتم في مناخه الصراع على النفوذ من خلال مواقع القطبية الاقليمية بالعمل المباشر أو غير المباشر. علماً أن القطب الإقليمي هو الدولة أو القوة المقررة في الاقليم والتي تسير في فلكها دول في نطاق الاقليم، وبالتالي لها دور أو أذرع خارج حدودها.
ومن الممكن القول أن عدة أطراف لها مزايا بدرجة من الدرجات لأن تكون أحد الأقطاب الاقليمية، وهذه الأطراف البارزة اليوم هي: إيران، تركيا، كيان الاحتلال، مصر، السعودية.

من الواضح في الوقت الراهن أن الأمر يكاد يسفر عن ثلاثة أقطاب مهيأة، ولكل من هذه الأطراف الخمسة نقاط قوته ونقاط ضعفه، والناتج لمعادلة القوة والضعف هو ما يقرر نتيجة المعادلة التي قد تمتلك استقراراً متوسط الأمد أو بعيد الأمد.
بينما تمتلك الأطراف العربية أكثر نقاط الضعف وخاصة بعد أن هزم المال العربي السلاح العربي في حفر الباطن، فإن إيران تمتلك أفضل المزايا.

 وهنا لا بد من التوقف عند تقييم مكثف لنقاط القوة والضعف بدءاً بإيران، حيث أن من أهم مزاياها ما يلي:
أولاً: مخزونها من النفط والغاز ويكاد يكون مخزونها من الغاز الذي يزيد عن ستة وعشرين ترليون متراً مكعباً هو الأكبر في العالم الذي بإمكانه أن ينافس المخزون الروسي الجبار، والذي يبلغ أربعة وأربعين ترليون متراً مكعباً.
ثانياً: امتدادات نفوذها وتحالفاتها الاستراتيجية، وأذرعها في كل من أفغانستان، العراق، سوريا، لبنان، اليمن، إضافة إلى تأثيراتها السياسية والمذهبية في أماكن أخرى. لكل من هذه الأذرع ما يعطيها دوراً أساسياً، حيث أن تواجدها سواء كان مباشراً أو غير مباشر في سوريا ولبنان يجعلها على حدود فلسطين المحتلة، وكذلك تواجدها في اليمن الذي يعطيها مزايا هامة قد تصل إلى تحكم استراتيجي في البحر الأحمر. تتقاسم إيران السيطرة على مضيق هرمز بما يمكنها من إغلاقه، ومن خلال نفوذها في اليمن بإمكانها أن تتحكم بمضيق باب المندب، وهما مضيقان استراتيجيان لكثير من الدول العربية خاصةً.
من خلال مضيق باب المندب يمكن التأثير على المصالح الاستراتيجية لكل من السعودية والاردن من خلال ميناء العقبة، والأهم التأثير على قناة السويس واقتصاد مصر، حيث أن مضيق باب المندب بالنسبة للقناة يشبه منابع النيل بالنسبة لنهر النيل، وكلاهما حيوية استراتيجية لمصر.
من البديهي أن هذا الامتداد لن يكون مقبولاً من الأطراف المعنية.
ثالثاً: تحالفها مع مجموعة البريكس وفي المقدمة روسيا والصين، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن القوى الغربية لم تيأس من جعل الغاز الإيراني يتحول إلى منافس للغاز الروسي وهو أمر لا يزال بعيد المنال.
رابعاً: موقعها الجيواستراتيجي، فهي تشارك في الحدود مع عدد من الدول مشاركة هامة، إضافةً إلى مشاطئتها في بحر قزوين والخليج العربي ومضيق هرمز، وبحر عمان والمحيط الهندي عموماً.
خامساً: قوتها العسكرية وما تمتلكه من تقدم في التسليح على أعلى المستويات وفي كل الصفوف، وهي تكاد تطرق باب السلاح النووي، ويأتي ترتيب جيشها الآن الثاني والعشرين من بين جيوش العالم.
سادساً: تقدمها العلمي في مجالات التكنولوجيا والعلوم الأخرى ومنها العلوم النووية، والفضائية، وكذلك البحث العلمي المطرد لديها.
سابعاً: لديها هامش استقلال أكثر من جميع الأطراف الأخرى، إضافة إلى تركيزها على التناقض الرئيس مع كيان الاحتلال.
من جهة مقابلة، لعل من أهم نقاط ضعفها تعدد مكوناتها القومية الكامنة في ظل سلطة مركزية قوية ومبدأ ولاية الفقية، والتي قد تطل منها بعض المخاطر حيال أي ضعف لهذه السلطة، ومن أبرز مكوناتها القومية: الاذرية، والكردية، والعربية، والبشتون، إلى جانب الفارسية أكبر القوميات، إضافة إلى قوميات أخرى أصغر حجماً.
وكذلك ما تعانيه من حصار إقتصادي يفرضه العالم الغربي بتحريض واضح ومباشر من قبل كيان الاحتلال في فلسطين، كما يحاول هذا العالم تسعير صراع مذهبي من شأنه إضعاف جميع أطرافه في المنطقة، وهي أطراف إسلامية بصفة عامة.

 أما تركيا فإنها تستمد نقاط القوة مما يلي:
أولاً: دورها في حلف النيتو.
ثانياً: قوتها العسكرية، يصنف جيشها كأقوى جيش في الاقليم وترتيبه الثامن بين جيوش العالم.
ثالثاً: تقدمها الاقتصادي.
رابعاً: تعتبر تركيا عقدة مفصلية لمرور الغاز إلى اوروبا، وهو ما يوفر لها مردوداً كبيراً سواء من عائدات المرور أو فرص الاستهلاك، وتتمتع بتواصل أوروبي من خلال الجغرافيا والجوار، إضافة إلى تعدد حدودها في منطقة لها كل هذه الأهمية، ولكن لتركيا نقاط ضعف هامة منها:
أولاً: ينطوي تقدمها الاقتصادي على ضعف جوهري، حيث حجمه الظاهري يبدو أكبر من نقاط ضعفه الموضوعية، بينما تعاني تركيا من مديونية كبيرة.
ثانياً: مشاكلها الداخلية وخاصةً مع الأكراد، إضافة إلى صراعات تاريخية أخرى.
ثالثاً: نزاعاتها مع الجوار، إذ أنها أخفقت في بعض الأدوار التي قامت بها مؤخراً وأهمها موقفها المعادي لسوريا، وإتفاقها لإنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري بموازاة منطقة عازلة أو شريط حدودي جنوباً من قبل كيان الاحتلال.
وهي ممر مهم للقوى التدميرية في سوريا، إضافة إلى سوء علاقاتها مع مصر وهو ما أعاد استيقاظ شعور العداء تجاه التسلط التركي القديم إلى الشارع العربي.
ورغماً عن ذلك فإن شراكتها في حلف النيتو وكونها مفصل عبور للغاز وما تملكه من موقع وتقدم يجعلها قطباً إقليمياً.

يستمد كيان الاحتلال قوته مما يلي:
أولاً: وأكثر من أي شيء آخر علاقته العضوية مع الولايات المتحدة الأمريكية وكونه ركن من أركان الأهداف الاستعمارية في المنطقة، وكون قوة وأمن وتفوق هذا الكيان من أولويات الاستراتيجية الأمريكية، وما يكتسبه من ذلك على كافة الصعد بما فيها النفوذ السياسي في إطار فلك السياسة الأمريكية والغربية.
ثانياً: امتلاكه للسلاح النووي كقوة ردعية كاسحة في المفاصل الوجودية الأشد خطورة.
ثالثاً: التقدم التكنولوجي والعلمي حتى في مجال التكنولوجيا العالية والتطوير الزراعي، والتصنيع العسكري في حدود معينة.
رابعاً: القوة العسكرية وفي المقدمة التفوق الجوي، والإمداد التسليحي الأكثر تقدماً من قبل الولايات المتحدة والترسانة البحرية الهامة، فقد تم التركيز على توفير عمق استراتيجي بحري من خلال الحصول على قطع بحرية أمريكية متطورة. والمانية حديثة وخاصة غواصات دولفين التي بإمكانها أن تحمل رؤوساً نووية، ويصنف ترتيب جيشه الحادي عشر بين جيوش العالم.
بينما يواجه هذا الكيان نقاط ضعف وجودية وأخرى جوهرية تتمثل فيما يلي:
أولاً: كونه في الأساس كيان مصنع له صفات إحلالية واحتلالية وعنصرية ليس بإمكانه الفكاك منها دون أن يغامر بمخاطر وجودية.
ثانياً: القاعدة الجغرافية المتاحة لا تتناسب مع مدى التفوق العسكري والاقتصادي.
ثالثاً: الحجم السكاني الصغير قياساً بالقوة او الطموحات التوسعية، ويضاعف الأزمة الديموغرافية لهذا الكيان حجم التواجد السكاني لأصحاب البلاد من العرب الفلسطينيين، حيث أن هذا الحجم على وشك التفوق في عموم فلسطين على حجم التواجد السكاني الاحتلالي، وهو ما تطلق عليه بعض أوساط الاحتلال وصف القنبلة الديموغرافية.
رابعاً: تقلص قوة الردع لديه إلى حد التلاشي بسبب توفر الترسانة الصاروخية للجوار والتي تشكل عامل ردع مضاد مع نقص قواه البشرية وضعفها وطبيعة حربه العدوانية الاحتلالية والعنصرية.
أخذ ينخفض مستوى ردعه العسكري في حروبه مع المقاومة الفلسطينية والقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية سواء في جنوب لبنان (اجتياح الليطاني) أو حصار بيروت، أو ما سبقها من اجتياحات متعددة، أدرك من خلالها أن مبدأ نقل المعركة إلى أرض الغير أصبح متعذراً عليه.
كذلك فإن تلك القدرة القتالية الباسلة التي أظهرها حزب الله عام 2006 وحتى عملية شبعا الأخيرة بدعم إيراني قد وفرت التحدي الأكبر لهيبة الردع لدى هذا الاحتلال، وذلك عدا عن مواجهته لأكثر من مرة في غزة عندما ظهر جلياً أن قوته في التدمير وقتل الأبرياء أكبر من قوته في الردع التي تهاوت أمام تقدم السلاح الصاروخي في المنطقة. ومثلما عدلت صواريخ أرض-أرض توازن الردع إلى حد ما مع قوة طيرانه، فقد تسببت الصواريخ المضادة للدبابات ومنها صواريخ كورنيت في تعذر تقدم الدبابات وهو ما يعزز ضعفه في الحرب البرية، إضافة لطبيعة قواه البشرية والروح المعنوية وتشتت التدريب القتالي.
يكاد يصل به الأمر إلى وهن كبير في قوة المبادرة أمام حزب الله وعمق تحالفاته، وقد أصبحت مستويات إداراته العملياتية تركز على توقي ضربات حزب الله، وخاصة فرص المباغتة والرد الرادع.

عموماً يتعذر على كيان الاحتلال توفير أمن استراتيجي طويل الأمد، ويمكنه أن يصمد أمام تغيرات مناخ المعادلات الدولية، وحتى ميزان القوى العربي بمثل هذه القاعدة الجغرافية أو السكانية المتاحة، وهو ما سيجعله عدوانياً وعنصرياً بشكل مستمر.
يستمد كيان الاحتلال دوره ونفوذه السياسي كقطب اقليمي من خلال دعم الولايات المتحدة له، وإذعان بعض الأنظمة العربية لها. وحالة إنعدام الوزن العربي الراهنة، والصراعات الذاتية في النطاقين العربي والإسلامي، والذي لا كيان الاحتلال ولا الولايات المتحدة الأمريكية بمنأى عن نشوئها وانشطاراتها وإدارة مهامها وتأثيراتها، وحتى تبديل صيغها أو تنوعها، وما تسمح به من نزاعات إجرامية تدميرية تتفشى لدفع الواقع العربي إلى الخلف وضرب الجيوش العربية وتقسيم الكيانات القطرية.

تتمتع مصر بنقاط قوة أكثر رسوخاً وعمقاً مما تظهره المرحلة الراهنة وتتمثل بعض هذه النقاط فيما يلي:
أولاً: أنها أصلاً تملك مقومات دولة قوية عميقة الجذور والتأثير تاريخياً، وهو أمر أكثر قابلية من غيره للاستمرار مستقبلاً ومصيرياً.
ثانياً: أنها أكبر دولة عربية ولديها العمق السكاني الأكبر في الاقليم، وكذلك لديها عمق جغرافي وكلاهما مناسبان كأساس لدور مؤثر في الاقليم، وإضافة ألى ذلك فهي القلعة بالنسبة للأمة العربية، وتمتلك ثلاثة أبعاد عربية وإسلامية وافريقية.
إن لدى مصر دوماً أن تمد جذورها في أعماق أبعادها، ودورها الأقليمي وقيادتها الاقليمية مطلوبان قومياً تماماً كما هما مطلوبان وطنياً.
ثالثاً: لديها مقومات لاقتصاد يمكن أن يكون قوياً، وهي مقومات مستدامة ولا تعتمد على أي مخزون يمكن أن ينضب، إضافة لكونها مهيأة لأنواع التقدم العلمي والتكنولوجي وحتى النووي.
إن مصر لا تبدأ من الصفر بعد تاريخ لأكثر من خمسة آلاف عام،
رابعاً: لديها تماسك وطني مصيري، وجيش ما زال صلباً على الرغم من أنه مستهدف لإضعافه واستنزافه، وهذا الاستنزاف يشكل مصلحة استراتيجية لكيان الاحتلال ودول التحالف الغربي. ويصنف هذا الجيش الآن على أنه الجيش الثالث عشر بين جيوش العالم، والثالث اقليمياُ.
خامساً: موقعها الجيوسياسي والجيواستراتيجي بين القارات الثلاث وامام تحديات تستدعي قوتها في كل المراحل.
سادساً: لدى مصر قناة السويس ممراً مائياً عالمياً، ونهر النيل، ومخزون من الغاز في دلتا النيل يقدر أنه أكبر مخزون شرق المتوسط، إضافة إلى مقدرات أخرى كالنفط صغير الحجم في سيناء وتوفر عناصر التنوع في طبيعتها.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن مصر تواجه قوى دفع عكسي من كل الاتجاهات، حيث أنها تعاني من بعض نقاط الضعف أهمها:
أولاً: الانكفاء على الدور الاقليمي والقومي لفترة طويلة بعد حكم الرئيس الراحل والزعيم القومي جمال عبد الناصر، وفي الواقع كان جمال عبد الناصر زعيماً عالمياً من خلال مكانته في حركة عدم الانحياز.
ثانياً: تأثيرات السياسة الغربية على واقعها الاقتصادي في تلك الحقبة، حيث تأخرت حركة البناء والنهوض التي شهدتها مراحل التعاون مع الاتحاد السوفياتي والتي برز فيها بناء السد العالي ومعامل الحديد والصلب وانتاج القطن المميز، وبناء الجيش وغيرها.
ثالثاً: انشغالها في معظم اتجاهات مجالها الحيوي، فلديها الآن المشاكل في سيناء، والآثار المحتملة على قناة السويس وتماسك الوطن، بل والآثار المحتملة الناجمة عما يجري في تخوم مضيق باب المندب والصراع الدائر في اليمن.
يعتبر مضيق باب المندب عمقاً حيوياً لقناة السويس تماماً كما تشكل منابع النيل عمقاً حيوياً لنهر النيل ومصر كلها.
لا تستطيع أن تبقى مصر بمعزل حيال أية سيطرة خارجية في مضيق باب المندب.
وكذلك لديها مشاكلها في منابع النيل سواء في القرن الافريقي أو على وجه الخصوص مع أثيوبيا، كما أن هناك مخاطر داهمة تطل عبر الحدود مع ليبيا.
كل ذلك يؤثر تأثيراً جوهرياً على استقرار واقتصاد مصر حتى لو أغفلنا مقدار التحديات الداخلية، ويؤثر أيضاً على مقدراتها لاستثمار الغاز أو النفط الذي تملكه في سيناء، وعلى الخط العربي للغاز الذي يمتد من العريش ويعبر الأردن باتجاه الشمال، وكذلك في بعض مواقعه في البحر الأبيض المتوسط.
رابعاً: قيود معاهدة كامب ديفيد عليها.
ما زالت مصر في طور التعافي بينما يجري تبلور القطبية الاقليمية وستحتاج مصر إلى بعض الوقت، خاصة وأن مشكلتها الداخلية والخارجية مع حركة الأخوان المسلمين وتفرعاتها ما زالت تؤثر على اتجاه مجهوداتها.
مصر مضطرة لموازنة توجهاتها في مجال تحالفاتها الدولية، حيث أنها دولياً ترتبط بخندق الاضطرار بينما مستقبلها يحتاج إلى الخندق الآخر وهو خندق التحالف الموضوعي.
وكما أن أمن المملكة العربية السعودية يحتاج إلى قوة واستقرار مصر فإن أمن مصر الاستراتيجي يحتاج إلى سوريا وقوة جيشها الذي يمثل الجيش الخامس إقليمياً.
لقد انكفأت فرص كل من سوريا والعراق نتيجة أحداث العقدين الماضيين، وكان من الممكن أن يكون لكل منهما فرصة، من البديهي أن هذا انكفاء عارض ولكنه مؤثر على الاقليم برمته.
يرتبط أمن مصر الاستراتيجي في مواجهة التحديات الأجنبية شرقاً بأمن وقوة سوريا والعراق. وفي كل مرة شهد التاريخ انكفاء الغزاة في فلسطين، فقد كان ذلك بفضل وحدة الجيشين الشامي والمصري، وأهم مثالان ما قام به صلاح الدين والظاهر بيبرس، وما حاوله محمد علي باشا وجمال عبد الناصر.
مصر اليوم تحتاج إلى جبهة مغاربية متناسقة معها لمواجهة المخاطر الآتية من ليبيا ومن الصحراء الكبرى.
من الضروري بذل المجهودات لتفعيل الاتحاد المغاربي لمواجهة المخاطر القومية والمخاطر المشتركة مع مصر، ويستلزم ذلك معالجة مشكلة مستعصية بين الجزائر والمغرب وهي مشكلة الصحراء الغربية.
تتعرض الجزائر والتي تملك سادس جيش إقليمي لفتح جبهات متعددة في الظروف الراهنة، حيث تم تصدير الأزمات من مالي عبر النيجر لكل من الجزائر وليبيا على وجه الخصوص. وكذلك لديها مشاكل مقاومة استخراج الغاز الصخري سواء في واحة غرداية أو سيدي صالح وتزامن ذلك مع ضرورات استقرار فرص الانتقال السلس للسلطة. هذه الجبهات تحتاج إلى تعاون مغاربي كي لا تصبح التناقضات مصدر تغذية للصراعات على اختلاف أنواعها.
يواجه المغرب العربي مخاطر الانشطار بسبب هذه التحديات المشتركة والتي يمكن أن يساعد فيها الاستخدام السلبي لتنوع الجذور من العربية إلى الأمازيغية والافريقية وحتى الطوارق.
من المؤكد أن كل نقاط الضعف والسلبيات لن تلغي مصر قطباً إقليمياً بإمكانه أن يصبح أهم هذه الأقطاب، ولكنها تشل تفعيلها لهذه الصفة مؤقتاً، ذلك لأن مصر لديها المقومات البنيوية لهذا الدور أكثر من غيره.

 كانت المملكة العربية السعودية على وشك أن تكون قطباً اقليمياً هاماً من خلال صيغة التحالف الثلاثي السابقة: مصر وسوريا والسعودية. ولكن انفراط عقد هذا التحالف ترك لها دوراً خليجياً غير مطلق.
تتمتع المملكة العربية السعودية بمزايا هامة منها:
أولاً: مخزونها النفطي الأكبر في العالم.
ثانياً: الأماكن المقدسة: فيها الحرمان الشريفان والكعبة المشرفة.
ثالثاً: قواها العسكرية وخاصة في مجال الطيران ويصنف ترتيب جيشها الخامس والعشرين من بين جيوش العالم.
رابعاً: ما تملكه من قوة مالية تتمتع بالسيولة نسبياً بما يجلب النفوذ السياسي أو مظاهره.
خامساً: مكانتها ونفوذها في إطار المجموعة الخليجية، وما ينظر إليها عربياً على أنها دولة فاعلة ولا يمكن القفز على دورها.
أما نقاط الضعف لديها فإنها تتمثل فيما يلي:
أولاً: عدم استغلالها لفرص السيولة المالية في محاور استثمارية مستدامة، وبما يعوض آثار أي طارئ يمس قوة النفط لديها، وقد كان ولا زال أمامها الفرص لأن تجري مثل هذا الاستثمار داخلياً وعربياً.
ثانياً: تقلص نفوذها في النطاقين العربي والخليجي، إذ أن سلطنة عُمان توازن علاقاتها بين الجوار الإيراني والانتماء الخليجي والعربي وخروج قطر في فترة مؤثرة على السياسة الخليجية وتردد الكويت. والأهم ما يجري في اليمن وإلى حد كبير ما يجري في البحرين وربما المناطق الشرقية في المملكة.
ثالثاً: عدم توازن أو تنويع علاقاتها الدولية الاساسية بدرجة كافية، وربط سياساتها بالولايات المتحدة وما يؤثره ذلك عليها وما يمكن أن يؤثره مستقبلاً.
ليس خافياً أن الولايات المتحدة هي صاحبة المصلحة الأولى في خفض أسعار النفط في وقت من المتوقع أن تصبح المملكة في عام 2030 مستورداً للطاقة.
وأيضاً ليس خافياً الدور في العراق وسوريا، رغم أن هناك فرصاً لارتدادات سلبية جداً لهذا الدور.

شارك السيد أوباما في تشييع المرحوم الملك عبد الله، وقد بحث أثناء ذلك العديد من الأمور مع المسؤولين السعوديين وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين. ولدى التباحث في بعض القضايا طلب أوباما من محادثيه طلبين لافتين:
الأول: طلبه من المملكة العربية السعودية التأقلم مع احتمال واقع جديد ينطوي على اتفاق إيراني-أمريكي وبديهياً غربي، وهو ما يؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران، واعداً السعودية أن تلتحق بهذا السياق في مرحلة مقبلة.
الثاني: التأكيد على دور الأخوان المسلمين في المنطقة وخاصة ضرورة الدفع باتجاه أن يكون لهم دور في مصر.
ربما لم تكن هناك حماسة سعودية للطلبين ولكنها اتخذت موقفاً أكثر جلاءً حيال موضوع الأخوان المسلمين.
تلتهب النيران من حول المملكة من جهة اليمن، وقد يشكل دخول مأرب من قبل الحوثيين نقطة فاصلة لما يعنيه بالنسبة لمضيق باب المندب، كذلك في البحرين، وفي مخاطر الارتدادات للقوى التي أنشأتها أصلاً الولايات المتحدة واعتقدت السعودية أن بإمكانها أن تستخدمها.
حصيلة كل ذلك أنه ومن خلال تبلور الأقطاب الجاري اليوم فإن كلاً من إيران وتركيا وكيان الاحتلال له حظوظ على مقاعد القطبية الاقليمية الراهنة، بينما يغرق العرب في مرحلة إنعدام وزن أو قدرة فعل.

تمتلك سوريا في الأًصل جيشاً بترتيب السادس والعشرين بين جيوش العالم وكان من الممكن لها أن تنافس على القطبية وخاصة أن بلاد الشام هي امتداد طبيعي لبعضها وأنها جميعاً أجزاء من سوريا الكبرى التي تشكلت دولها من خلال اتفاقية سايكس بيكو. ولكن سوريا اليوم محل تنازع، تتواجد فيها أذرع ثلاثة أقطاب هي تركيا وإيران وكيان الاحتلال وجميعها تتنازع على دور في سوريا بتناسق مع أبعاد دولية، والنتيجة أن سوريا مهددة في وحدتها وفي قوة جيشها وفي استقرارها ولا يلوح في الأفق حل قريب فيها.
في خضم كل ذلك تبقى فلسطين هي الجوهر الاستراتيجي والغطاء المعنوي لكل قطبية في الاقليم، ويبقى الدور تجاه فلسطين والقدس من أهم مداخل القطبية.
سيبقى التحدي الأعظم لأية قوة عربية تخترق مديات التشكل المفروضة، ولأي مدى يضمن امناً استراتيجياً مستقراً هو تحدي مخاطر الاحتلال في فلسطين وجذور سياسته التوسعية والعنصرية.
ينعكس كل ذلك على الواقع الفلسطيني، والمسألة مسألة وقت، حيث تجد القيادة الفلسطينية نفسها أيضاً بين خندقين:
الأول: خندق الاضطرار لديكتاتورية الجغرافيا وسطوة الاحتلال، وضرورات الدعم، وهو خندق يتحرك في فلك الولايات المتحدة، ويأخذ فيه كيان الاحتلال دوراً مقرراً.
الثاني: هو خندق المكان الموضوعي والاستراتيجي والطبيعي لفلسطين، ما من شك أن ضعف الحالة الفلسطينية وقوة اغلالها هو عائق كبير أمام اختيارها الحر أو التمكن من القفز عن خندق الاضطرار.
سيكون الواقع الفلسطيني خلال الفترة المقبلة أمام خيارات صعبة ومرة، وربما يصبح في رأس الأولويات هدف البقاء في أرض الوطن والصمود فوق ترابه أمام مناخات طاردة شديدة القسوة.
يمثل كيان الاحتلال في فلسطين أكبر بؤرة للشر والتمييز العنصري في العالم، وهو آخر قلاع الاحتلال. ويبدو في هذه اللحظة أن الخيارات مرة في كل الاتجاهات مهما كانت نتائج الانتخابات لديه.
حيال كل ذلك إذا أردنا عربياً وفلسطينياً تغيير الواقع فإن ما يجب أن يتم عربياً هو وقف نزيف التدمير الذاتي، ومراجعة المواقف والخلافات والتحرر من اتجاهات سياسة الولايات المتحدة بدفع من الاحتلال والمصالح الاستعمارية، وتحقيق الوحدة في وجه كل عناصر التدمير الذاتي بدون تمييز وهي التي تجري بتدبير أمريكي صهيوني، وتتمتع بدعمهما.
وكذلك مراجعة أخطاء الماضي والفجوة بين الأنظمة والشعوب، وعوامل القوة المجتمعية.
الوحدة والتماسك وإنهاء الخلافات أمر في غاية الأهمية على الرغم من ضآلة التفاؤل من القدرة على تحقيق ذلك أو الانعتاق من سطوة التحكم الأمريكي.
وكذلك فلسطينياً، من الواجب تغيير الواقع بالتوقف عن مسارات مسدودة ومجربة حتى الرمق الأخير، ووضع استراتيجية للبقاء والحفاظ على الذات وعدم ترك الاحتلال ينام على حرير احتلاله، وإعادة النظر في أوراق العلاقات.
وإذا كان تغيير الواقع إلى هذه الدرجة يعني الثورة حتى على الذات، فإن الثورة تحتاج إلى كثير من الحلم، وكثير من العقل، وكثير من الشجاعة. وقليل من الجنون، الذي يتضمن المجازفة والغضب.