نشر بتاريخ: 12/04/2015 ( آخر تحديث: 12/04/2015 الساعة: 11:58 )
هما على طريق الأب والجد وجد الأب وجد الجد!
ولنيسان، للثامن منه والتاسع ذكريات النكبة، له دير ياسين، وله القسطل، وله فارس القدس الجميل.
على خطواتهم نمشي، ونركض، ونتجول ونفكر ونتعلم. ربما ليست الخطوة نفسها، لكن الطريق واحد.
الخطو نبيل كما ينبغي للطريق، وللسائرين فيه والسائرات. لعلنا نعدّ ما تبقى من زمن ومسافات للوصول، بعد أن تعبنا عدّ ما مرّ من سنوات، نحن وآباؤنا وأجدادنا أيضا. فللمستقبل سنمضي، صعب أن نعيش في الماضي مستسلمين له، وها نحن نمضي. الخطوات هنا وهناك، والطريق متسعة للمارّة.
هو الإنسان بوجوده الحيّ، والذي يمثّل الفكر فيه والشعور أهم تجليات الوجود؛ هكذا عرف البشر سرّ البقاء، فكانت الأبجديات بدايات الحضارة، ومسببات الخلود لم رحلوا.
تعلم يا بني! تعلم اللغة والحساب!
كان طفلا درس الصفوف الأولى في المدرسة الرشيدية، ونتيجة لسيطرة الإنجليز على دار المعارف رآى والده المجاهد موسى كاظم الحسيني أن يعلمه في مدرسة المطران كمدرسة خاصة بعيدة عن تأثيرات الاحتلال الجديد.
يروي الطفل عبد القادر أنه كان يشتري مسدسات من مصروفه الشخصي، وأنه اشترك كثيراً في المظاهرات، وكان يحب أن يبث روح الوطنية بين الطلاب.
كأنه كان يرى القدس مدينته بشكل آخر حين يشترك في المظاهرات.
رغم أنه أحب مدرسته الجميلة، المنظمة، لكنه كان يطمح لتعليم نوعي آخر، رغم أنه كان صغير السن، إلا أنه استشرف المستقبل، فطمح لأساليب تعليم الفكر، والتركيز على التربية على الهوية الوطنية.
فرح وزملاؤه حين تأسست روضة المعارف الوطنية التي كان لوالده موسى كاظم دور في إنشائها، لتكون مدرسة وطنية مستقلة، والتي رآها الطفل عبد القادر قريبة إلى نفسي. فيما بعد، (بعد ربع قرن، حين صار قائد الجهاد المقدّس، وقبيل استشهاده بيوم واحد وهو يمضي للقسطل عقد فيها آخر اجتماعاته العسكرية).
بعد أن أنهى المترك وكان ذلك حوالي أواخر العام 1928م، رأى أن يكمل الدراسة، لأنه وعى سلاح التعليم في مواجهة الاستعمار، فتوجه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، لكن نتيجة لنشاطه الوطني اعتبر متطرفاً قومياً ففصل، وودع بيروت.
وخشي أن يغضب والده المحب للعلم علي بسبب ترك الجامعة، فاتجه إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة ليدرس في كلية العلوم قسم الكيمياء، وتخرج بنجاح، ويبدو أن شخصية المقدسي ظلت فيه، فكانت له آراؤه النقدية في القاهرة، فطول أيام الدراسة أصبح وعيه السياسي أنضج خصوصاً بعد الاطلاع على سياسة الاستعمار البريطاني في مصر.
عاد الأستاذ عبد القادر من مصر عام 1932م، وبدأ بتأليف نوادٍ وجمعيات وطنية، وبدأ يمارس هوايته في الكتابة، إنها رسالة الآن وليست مجرد هواية، عمل محرراً صحفياً في صحيفة الجامعة الإسلامية لمدة 6 أشهر ثم عين سكرتير تحرير، ثم محرراً في "الجامعة العربية" و "اللواء"، لكنها كلها وجدت مشاكل بسبب كتاباته، وكان الإنجليز يعيقونها عن الصدور، كتب مقالات عن تسريب الأراضي، وبالطبع لم يعجبهم ذلك .. كان يحب أن يستمر في الكتابة الصحفية، حيث وعى دور الإعلام بالنسبة للقضية الفلسطينية، (فيما بعد أنه أنشأ إذاعة عام 1947م، لنشر أخبار وبيانات المجاهدين كما أصدر نشرات بالعربية والإنجليزية تفضح سياسة الاستعمار وقد استفاد من الإعلام وخبرته في الصحافة في التحدث للصحفيين خصوصاً أيام حرب عام 1947 – 1948م، حتى أيام توجهه إلى العراق عام 1939م، لم يتخلَ عن النشر في الصحف).
وحين تطورت الأحداث في فلسطين، ولجأ عبد القادر الحسيني إلى العراق، فإنه ظل على صلة مع التعليم، حيث عمل معلماً للرياضيات والعلوم.
كان يعلّم في بغداد، وفي الوقت نفسه يتعلم، حيث اجتاز دورة علوم حربية، تفوق فيها، فعلّم أيضاً في الكلية الحربية، وكان يحاضر أيضا عن مخططات الإنكليز في فلسطين. وكان ما كان من أحداث ثورة رشيد عالي الكيلاني واشتراكه فيها، وفشل الثورة وسجنه ثلاث سنوات ونصف، حيث عمل معلماً في السجن، رياضيات وعلوم ودين. كتب مذكراته إلا أنه اتلفها خشية أن تصل إلى يد الأعداء.
ومن العراق إلى مصر إلى الحجاز ففلسطين حيث اشتعال الوضع السياسي والعسكري، حيثظلت خطواته النضالية والتعليم والثقافة والصحافة تسيران جنبا إلى جنب، لكن بعد استشهاده تم التركيز على الجوانب النضالية والعسكرية.
كانت هذه بعض من السيرة العلمية والثقافية لخالد الذكر عبد القادر الحسيني، ونحن في ذكرى استشهاده البطولية ال 67، والتي خطا فيها على خطى أبيه موسى كاظم الحسيني، الذي نال نصيبا وافرا من التعليم والثقافة، ابن القدس الحاضرة العربية الإسلامية، المحبة للعلم والعلماء والأدباء.
وتلك السيرة العلمية والثقافية المقرونة بسيرة نضالية هي من ألهمت أبناءه موسى وفيصل وغازي، الذين دمجوا التعليم والثقافة والفكر في عملهم النضالي. ولخصوصية إقامة الراحل فيصل الحسيني في القدس، فإننا هنا نركز على دوره في هذا المجال. وهو الذي درس في مدارس وجامعات القاهرة وحلب وبغداد.
فما إن بدأت خطوات فيصل الحسيني ابن ال27 عاما النضالية في القدس بعد احتلال عام 1967، حتى بدأ يواصل نهج أبيه، في النضال القائم على الفكر والثقافة ودور التعليم الطليعي في التربية على الهوية. وقد أدرك فيصل أن لكل زمن أدواته، فرغم اشتراكه في قيادة العمل الوطني على اختلاف مستوياته النضالية والسياسية، إلا أنه أسس جمعية الدراسات العربية، كمركز ثقافي ووطني في الوقت نفسه، والتي تعرضت مرات كثيرة للإغلاق بأوامر عسكرية احتلالية، إلى أن أقفلت بمكر وخداع، بعد أن تم الاتفاق في أوسلو على إبقاء القدس على الوضع القائم.
مسيرة فيصل التربوية والثقافية والفنية والإعلامية كبيرة، وقد شهدنا في عمرنا رعايته لكل مركز ثقافي وتربوي وفني، بل اشترك في تأسيس جزء منها، وكان عضوا فاعلا في عضوية عدة مؤسسات، وكان دوما يمنحنا الأمل، ويرى في الطلبة والشباب الأمل الكبير، كان يرى فيهم الردّ الإنساني على المخططات الإسرائيلية تجاه القدس وفلسطين.
انسجم فيصل مع الواقع وارتقى به، نضاليا وسياسيا ووطنيا وثقافيا وتربويا، ولعل لدى رفاقه في العمل الوطني والثقافي الكثير ما يضيفونه. ثم ليمضي فيصل، قبل أن تجف دموعنا على عبد القادر.
كانا فتى وفتاة في أول الشباب قبل 14 عاما ، حين رحل فيصل في عام 2001، عبد القادر الحفيد، وفدوى شقيقته، أبيا إلا أن يواصلا العمل العام الوطني والعلمي، وهما بما يملكان من تعليم عال وثقافة وانتماء، كانت بهما مؤسسة فيصل الحسيني، بشعارها النبيل "اشتر زمنا في القدس" الذي ردده فيصل حتى الرمق الأخير.
والحفيدان اليوم يستلهمان سيرة الأب الطيبة، وسيرة الجد، ومن خلالها يستلهمان سيرة الشخصيات المناضلة المثقفة والواعية على دور التعليم في التربية على الهوية، ويستلهمان سيرة شعبنا والذي من خلال التعليم حافظ على وجوده وكيانه.
والمطلع على الإنجازات التربوية لمؤسسة فيصل الحسيني، يجد أنها تتركز على الإنسان، حيث هناك اهتمام بتطوير أساليب التعليم، باتجاه الفكر والتعلم، إضافة إلى مفاهيم المواطنة؛ فالفكر وممارسة المواطنة الصالحة تعني الكثير لطلبة فلسطين بشكل عام، وطلبة القدس بشكل خاص كونهم مستهدفين من سياسات الاحتلال في مدينة القدس.
لكل ظرف وواقع أدواته إن كانت هناك إرادة، فها هما الحفيدان بما وفقا من وجود نخبة تعليمية حولهما، يواصلا النهوض بمدارس القدس، بما أوتيا من إمكانية، ولعل تعميم النتائج، وتوزيع الأدلة والإصدارات التربوية وتدريب معلمي القدس ومعلماتها عليها سيساهم في النهوض بالتعليم، مما سيساهم بالبقاء بما يعني البقاء من دلالات.
قبل عقد ونصف من السنوات كتبت نصا عن الساعات الأخيرة في حياة الشهيد عبد القادر الحسني (الجد)، تخيلته يتذكر محطات حياته وهو يستشهد، سأقتبس هنا الفقرة التالية على لسانه:
ما أجمل اخضرار الأرض، تلك الطريق إلى يافا كم سرنا بها، هل سيقرأ طلاب المدارس عنّا في يوم من الأيام، هل سيقرأ موسى وغازي وفيصل وهيفاء؟ لماذا أذكر هيفاء بالذات؟ ربما لأنني أتذكر وجه الشبه بين اسمها وهذا المكان، حين ولدت سميتها باسم الفارسة السورية التي قادت كتيبة من رجال البادية في عهد صلاح الدين وسقطت عند القسطل، هنا، أين أنت يا هيفاء وأخوتك وأمك..؟"
كان يؤمن عبد القادر بدور الرجل والمرأة كمتنور عاش عصر التنوير في حواضر بيروت والقاهرة والقدس، فاستشرف دورا لأبنائه وابنته أيضا. لعل الحفيدان عبد القادر وفدوى يحققان ما طمح إليه الجد الشهيد من دور إنساني للجميع لا يستثني أحدا، باتجاه فلسطين الحرة والمتنورة معا.
كان بعض هذا التأمل حديثي مع أطفالي(12، 13 عاما) وهم يسألونني عن عبد القادر الحسيني، حيث سألوني عن برواز موضوعي عنه المعلّق في البيت، فلدينا ما نفخر به هنا.
وأخيرا لعل هذا النبل يدوم.
[email protected]