نشر بتاريخ: 02/05/2015 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:09 )
بيت لحم- معا- ظهر مصطلح "جيش صغير وذكي" في ثمانينيات القرن الماضي على لسان الجنرال الإسرائيلي "دان شمرون" حتى قبل توليه منصب رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي لكن هذا المصطلح لا زال يشغل فكر وبال القيادة العسكرية الإسرائيلية العليا وكبار ضباط الجيش حتى يومنا هذا خاصة في أعقاب تغيير العقيدة والمذهب الذي يقوم عليه الجيش تلك التغيرات التي بدأت منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وحافظت فكرة إقامة "جيش صغير وذكي" على مكانتها "الرفيعة" في عقل وتفكير ومخططات كبار قادة الجيش الإسرائيلية وتجلى ذلك بالتصريحات التي أدلى بها رئيس الأركان الإسرائيلي السابق "بني غانتس" يوم 21/3/2013 أمام المؤتمر الدولي الأول "التصنت والسايبر" الذي عقد في "زخرون يعقوب" شمال إسرائيل وقال فيها "نحن بحاجة إلى الكثير من الدبابات والطائرات وقوات المشاة ومنظومات جمع المعلومات لكن عهد امتلاك حجم كبير من القوات العسكرية لم يعد قائما ويجب علينا استغلال القوى البشرية المتوفرة والتطور التكنولوجي الهائل لإقامة "قوة عسكرية بتشكيل صغير" لكن مجهزة بشكل جيد وتتمتع بالسرعة والمرونة ومحصنة بشكل هائل وقاتل وجاهزة دوما للعمل".
وأضاف رئيس الأركان السابق "ما سيسمح لنا بتشكيل هذه القوى هو معلومات استخبارية جوهرية يمكننا الحصول عليها من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى إضافة إلى شبكة من الأنظمة والمنظومات التكتيكية متعددة الأذرع".
وهناك في إسرائيل من يعتقد بان هذه الفكرة خاطئة وذلك على ضوء الظروف والمعطيات المعقدة الواجب على الجيش الإسرائيلي مواجهتها والتعامل معها كما يعتقد على سبيل المثال اللواء " غرشون هكوهن " الذي كان أخر مناصبه في الجيش مسؤولا عن الحشد "الاركاني" أو مسؤول "الحشد في هيئة الأركان" الذي يعتقد بان تحقيق اختراقات نوعية في ميادين التفوق النوعي تحتاج أيضا إلى حالة من التكامل مع تشكيل كبير من القوة "قوة كبيرة العدد والحجم" رغم ان هذه القوة الكبيرة ليس من الضروري ان تتشكل فورا او بشكل فوري لكن يجب ان تبقى خيارا قابلا للتنفيذ والحشد مع الحفاظ على خيارات بسيطة وعملية " كما فعل والدي في القدس فلم يلقي بالمدفأة التي تعمل بالسولار و الكاز وهي قديمة جدا لكنه احتاجها في موجة الثلج الماضي حين لم تتوفر الكهرباء لهذا حين انقطعت الكهرباء تمتع بدفء المدفأة التي تخلص منها الآخرون وهو "والدي" حافظ على المدفأة القديمة لأنه لم يكن واثقا بان المنظومة العامة ستعمل في أوقات الطوارئ لكننا نحن نعمل الكثير لخلق وهم لأنفسنا مفاده أن المنظومة موثوقه وكاملة ويمكنها فعل كل شيء تقريبا" قال اللواء هكوهن في سياق محاضرة له أمام المؤتمر سابق الذكر.
وأعرب عن تشككه في فكرة الجيش الصغير والذكي ما يعني التنازل عن نسبة كبيرة من القوات والمعدات العسكرية الثقيلة خاصة الدبابات والتركيز على التكنولوجيا المتطورة والطائرات داعيا إلى ما يشبه حالة من الدمج بين الجديد والقديم على طريقة مدفأة جده التي احتفظ بها بعد إن تخلص منها الجميع فتمتع هو بنار المدفأة فيما عانى من اعتمد على الكهرباء وهي في هذه الحالة تمثل فكرة " الجيش الصغير" من البرد بعد فشل المنظومة العامة وعدم عملها أوقات الطوارئ.
ويقول اللواء "هكوهن" بان طبيعة التحديدات التي تواجهها إسرائيل أمام منظومة ثقافية متميزة بقدرتها على التكيف توجب الافتراض بان كل ميدان تحقق فيه إسرائيل التفوق سيجد "خصومها" ميادين "متدنية" تمكنهم من العمل بتشكيلة أفكار وإبداعات واسعة مثل انتفاضة جماهيرية عامة قد تكون داخلية أو خارجية فماذا يمكن للجيش الذكي أن يفعل أمام 100 ألف شخص أغلقوا على سبيل المثال طريق وادي عارة هل سيقصفهم بالقذائف الذكية الموجهة المنطلقة من الطائرات الحديثة؟.
الجيش الذكي وأحلام "بوغي يعلون":
يعتبر "يعلون" أول وزير للجيش الإسرائيلي يتولى هذا المنصب في ظل غياب أي جيش نظامي يشكل تهديدا لإسرائيل وذلك للمرة الأولى منذ إقامتها حيث لم يعد خطر مكانية قيام جيش "أجنبي" بغزو إسرائيل أو حتى يخطط لذلك قائما.
وقد يستغل "يعلون" التقليصات المتوقعة في ميزانية الجيش ويرى فيها فرصة لاستكمال ما شرع به خلال إشغاله منصب رئيس الأركان وان يواصل تقليص حجم القوات البرية وان يحول الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر حاليا "جيشا ذكيا" إلى جيشا "ذكيا وصغيرا".
واعتبر خبراء تقليص الميزانية الفرصة الذهبية التي يبحث عنها "يعلون" لزيادة فاعلية القوات البرية الحالية الموصوفة بالثقيلة وغير المصقولة وتحويل الجيش إلى قوة أكثر واقعية وموضوعية وذات صلة بالواقع المعاش وفقا لتعبير المراسل العسكري للقناة الثانية "الون بن دافيد " في مقالته المنشورة يوم 20/3/2013.
وأضاف الون بن دافيد "بني الجيش الإسرائيلي على مدى العقود الأربعة الماضية على مواجهة خطر قيام جيش خارجي بغزو إسرائيل واقتطاع بعض ما تسيطر عليه من أراضي وهذا الخطر لم يعد قائما فيما لا زال الجيش مبينا بشكل يتيح له الانتصار في حرب "أكتوبر" جديدة لكن مثل هذه الحرب لن تحدث ولن تقع فتهديد الحرب الكلاسيكية التقليدية التي تربى على مفاهيمها أجيال من الجنود والضباط الإسرائيليين وتدربوا على مواجهتها لن تقع ولن تحدث في ظل الظروف الحالية.
الجيش السوري الذي غذى لسنوات طويلة السيناريوهات التي تعامل معها الجيش الإسرائيلي لم يعد موجودا أو لم يعد قادرا على فعل شيء بصفته جيشا ناجعا وفاعلا وهنا شك كبير حتى في إمكانية عودة هذا الجيش ليصبح مجددا تهديدا عسكريا في المستقبل المنظور على الأقل، والجيش المصري الذي يواصل التسلح بالأسلحة الأمريكية فهو جيش "أجوف" غير مدرب وغير حاذق وليس ماهرا أو مبدعا وإذا عاد المصريون مرة أخرى إلى ذات الخطأ وزجوا بقواتهم المدرعة في صحراء سيناء يمكن لإسرائيل بالتكنولوجيا المتوفرة حاليا أن تصد هذا الهجوم حتى دون الحاجة لان تقوم عن الكرسي".
يواجه الجيش الإسرائيلي هذه الأيام عدة تحديات عسكرية جوهرية وذات مغزى مثل حزب الله في لبنان وإيران البعيدة جغرافيا ذات التطلعات والمساعي النووية لكن رجال الجيش يدركون تماما بأنهم لن يشاهدوا في حياتهم معركة دبابات "دبابة مقابل دبابة" إضافة إلى عصر الصواريخ المضادة للدروع التي لا يزيد ثمن بعضها عن 100 ألف دولار ويمكنه بسهولة تدمير دبابة تصل تكلفتها إلى 5 ملايين دولار ما حول الكثير من ألوية المدرعات في الجيش الإسرائيلي إلى قوة غير واقعية وليست ذي صلة بالواقع.
يمكن لهذا التغير في أنوع وحجم التهديدات الإستراتيجية مضافا إليه تقليص الميزانية ان يعطي وزير الجيش "يعلون" فرصة تغيير الأسس والقواعد البنائية والتنظيمية التي تقوم وقامت عليها قوة الجيش الإسرائيلي.
وخلافا لكل أبناء جيله يعتقد " يعلون" الذي خاض حرب "اكتوبر" وهذه الحرب تحديدا هي من اقنعه بالبقاء في الجيش حتى وصل إلى أعلى منصب فيه وجلس أخيرا على كرسي وزارة الجيش الذين جعلتهم صدمة "اكتوبر" أن يهرولوا نحو إقامة مزيدا من ألوية الدبابات والمدرعات والأسراب الجوية كان "يعلون" أول من لاحظ ورصد أو من الأوائل الذين رصدوا وأدركوا المتغيرات والتغيرات على شكل طبيعة الحروب وإمكانية أن تستهل هذه الحروب بالأسلحة الدقيقة والموجهة وعصر الاستخبارات النوعية الدقيقة فشرع فور تسلمه منصب رئيس الأركان في تقليص حجم القوات البرية وجاء ذلك لأسباب اقتصادية ولكن أيضا من خلال فهم وإدراك تام بان القوات التقليدية الكبيرة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي لم تعد واقعية وذات صلة بالتحديات التي تشكلها أشباه الدول " القوى شبه العسكرية " مثل حزب الله الذي لا تشكل الدبابات مهما كان عددها ردا مناسبا عليه حيث كتب يعلون في كتاب أصدره عام 2008 تحت عنوان " الطريق القصير الطويل" دبابات ومزيدا منها لا تشكل الرد على تحديدات العقد القادم ".
قطعت حرب لبنان الثانية عام 2006 مسيرة تقليص القوات البرية ليعود الجيش الإسرائيلي بعد هذه الحرب إلى " مبادئه الأساسية" واضعا الحرب البرية والمناورة البرية في مصاف الأمور أو الأشياء المقدسة لكن بعد 7 سنوات من صدمة حرب لبنان حان وقت الخروج من الصدمة والعودة للعمل والاعتراف بان نظرية العمل القائمة على توجيه النيران الدقيقة قد توفر علينا حربا أو عملية برية وان نفهم أن التغيرات في شكل وبناء القوات البرية ليس أمرا مرغوبا ومطلوبا فقط بل محليا وحتميا أيضا اذ لن تنفع طوابير الدبابات القديمة التي لنن تصمد أمام الصواريخ المضادة للدروع في مواجهة التهديدات الصاروخية التي يشكلها حزب الله وحماس فالجيش الإسرائيلي بحاجة إلى قبضة ساحقة ومتوفرة دوما تقوم على القوات النظامية والمدرعات والمشاة المسلحين بأفضل الوسائل القتالية بما يسمح لها تنفيذ مناورة عنيفة في لبنان وغزة وحتى سوريا " أضاف يعلون في كتابه.
وهنا يمكن ليعلون أن يحقق حلمه الذي بدأ بتنفيذه أثناء إشغاله منصب رئيس الأركان وان يقيم "جيشا بريا صغيرا" لكنه ذكي ومرنا وسريع الحركة يرافق بمناورة برية قصيرة معركة جوية ثقيلة ودقيقة.
ويمكن لطريقة عمل "يعلون " القائمة على فكرة المعركة الجوية الناجحة أن توفر أيضا عملية برية كما أن التوفيرات المالية الناجمة عن تقليص حجم القوات البرية لن يشعر بها الجيش فورا فكل كتيبة دبابات قديمة يتم سلخها عن القوة الرئيسية والتخلص منها ستتيح الفرصة والموارد للتسلح في مجالات أخرى أكثر واقعية.
وأخيرا يعتبر الجيش الإسرائيلي مثله مثل كل جيش اخر منظم محافظ يقاوم بصورة غريزية كل تغير دراماتيكي لكنه في النهاية سيقبل بسلطة " يعلون" الذي سيتحول في حكومة نتنياهو الى الشخص الوحيد صاحب الخلفية العسكرية الذي خرج من صفوف الجيش وهذا ما سيتيح له فرصة إعادة تشكيل ورسم شكل وهيئة الجيش للسنوات القادمة.
ورغم هذا ستبقى فكرة الجيش الصغير والذكي مجالا واسعا للسجال داخل المؤسسة العسكرية وميدانا يتبارى فيه خبراء إعادة بناء القوة وتشكيل الجيش والمحللين الاستراتيجيين المختصين بتحديد شكل وجوهر التحديات الجديدة وطرق مواجهتها فهناك دوما من يقول إن القوات البرية الكبيرة هي من يحسم المعارك وهي من يحتل الأراضي وبالتالي لا يمكن التنازل عنها محولين عبر قولهم هذا الحفاظ على مراكز قوتهم وتأثيرهم داخل الجيش كونهم قادة كبار لأذرع برية هائلة تحصل على ميزانيات كبيرة وتمنح قادتها مصدر القوة والتأثير فيما سيواصل دعاة الجيش الذكي وتحديدا من قادة سلاح" الجو" وهو اكبر المستفيدين من هذه الفكرة من حيث زيادة التأثير والحصول على الميزانيات الأكبر والأضخم وذلك سلاح " البحرية " دعوتهم لتقليص الجيش وتخليصه من عبء واستنزاف قوات برية لم يعد لها حاجة إستراتيجية ملحة في ظل تحطم الجيش العربية وتبخرها ونشوء تهديدات من نوع جديد بعيدة عن السياق التقليدي وسيستمر هذا النقاش على مدى العقد القادم على اقل تقدير حيث ستخرج الكثير من القيادات المحافظة والمقاومة للتغير وربما يحل مكانها أخرى تدعم هذه التغير وتسهل مهمة صعبة قرر " يعلون" خوض غمار بداياتها لكنه يدرك بأنه لن يكون صاحب الكلمة الأخيرة فيها ولن تنتهي في عهده وتحت قيادته .
متابعة واعداد : فؤاد اللحام