|
حزيران الفلسطيني
نشر بتاريخ: 15/06/2015 ( آخر تحديث: 15/06/2015 الساعة: 12:46 )
الكاتب: المتوكل طه
الكراغل التي بعثها الساحر من تماثيلها الحجرية تطير من جديد في سماء البلدة، تنفث نارها وتصبّ جحيمها على البنايات والناس في بيوتهم ! وأراني صبياً، في التاسعة، أُمسك يد أخي الكبير، وأمشي فوق الشوك والحصى المسنّن، على غير هدى، نركض حيناً، ونهرول حيناً، حتى لا تلحقنا الطائرات، التي ترمي منشورات تدعو أهالي البلدة إلى تركها، وأن يمضوا شرقاً...
هذا سرب طويل من النازحين لا ينتهي، ولا يكاد حتى هذه الساعة! فالنكسة لم تنته بعد! غير أن المرأة التي جاءها المخاض، ونزّ دم رحمها، قد أخذتها النسوة تحت الخرُّوبة لتضع حملها الذي كان أُنثى.. وها أنذا مع الصبية أتلصّص النظر، من وراء البطّانية التي التفّت سوراً حولها، لأرى كيف تلد النساء! ماتت الوالدة تحت الخروبة وغطّى دمُها الورقَ الناشف المتساقط، وذبلت حتى حفروا لها قبراً ووضعوها، كما هي، دون صلاة أو كفن! وعادت بعض الجموع، بعد شهرين، إلى البلدة التي كانت قد احترقت وانهدمت، وأرى أمي، رحمها الله ، تدفن رأسها بين كفّيها وتجوح ، وألحظ أبي ، رحمه الله ، يقتعد درج البيت، ساهماً لا يتحرك كأنه تمثال موزّع الأهواء، مأخوذاً بما لم أدركه.. حينها! -2- لعل إيمانَ أبي شيبان لم يحتمل أن يرى "اليهود" في القدس! ويسقط عليه هذا الأمر قدراً ثقيلاً ! فالأهون عليه أن يغادر هذا الواقع والقدر المحتوم ويغادر وَعْيه، لأن هذا الوعي لا يستوعب قسوة "الحقيقة" المناقضة لكل وَعْيه واحتمالاته. وبمغادرته إلى عوالم كثيرة، فإنه يكون في حالة دفاع دائم عن إيمانه الذي تقهقر أمام ذلك الحدث الداهم الثقيل. وبالتأكيد، فإن إيمان أبي شيبان لم يتغيّر، لكنه هُزم كشخص. فثمة مؤمنون لا يحتمل إيمانهم أن يُهزم، لأنهم يدركون أن هناك مُجبرات وفجائع وحقائق مبهظة في الحياة، لهذا يقاومونها ويرفضونها ويتألمون لذلك، وقد يُهزَمون كأشخاص، لكن إيمانهم لا يُهزم! لأنهم على يقين أن الإيمان كينونة وليس كائناً. ونشعر بندم شديد! لكننا كنّا صغاراً لا نُدرك أن اجتماعنا ولحاقنا بأبي شيبان وصراخنا خلفه مستهزئين سيورثنا هذا الندم الممضّ! كان رجلاً قد تجاوز السبعين، يمشي هائماً على وجهه المفزوع بلحية شائكة بيضاء، وسروال متّسخ، حافياً زائغاً، وكثيراً ما كانت روزته تنفتح فتبدو كالعباءة على كتفيه، فتظهر شلحته المتّسخة وسرواله الفضفاض المُهترئ. وأبو شيبان كان رجلاً ولا كل الرجال.. عاقلاً.. دمثاً.. قليل الكلام.. محتشماً.. خجولاً.. ذا مروءة وكرم، لكن صبيحة اليوم الثاني من نكسة حزيران العام 1967 كانت كافية لأن يخرج أبو شيبان على غير هدى إلى الناس يسألهم عمّا جرى، فصار يمسك بقبّة هذا ويد ذاك، ويلكز هذا ويصرخ في وجه ذاك، وهو غير مُصدّق، ويكرّر جُملته الواحدة: هل هُم في القدس الآن؟ ثم يصرخ: اليهود في القدس.. يا باي، ويلطم على وجهه، ويبكي! فيضرب الناس كفّاً بكفّ ويقولون: لقد جُنّ أبو شيبان! وظلّ أبو شيبان ينظر في الوجوه، ويتفحّص الخلائق الذين انغمسوا في أعمالهم صارخاً في وجوههم، يشدّ مَنْ يجده، حتى باتوا يتحاشونه، كأنهم يفرّون من سؤاله الذابح! كان طبيعياً أن تصدف أبا شيبان دائراً كالزوبعة في الأزقة والشوارع، يتمتم بكلامه المُبهم وخطواته السريعة التائهة، حتى غاب عن الأنظار، ولم يفطن أحد لغيابه، فقد وجدوه متكلّساً في حقل الليمون جوار البلدة لشِدّة البرد، فظنوه مجمّداً أو مغمياً عليه، لكن طبيب الوحدة الصحية أكد أنه ميت منذ ما يزيد على شهر، والعجيب أن جثته لم تتعفّن ولم تتغضّن، وظلت بطراوتها وأنفاسها الدافئة كأنه حيّ يرزق. وظلّت البلدة دون سؤال! *** أما أبو سَلَمة خفيف الظل، صاحب الغمّازتين الحلوتين، الواثق كل الثقة من أنّ للبيت ربّاً يحميه ، فما إن يتحادث الرجال عن الشائعات التي تقول بأن اليهود سيقومون باحتلال ما تبقّى من القدس، حتى يدير ظهره لهم، ويقول جملته البيضاء في وجه كلامهم الأسود، ومفادها: إن للحَرم ربّاً يحميه! أما في يوم الخامس من حزيران في ذلك العام المشؤوم 1967، فقد هُدمت قناعة الرجل عندما سمع جنوداً يرطنون بلغة غريبة تختلط مع قعقعة السلاح وأسماء لم يعهدها؟ ففتح أبو سلمة الشباك، ونظر إلى السماء، وقال: لماذا تحرجني؟ ماذا سيقول الناس عني؟ بعد شهور رأى الناس أبا سلمة يذهب عند أذان المغرب، ويقف بين شواهد القبور، في مقبرة الرحمة شرق البلدة القديمة، وحده، ثم يُقيم الصلاة وحده، أيضاً، ويقف إماماً وينظر يمينه ويساره ويقول: استقيموا إلى الصلاة يرحمكم الله، استووا واعتدلوا أثابنا وأثابكم الله، ويصلّي كأنَّ وراءه مُصلّين! وكم كان استغراب مَنْ رآه يصلّي إماماً في جماعةٍ وهو وحدَه ليس إلاّ. وتكررت صلاة أبي سلمة وإمامته في الناس غير المرئيين، وكان ذلك كل أسبوع تقريباً! وصادف أن أبا سلمة كلّما قام بصلاته تلك وقعت عملية فدائية؛ تفجير هنا وقنبلة هناك، ورصاص هنا وكمين هناك، وراح الناس يربطون بين إمامة أبي سلمة في المقبَرة والعملية البطولية التي ستقع بعدها بساعات!! وذُهل أهل المدينة غير مصدِّقين تلك العلاقة الحقيقية والمبهمة، والرابط الذهبي بين الصلاة والجهاد! ووصل الخبر إلى المخابرات الاحتلالية، فقامت باعتقال أبي سلمة، وأخضعته لتحقيق مكثف وشرس وطويل، غير أنها خرجت خالية الوفاض، ولم تتمكن من استخراج حرف واحد من فم أبي سلمة، فوضعته في زنزانته وحيداً مُنعزلاً .. وراحت تراقبه! كانت المخابرات قد وضعت عدسة كاميرا تراقب أبي سلمة ليلا ًونهاراً، وتعدّ عليه أنفاسه، وتراقب صلواته ودعواته ونومه وقضاء حاجته! وأخيراً، لاحظوا أن أبا سلمة قام ووسّع المكان الضيق في زنزانته، ونفخ غبارها ومسحه بيده، ووقف في زاوية الزنزانة وكبّر وأقام الصلاة، ونظر خلفه يميناً ويساراً وقال: استقيموا إلى الصلاة يرحمنا ويرحمكم الله، استووا واعتدلوا أثابنا وأثابكم الله، وراح يُصلّي جهراً صلاة المغرب كأنّ أسراباً خلفه تؤمّن على ما يقوله من كتاب الله العظيم، وفي اليوم التالي كانت عملية فدائية قد خسفت تجمعاً لجنود الاحتلال! فأعادوا أبا سلمة إلى التحقيق، ولكن .. دون جدوى! -3- لقد استمرأوا اللعبة! ينامون ولا يحلمون، في زمنٍ مرتّب كالدّوران خلف النمل الأزرق، الذي قوّض المواسم، وجعل الحوشَ مرتعاً للغبار، وكانوا يعرفون ما الذي سيقوله الرماديُ فيهم، لكنهم صفقوا ووقفوا تبجيلاً للضياع ! وخرجت الصفحات، كالعادة، ملونة كالحرباء. لقد جرفوا القلوب، وعرّضوها للخنوع. ولم يختلط الأمر على تمثال الشّهيد، لكنه الظلُّ الذي يلتبسُ على الناس، الذين يعزفون قليلاً رغم الخيانة، لكنهم ينشدون أغانيهم في النهاية. لقد دخلنا في التيه، لكننا لن ننتظر تسعاًوأربعين سنة أخرى في الرّمل، لأننا على موعدٍ مع الميجانا والميرمية والسيدة العذراء، ولأن الشجاعة هي التي تنتصر دائماً. |