|
بعد الدوابشة: الآن جاء دورنا
نشر بتاريخ: 12/08/2015 ( آخر تحديث: 12/08/2015 الساعة: 12:01 )
الكاتب: الدكتور المحامي معتز قفيشة
فتح انضمام فلسطين كدولة عضو كامل في المحكمة الجنائية الدولية مع بداية شهر نيسان/ أبريل 2015 آفاقا جديدا للعمل ضد الاحتلال الإسرائيلي باستخدام سلاح جديد للمقاومة هو القانون الدولي والمحكمة الدولية. تعطي المادة 15 من ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الحق للمنظمات غير الحكومية وحتى للأشخاص العاديين تقديم شكاوى التي ترتكب على أراضي أي دولة طرف. وبالاطلاع على الموقع الإلكتروني للمحكمة، نجد أن مكتب المدعي العام يتيح الفرصة لأي شخص بتقديم بلاغ حول ارتكاب جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية من خلال البريد الإلكتروني ([email protected]).
لقد عمل رئيس دولة فلسطين ما عليه بفتح باب جديد لنا لمقاومة الاحتلال. يقع الواجب الآن علينا لإكمام المهمة. سمعنا في وسائل الإعلام مطالبات عدة للسلطة الوطنية الفلسطينية بتقديم جريمة حرق عائلة دوابشة للمحكمة الدولية. هذا مطلب مشروع، لكن لم أسمع أي من وسائل الإعلام يعتزم تقديم مثل هذه الشكوى. قضية دوابشة هي واحدة من سلسلة الأعمال الإجرامية التي ترتكبها حكومة إسرائيل والعصابات الإرهابية الاستيطانية في فلسطين كل لحظة. السلطة هي جهة رسمية غير مطلوب منها، وهي حقيقة لن تسطيع وحدها، أن تلاحق المجرمين الإسرائيليين في كل حي وفي كل قرية أو مخيم. السلطة كانت مطالبة بالانضمام للمحكمة، صحيح أنها تأخرت بعض الشيء، لكنها انضمت أخيرا. وهي مطالبة أيضا باتخاذ خطوات تكميلية لعمل المحكمة الدولية مثل سن قانون وطني يعاقب الجرائم الدولية وتطوير القضاء والنيابة العامة والشرطة والسجون والتشريعات لتتناسق مع متطلبات المحكمة. لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق منظمات المجتمع المدني الفلسطيني والدولي (وحتى الإسرائيلي) وعلى وسائل الإعلام وكليات وطلبة الحقوق والمحامين والنشطاء السياسيين وحتى الأفراد العاديين. يمكن لأي من هؤلاء أن يركز على موضوع محدد أو قضية معينة لرفعها لمكتب المدعي العام للمحكمة. ما أكثر الانتهاكات والجرائم التي ترتكب. قدمت دولة فلسطين قضيتي الحرب على غزة والاستيطان للمحكمة. جيد. لكن هذا لا يكفي. نحتاج إلى تقديم قضايا حول التطهير العرقي والتهجير والفصل العنصري والسجناء والقتل وجرائم المستوطنين. هذه خطوط عريضة، لكن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، كما يقال. لا يمكن أن تقدم ملفات بعناوين كبيرة وكلمات فضفاضة، لأن المدعية العامة لا تكترث بها. كما لا يمكن الاستفادة من قضية تشمل اعتداء على فرد أو فردين أو عشرة أو عشرين. هنا نذكر بأن المدعي العام رفض الاستمرار في قضية الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة على اعتبار أن قتل أحد عشر شخصا لا يشكل جريمة كبيرة باعتبار أن المحكمة تركز على أكثر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خطورة، بالرغم من أن سفينة مرمرة تابعة لدولة عضو في المحكمة وهي دولة جزر القمر. المطلوب هو التركيز على ملفات محددة فيها جانب واضح ومحدد وشديد الخطورة. سأعطي أمثلة على ذلك. يمكن العمل على ملف التهجير من المناطق المحاذية للجدار؛ هنا يوجد عشرات الآلاف من المتأثرين. يمكن العمل على قضية التهجير من القدس؛ هناك يوجد عشرات الآلاف أيضا. يمكن العمل على قضية المعتقلين الإداريين كجريمة ضد الإنسانية كونهم لم يتلقوا محاكمة عادلة كما يفرضها القانون الدولي، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة؛ والمعتقلون الإداريون بالمئات. الأسرى المقاومون المحاكمون في "قضايا"، يمكن العمل على قضيتهم كأسرى حرب بموجب اتفاقية جنيف الثالثة التي تتطلب الإفراج عنهم بمجرد انتهاء الأعمال العسكرية؛فيوجد آلاف السجناء بغير أساس قانوني دولي. قضية الفصل العنصري في مدينة الخليل، والذي يمس عشرات الآلاف من سكان منطقة "H2"، هو مثال آخر. حالة الفلسطينيين المهجرين من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 حتى الآن يمكن العمل عليها كجريمة حرب مستمرة تشمل حوالي مليون ونصف مهجر (أو ما يسمى إعلاميا "نازح"). الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة يشكل تطهير عرقي كما وصفه مقرر الأمم المتحدة السابق الخاص بفلسطين ريتشارد فولك وهو جريمة تمس قرابة مليوني إنسان. جرائم المستوطنين المتكررة التي تشمل الاعتداء على آلاف المدنيين بمجملها تشكل حالة جيدة للعرض على المحكمة، خاصة في ظل عدم رغبة إسرائيل بمحاكمة هؤلاء المجرمين كما أوضح تقرير "ييش دين" قبل ثلاثة أشهر. كل مستوطنة إسرائيلية قد تشكل وحدها حالة يمكن عرضها على المحكمة، مثل أرئيل أو معاليه أدوميم أو كريات أربع أو بزغوت أو كفار عتسيون؛ هنا يجدر عرض تاريخ كل مستوطنة وعدد سكانها وأسماء المسؤولين الذين قرروا بناءها أو حمايتها أو إدارتها. مجموع الجرائم اليومية التي يقتل بها جنود الاحتلال بدم بارد الأطفال والشباب والشابات هي مثال لجريمة حرب إضافية. إذا فشلنا في قضية ما أمام المحكمة علينا أن نأخذ العبرة منها ونعرف أسباب الرفض ونكرر المحاولة مع تجنب الأخطاء التي وقعنا فيها في القضية السابقة. لقد استفدنا سابقة رفض المدعي العام طلب فلسطين للتحقيق في جرائم الحرب على غزة عام 2008-2009، ونجحنا في المرة الثانية عام 2014 بعد أن تعلمنا من تجربتنا. ولحسن الحظ يتيح ميثاق المحكمة الدولية، على عكس القانون المحلي، تقديم شكاوى حول نفس القضية إذا ظهرت أدلة أو معلومات إضافية. كما يمكن تقديم مجموعة من الشكاوى حول نفس القضايا ومن مصادر متعددة. علينا أن نغرق المحكمة بعشرات أو حتى مئات القضايا وأن لا نترك الفرصة للمدعية العامة أو للمحكمة أو لإسرائيل وداعميها ليستريحوا. لنقدم قضية تلو القضية حتى ننجح ولو في قضية واحدة. فيما يتعلق بأفغانستان، على سبيل المثال، تم تقديم 102 شكوى بين عامي 2003 عندما انضمت أفغانستان للمحكمة الجنائية و2007 حين قرر المدعي العام أخيرا وبعد مقتل آلاف المدنيين فتح تحقيق أولي يشمل طالبان والولايات المتحدة وغيرهما. النجاح ولو في قضية واحدة سيغير المعادلة. عندما يصبح نتنياهو ويعلون وليبرمان وغيرهم من قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين والمستوطنين مطلوبين للمحكمة ومطاردين من قبل الإنتربول في 123 دولة من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا وحتى كوريا واليابان، عندها ستأتي إلينا إسرائيل ذليلة تستجدي المفاوضات لحل النزاع. حينئذ ستتوسل إسرائيل إلى مجلس الأمن للطلب من المحكمة وقف الملاحقة في قضية ما. في تلك اللحظة ستكون فلسطين هي صاحبة القرار. قد يكون لنا كفلسطينيين في التجربة الكردية في الكفاح ضد تركيا عبرة. فبالتزامن مع الكفاح السياسي والعسكري، قدم الأكراد آلاف القضايا ضد تركيا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.ففي العام 2012 مثلا، قدم للمحكمة الأوروبية أكثر من 9000 قضية ضد تركيا، جلها من الأكراد. لم ينجحوا في كل القضايا. وإنما النجاح في بعضها أوصل الأكراد لبعض مطالبهم. لقد أصبح يقال أن المحكمة الأوروبية هي محكمة خاصة بالأكراد. من كثرة القضايا ضدها، استسلمت الحكومة التركية ولم تستطع تقديم المزيد من الأدلة والمرافعات أمام المحكمة. لقد أصبحت المحكمة تقرر ضد تركيا بكل سهولة. ما كان من تركيا إلا أن توقفت عن إعدام عبد الله أوجلان والقبول بحل سلمي يضمن الاعتراف بالمزيد من حقوق الأكراد، حتى وصلت الحد بتركيا إلى تعديل الدستور ليضمن سموا للمحكمة الأوروبية فوق القانون والقضاء التركي. لم تكن الاستجابة من أول سنة (منذ عام 1959) أو عشر سنوات، لكن الإصرار والمثابرة والعمل الحقوقي المهني أنتج أكله ولو بعد حين. هذه أول مرة في التاريخ تفتح لنا، كفلسطينيين، قناة قضائية يمكن الأفراد دخولها بشكل جدي. فلنستعد لذلك. لكن يجب أن ندرك أن المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها ومدعيها العام(حاليا السيدة فاتو بنسودة) وموظفيها هم ليسوا فلسطينيين ولن ينظروا للشكاوى بشكل عاطفي أو شخصي. هم ليسوا معنا أو ضدنا أو مع إسرائيل أو ضدها. هم مع الحقيقة كما تقدم إليهم من قبل الأطراف من خلال الوثائق المكتوبة. فصاحب الحجة الأقوى في كل قضية على حدة، سواء الإسرائيلي أو الفلسطيني، هو الذي سيكسب. المحكمة ستنظر إلى كل قضية من خلال الوثائق المكتوبة والأدلة والأرقام الدقيقة والشهادات المدعومة بالأسماء والأوقات والأمكنة التي تقع فيها الجرائم. كما أن الكتابات والتحليلات القانونية الأكاديمية حول كل قضية محددة ستؤثر على القرار. فمثلا بعد أن قدمت فلسطين طلبا لاختصاص المحكمة عام 2009، أجريت مئات الدراسات القانونية، معظمها للأسف من جهات مؤيدة لإسرائيل، طالبت المدعي العام بأن يعلن أنه غير مختص، وهذا ما حصل فعلا عام 2012. مثل هذه الأعمال تتطلب جهدا مهنيا احترافيا عند تقديم أي شكوى للمحكمة الجنائية الدولية. في المحاكم المحلية تستغرق قضية سرقة أو ضرب خاصة بشخص واحد عدة جلسات وتحقق فيها الشرطة والنيابة العامة والمحكمة ويستدعى فيها الشهود ويوكل فيها المحامون ويدعى إليها الخبراء وقد تأخذ سنة أو عدة سنوات. فما بالنا في قضايا أكبر تشمل مئات أو آلاف أو حتى ملايين الضحايا والمجرمين والشهود والوثائق والمحامين، وفوق ذلك تتدخل فيها الحكومات وسياسات الدول العظمى ومجلس الأمن. كما أن هنالك ضرورة عملية بأن تكون الكتابة المقدمة للمحكمة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية؛ إذأن الكتابة بلغات أخرى (كالعربية) تتطلب وقتا وجهدا وتكلفة أكبر من المحكمة لترجمتها. لمثل هذه القضايا الكبرى علينا أن نستعد. كل جمعية حقوقية وكل عيادة قانونية وكلية حقوق وكل وسيلة إعلام ومجموعة شبابية وكل حزب سياسي وشركة محاماة وكل وزارة أو هيئة حكومية أو حتى شركة خاصة، يمكنها أن تأخذ زمام المبادرة وتعمل على توثيق قضية من مئات القضايا التي يمكن تقديمها للمحكمة. لا يجوز لنا أن نظل نلوم السلطة وأن نطالبها بالتحرك. لنتحرك نحن. فالآن جاء دورنا. ملاحظة: اعتمدت هذه المقالة على بحث مفصل حول التكامل بين القانون الجنائي الدولي والفلسطيني قدمه الكاتب للهيئة العالمية للقانون الدولي (ILA)، لجنة التكامل، لندن، آب 2015. |