وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

في الذكرى السابعة لرحيل سيد الكلمة درويش ...

نشر بتاريخ: 13/08/2015 ( آخر تحديث: 13/08/2015 الساعة: 10:59 )
في الذكرى السابعة لرحيل سيد الكلمة درويش ...
الكاتب: يونس العموري
وكأنه اراد ان يعاقبنا بإنسحابه من مشهد الحياة .. وكانه اراد ان يقول ان عصر العمالقة قد انتهى فترجل بصمت وبهدوء ... فكان رحيله واجزم بان رحيلة قد كان احتجاجا وإستنكارا على احراق شجر الزيتون بيد غارسيه ... وكأنه لم يحتمل أكثر هذا الخراب وهدم المعبد من جديد ... وكأنه لا يريد ان يمعن النظر اكثر بالمشهد ... وربما عليك الأن ان تعتذر عما فعلت ... ففعل الرحيل لا يتوافق والموقف الأن .. فقد كنت أخر العمالقة يا سيدي ... و لا نحتمل كل هذا الحزن والشجن ... انتظرنا طويلا لعودة الفراشات فقد أنبئتنا بعودتها .. وأجبرتنا على التمترس خلف كلمات مزامير عشاق الحياة ... وكنا ان عشقنا الحياة بعد ان فهمنا معادلتها ... بأن يأخذوا حصصهم من دمائنا وتستمر الحياة بكنف الأرض البكر المسماة فلسطين ام البدايات ام النهايات .... 

فحينما يصيبنا الوهن نلوذ بالفرار نحو فضاءات كلماتك المحلقة بحواري القدس والمصممة على ان ترسم البسمة على شفاه عاشقة تعلم انها لابد ان تستظل بزهر اللوز لتنتظر القادم الى حضنها ... ويكون ان يأتيها بلحظة صناعة المعجزة حينما يصبح للكلام المباح روحا وجسدا كتعويذة عرفنا كيف نحفظها لتحفظنا من شرور انفسنا ... وحيث انك قد ادركت ان هذا العصر قد صار زمنا لكلام المرتدين عن أديانهم ... وعادوا لصلبنا من جديد ... وقد صار للكلام وللموقف خربشات اخرى وتداخل الحق بالباطل واصبح الباطل سيد الموقف وله جولة بالإنتصار ... فقررت ان تصمت عن الكلام ....

هناك حيث عرفناك منذ البدايات بالكرمل انشدتك عصافير البراري ... ورددت من بعدك سجلها العربي وهويتها أدركتها وعرفتها وتحدت جلاديها بشيء من الكلام والنظق بلغة الضاد .. فهل يفهم من يفهم اليوم من يتبارون على بلاغة القول الركيك بعصر الرويبضات .....
هنا حيث الأرض الحبلى دوما تكون علامة الإستفهام ... ولا ياتينا الجواب ... وكنا نفكك طلاسم التيه ونلجأ اليك ... كم كان حملك ثقيل ومهمتك صعبة ... يا ايقونة فلسطين ... ونجمة احرفها ... اخترت الرحيل بالمواقيت الخاطئة ... من اين لك كل هذه القسوة يا اخر النبلاء ...
إذن انت منذ الآن غيرك. لك الأسماء الحسنى والنعوت. ولك أن تكون، كما تكون، خاتم الشعراء!

عرفت كيف العبور نحو فلسطين دون ان تثقل كاهلها ... وتسللت اليها من خلال خبز امك وقهوتها ... وحبيبتك دوما كانت تنهض من نومها متثاقلة ... أجبرتهم على النظر والـتأمل بعيون ريتا ... وبندقيه عاشقها .... ورسمت لهم طريق الخلاص من قبضة الفرشات ... ودعوتهم لأن يرحلوا عن سماءنا وبحرنا وعشقنا ويكفوا ايدهم عن نساءنا وجميلاتنا ... كنت عربيا بإمتياز ... وجدك المتنبي ينتظرك الأن بحضرة روضة اللغة والكلام المباح حيث سادة اللغة ... أخترت الرحيل لكوننا لم نعد نفهمك ام انك قد اردت ان تعاقبنا على فعلنا وتيهنا بصحاري زيفنا ...؟؟ بعد ان صار لنا الكثير من الأنبياء .... ام يكون رحيله استنكارا اعجازيا على طريق الرفض والممانعة لهذا العهر الذي صار يسمى وقائع العصر الجديد بعد ان صار لنا وطنان وصار لنا قتلى نقتلهم بايدينا متى نشاء وصار لنا سجون تحرسها بنادقنا ... لقد قتلتك الفضيحة، بعد أن رسمت الوطن وغنّىيت له، إلى أن اعترفت: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء".

يا صاحب الإضافات وسيد الكلمة. لم يحن الوقت لتترجّل عن حلمك – حلمنا. حيفا نائمة حالمة بيوم آخر. ألا تسمع صوت البحر الآن؟. إنه هائج. "والآن، وأنت مسجى فوق الكلمات وحيدًا، ملفوفًا بالزنبق.. أدرك ما لم أدرك: إن المستقبل منذئذٍ، هو ماضيك القادم". وماضيك هو ماضينا وهو مستقبلنا.
لا أظنك الآن "في حضرة الغياب". لا أظن. فأنت صاحب النبوءة الأولى: "حاصر حصارك لا مفر"!.

أن نقرأ الدرويش مرة اخرى بحضرة الكرمل بحيفا، فذاك مشهد اعتقد أن له كل الدلالات والمعاني... وان يعتلي فارس الكلمة الشعرية، صهوة حيفا، ليعلن عن الموقف الوطني، بلغه الشعراء الفلسفية لتتحول إلى بيان سياسي، بليغ فصيح واضح المعنى فذاك أيضا له كل الدلالات والمعاني... وان تأتي الكلمة الفصل من هذا المطوع للكلمة، خدمة لجمالية الألم وسط كل مشاهد الخراب والتخريب للذاكرة الوطنية الجمعية، فلذلك أيضا الكثير من المعنى الكامن في الذات، منذ أن أصبحت الخيانة وجهة نظر، والقتل مباحا مستباحا، من اجل أن تعلو كلمة حراس المعبد الجديد على الأرض....
حاول هذا القادم.. العائد... إلى الحيفا.. والمحاول الأن ان يعود الى تراب البروة ...أن يتمنطق بمنطق الفرسان النبلاء العائدون إلى حضن الأم... بعد أن كان لابد من أن يغادره ليكون اللقاء أكثر حميمية.. فكثيرة هي الأشياء التي لابد من الإمعان بصناعتها، وتقدير مواقفها، والعمل على خلق ولادتها، لتكون أكثر جمالية والأكثر إبداعا للخلق...

درويش كان لابد له من أن يغادر كي يعود كما كانت عودته إلى الكرمل مغنيا للكلمة ومطوعا للحرف لينحت الموقف المعبر عن الذات المؤمنة بعبقرية صناعة اللوحة الجمالية بعبقرية هذا الرحيل الأول ليلمس شكل وطبيعة طريق العودة إلى الوطن وكونها الأجمل من الوطن ذاته فالطريق إلى الوطن لا شك أنها الأجمل والأنقى ولربما أيضا الأبهى... وربما أيضا كان لابد من فعل الرحيل ليكون اللقاء كما نشتهي... وهو الذي حاول أن يعتبر أن يكون اللقاء طبيعي في سياق طبيعة الأشياء ومنطقها الفيزيائي... وحيث أن لفلسطين منطق حسابات أخرى مختلفة عن كل الحسابات الإنسانية فمن الطبيعي أن يتحول الحدث في اللقاء الدرويشي شأنا عاما واحتفاليا... وأوليس القادم في حضرة الكرمل من ترجل منه ليعود على صهوة الخيل منذ أن بدأ خطواته نحو طريق العودة مجددا حاملا معه كل إبداعات الكلمة والموقف والجمل المعبرة عن ذواتنا المبعثرة بكل الأمكنة....؟؟ وليكون الصعود للكرمل وقد اكتمل النص جمالا وإبداعا وليصبح على هذه الأرض ما يستحق الحياة....؟؟ ودون أن نجهد أنفسنا بالسؤال المعتاد لماذا كان النزول عن الكرمل يوما..؟؟ نقول وبلغته أيضا حتى يكون الصعود بالموعد القادم... فلا يمكن أن يكون صعودا دون أن يكون نزولا.... وحتى لا تفقد اللغة حضنها ومرجعيتها كان لابد من الصعود مجددا نحو قبلة السماء حيث اللغة الوحيدة القادرة أن تعلو وان تسمو وان تحاكي رب عرش السماوات تضرعا وحبا وتحنانا... ولا مكان للتضرع، والأقرب إلى الرب.. سوى كرمل الحيفا الأقرب إلى سماء ملتحما بزرقة البحر لتتشكل لوحة ربانية من جديد...

ليس من الحق أو الخيار أن يختار من يعتقد أن المنافي قد تخلقه من جديد أو من يتحكم بمصير فعله الشعري أو اللغوي أو الإنساني وليس من حق هؤلاء جميعا أن يستكينوا للحدث إلا إذا أعلنوا أن تمردهم وإصرارهم على الحياة وسط الدمار ممكنا وان المنفى جزء من مشهدية الوطن وفيها يتشكل الوطن أكثر وضوحا والرؤية تصبح أكثر نقاوة وتتضح المعاني حينما نضع النقاط على الحروف فالمنفى أيضا جزء من الوطن... وان للحب فسحة أمل وسط الأحمر القاني... حينها... وحينها فقط من حقك أن تصعد الكرمل وان تغني شعرك وترتجل قولك كلاما فصيحا بليغا جميلا.... فهنا كانت البدايات ولابد من تتواصل الكلمات... ومن هنا كانت التكوينات لرحلة المغامرات خارج تشكيلات جغرافيا المكان... وذاكرة المكان تختزن الكثير من خبايا الأحلام المتطايرة على شواطىء الحيفا...
هو التاريخ الذي لابد من صناعة أبجدياته من جديد ليستوي مع ما نريد من مسيرة لربما تكون عكس مسار الواقعية الجديدة وأنصارها.. وأنت من عاكس مسار واقعيتهم حينما تمرد على كل القوانين بما فيها قوانين ممانعة الوطن في لحظات التوق للإنعتاق من كينونة المكان والزمان وكنت أن أبحرت غربا وشرقا وحينما جاء الريح الشمالي وجدناك هنا بالكرمل... كان لابد من أن تستكين على سفوحه ولو للحظة وتحط ترحالك لتلقي علينا البيان الأتي حتى نعي ونفهم ونتوازن مع الذات في لحظات الصدمة... فأنت جزء من هذا التاريخ المتواصل والمستمر بإحداث صدماته بصرف النظر عن مكامن الخلل فيه....

كنا بحاجة وما زلنا الأكثر حاجة لأن تصدمنا كلمات مزاميرك وتفسر لنا شيئا من عبثية كوابيس الفعل المجنون على الأرض وكانت أن أتتنا تلك البلاغة حينما قلت... (...لكن كوابيسنا لم تزج بغزة في هذا المشهد إلى أن صحونا من الغيبوبة على علم ذي لون واحد يصرع علما رباعي الألوان وعلى محاولة انتحار المعنى علانية في الشوارع وعلى أسرى بزي عسكري يسوقون أسرى عراة إلى كاميرا النصر....) كنا بحاجة إلى قراءة من هذا النوع حتى نتوازن ولو قليلا ولنفسر الأشياء بتفسيراتها الصحيحة وحتى نضع النقاط على الحروف.. إذن كان لابد لك من أن تصعد إلى الكرمل وتلقي علينا تعويذة تحمينا من شرور وشرود أفكار الكفر المعششة في أعماقنا....
فقد صار لنا إمارة هناك وحاكمية هنا... ولنا أن نختار مابين أن ننتصر أو ننصر ذواتنا بشيء من وهم فعل فرسان الانتصار ونجرب ولو لمرة معنى السجود في حضرة هتافات التكبير على أعتاب وبوابات القلاع المهزومة....

مرة أخرى نحاول مجتهدين أن نفسر حقائقنا سيدي الشاعر الكنعاني الناطق بالضاد العربية لنستوعب أهات الظلم فينا وكيف لها أن تحرق دساتير تراثنا المتقوقعة بالنص الخرافي بأننا ملائكة هذا الزمان، فكنا أن فوجعنا بشكل المرايا حينما انعكست صورنا على شكل بشر تائهون باحثون عن معانينا... وتكون أن تأتينا أخبارنا لنكتشف زيفنا وان من منا من يمضي بصومعته متطرفا حتى يحتكر المعبد منصبا نفسه سيد سدنة الجنة والنار.... ومنا من يمضي بلهوه ولعبه... ممعنا بالتخريب حتى يقدمنا قرابين على مذابح رؤيته الواقعية السياسية الجديدة... كنا بحاجة لقراءة مزاميرك من جديد حتى نصحو من وهم امتلاكنا لحقيقة ذواتنا... واعتقد أن ابتهالاتك على الكرمل قد جاءتنا بيانا فصيحا بليغا.... كافيا شافيا... ولابد لهذا الشعب من أن يمسك بزمام فعله ومصيره من جديد....
وحينما تعود الى بروتك على جناح الفراشات ... فقد عادت الفراشة ولملمت مبعثراتها .. كما علمتها انت ان تعود...