|
روتس الغلابة وأحلام البؤساء
نشر بتاريخ: 27/08/2015 ( آخر تحديث: 27/08/2015 الساعة: 11:06 )
الكاتب: د. وليد القططي
عندما كنت شاباً صغيراً في مقتبل العمر منهياً مرحلة المراهقة قرأت رواية البؤساء لفيكتور هوجو ترجمة الأديب مصطفى المنفلوطي , التي تصّور الظلم الاجتماعي في فرنسا بعد سقوط نابليون في النصف الأول من القرن التاسع عشر , وبطل الرواية هو ( جان فالجان ) الذي قضى في السجن تسعة عشر عاماً بسبب سرقته لرغيف خبز ليُطعم أخته وأطفالها الذين يتضورون جوعاً , وكان قد حُكم عليه بالسجن خمس سنوات امتدت إلى تسعة عشر عاماً بعد محاولاته المتكررة للهرب ,والمأساة التي تعّرض لها بطل الرواية باسم القانون لم تكن مجرد مأساة فردية , بل هي مأساة كل البؤساء في الأرض الذين تُقتل أحلامهم البسيطة وباسم القانون في كثير من الأحيان , هذه الأحلام التي لا تزيد عن كونها توفير سبل العيش لهم ولأسرهم , ولم يكن الشاب محمد أبو عاصي في غزة إلاّ أحد هؤلاء البؤساء الذين صودرت أحلامهم البسيطة وحقوقهم الطبيعية باسم القانون أيضاً .
والصدمة التي أحدثتها حادثة محاولة انتحار محمد أبو عاصي بعد مصادرة بلدية غزة لبسطته على شاطئ بحر غزة ورفضها إرجاعها له والتي أطلق عليها ساخراً اسم ( روتس الغلابة ) لم تكن بسبب محاولته الانتحار بحد ذاتها رغم مآساتها ككل محاولة انتحار ناجحة أو فاشلة بغض النظر عن السبب والمسؤولية الشرعية , بل كانت هذه الصدمة ناتجة عن الدافع الذي أدى به إلى الانتحار , والذي يشكّل مآساة أخرى تُضاف إلى مآساة الانتحار , بل هي المآساة الحقيقية لجيل بأكمله توّقفت حياتهم عند لحظة تاريخية كئيبة لم نستطع مغادرتها إلى أجمل منها , وتجمدّت طموحاتهم داخل سجن مغلق لم نتمكن من كسر قيوده التي صنعنا بعضها بأيدينا , وتحطّمت آمالهم على صخرتي الاحتلال والانقسام التي عجزنا عن ازاحتهما , وضاعت أحلامهم بين دهاليز المناكفات السياسية وجعجعات الردح السياسي والردح المضاد . فكم من بائسٍ مثل محمد أبو عاصي لم نسمع عنه لا يستطيع إيجاد فرصة عمل ليسد رمق أطفاله الجوعى , وكم من خريج وخريجة ذهبت أحلامهم أدراج الرياح وخطفهم غول النسيان بين جدران بيوتهم العتيقة لأنهم لم تتح لهم الفرصة لتأسيس بيوت جديدة , وكم من فرصة عمل تم إجهاضها بسبب قوانين ذكية تعرف الفقراء والبؤساء فتدوسهم وتعرف الاغنياء وأولى الطول من عليّه القوم فتتخطاهم , وكم من وظيفة عامة تجاوزت الأكفاء المستحقين لها لتحط رحالها عند المقربين من الحزب الحاكم وأولى الأمر وأبنائهم وذراريهم , وكم من أحلام البؤساء البسيطة غرقت في مستنقعات الانتهازية والحزبية والفساد النتنة , أو تُرك أصحابها وحيدون في بحر متلاطم من أمواج الاحتلال والحصار والانقسام والفقر والبطالة ... وبعد هذا كله لنسأل أنفسنا : كم سيصبح عدد المنتحرين أو محاولي الانتحار لو تكررت مأساة أبو عاصي ؟! وماذا سيحدث فيما لو فُتح باب الهجرة على مصراعيه من فلسطين عامة ومن غزة خاصة ؟! . وإذا تجاوزنا حالة تشخيص الواقع إلى تحديد المسؤولية عما حدث لا نريد أن نبسّط الأمور – كما فعل البعض – الذين حملّوا بلدية غزة المسؤولية وطالبوا باستقالة رئيس بلديتها , وهي محاولة تحمل في طياتها تبرئة المسئول الحقيقي عما حدث ولا زال يحدث في غزة , والتي تُعتبر البلدية ومسئوليها الحلقة الاخيرة فيها, أما حلقاتها الأولى فتبدأ بالمستوى السياسي الذي ساهم في وصول الأمور إلى هذا الحد المأساوي من أزمات طالت مختلف نواحي الحياة في غزة , والحديث يدور في هذا الاطار عما نستطيع أن نفعله بإرادتنا دون أن نعفي الاحتلال الصهيوني من المسئولية الأولى عن مأساة الشعب الفلسطيني برمته بما فيه الجزء الذي كُتب عليه الحياة في سجن غزة الكبير . كما لا نريد أن نُلقي باللوم على الضحية – كما فعل البعض الآخر – الذين حملّوه مسؤولية الموت كمداً بالانتحار , أو الموت غرقاً في عرض البحر بعد الهجرة , ونحشر الضحايا بين زاويتي الموت جوعاً أو الموت هماً بعد أن سُدّت أمامهم سُبل العيش . واذا أردنا تجاوز مرحلتي التشخيص وتحديد المسؤولية إلى العلاج وإيجاد الحل لا بد أن نحدد الهدف الذي نسعى لتحقيقه في مرحلة التحرر الوطني , وهو تحرير الأرض والإنسان لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على تراب فلسطين , ولا يتم تحقيق هذا الهدف إلا ببقاء الشعب الفلسطيني فوق أرضه وصموده عليها , وأن يبقى هذا الجيل والأجيال التالية على أرضهم صامدين وفي وطنهم مرابطين , وهذا لا يتم بدوره إلاّ بتوفير فرص الحياة الكريمة لهم ليصمدوا أمام الاحتلال والاستيطان ويقاوموه حتى يأذن الله تعالى بالنصر , وبالتالي لا بد من انهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية والاتفاق على مشروع وطني موحّد على أساس الثوابت الوطنية ونهج المقاومة بمفهومها الشامل . هذا المشروع الوطني الذي من الضروري أن يتضمن الحد الأدنى من فرص الحياة للجيل الجديد في وطنه فلسطين , حتى يسلًم الراية للجيل الذي يليه . |