|
" مات والدي ... الله أكبر والوطن أبقى "
نشر بتاريخ: 01/09/2015 ( آخر تحديث: 01/09/2015 الساعة: 14:19 )
الكاتب: د. محمد المصري
مات والدي ... الله أكبر والوطن أبقى, أقول ذلك محتسباً موت والدي عند الله, الرحيم والكريم والواسع, وما كان لي أن اعترض أو اشكو أو اتذمر, فالله القاهر فوق العباد, جعل الموت آية متكررة للتفكير والاعتبار , وللتذكير بأن النهاية قادمة, طال الأمر أم قصر.
ولكن موت والدي, فتح في قلبي وعقلي كثيراً من الأسئلة والتأمل, فوالدي, ذلك البسيط الذي عاش غزة ورمالها, وتنفس بياراتها ونسائم بحرها, وذاق ويلات قطاعها وحروبها وحصاراتها وانتصاراتها, لأكثر من سبع وتسعين عاماً, كان يمكن لي أن اودعه إلى قبره, وكان يمكن أن اشارك أهلي وربعي حزني على والدي, الذي أحمل في قلبي وجهه, وعلى جسدي عرقه, ولكني لم استطيع أن احمل نعشه, ولا أن ارش على قبره الورد, ولا أن اتلقى العزاء عنه فوق رأسه, مات والدي والوطن مقسوم ومنقسم على نفسه وعلى مصالحه وعلى اجنداته وعلى رجالاته, مات والدي في قطاع محاصر, وأنا كذلك محاصر, فكان هناك عزائين, ووردتين, لم يخفف عني زيارة كل الاصدقاء والاحباب والزملاء من القيادات السياسية والأمنية, والفصائلية, و العشائرية, رغم شكري العميق وامتناني العميم, كانت زيارتهم لي في العزاء خير معين وخير معزٍ, ولكن ألم الانشقاق إلى نصفي قنبلة وانفكاك روابط الدم والرمل والعرق, حز في روحي وقلبي, لم أشأ أن احول وفاة والدي وسيلة للنجاة الشخصية, أو حلاً فردياً, رغم أن مسئولي السلطة في القطاع, جاؤوا مشكورين إلى العزاء واتصلوا وعرضوا ما عرضوا, لا, لم أرغب أن اجعل من ذلك قنطرة للخلاص الشخصي, وقد فعلت ذلك يوم تزوجت ابنتي الصغرى ساندرا, عودة الوطن إلى أهله وعودة الأهل إلى وطنهم لا تتم إلا على اساس من الثقة الكاملة بالمصير الواحد والمستقبل الواحد. مات والدي, الذي فجأة شعرت كم هو قريب مني, وأنني افتقده, شعرت خلال ايام العزاء هنا في رام الله وهناك في غزة, أن هذا الرجل البسيط, الذي تكمن عبقرتيه في بساطته وارتكابه فعل الحياة بأبسط معانيها: البقاء فلسطينياً, شعرت أن الناس حولنا احباؤنا واصدقاؤنا, كبارهم وصغارهم, قريبهم وبعيدهم, يعيدون هذا المعنى إلى أصله, كان العزاء وكأنه تعبير عن تمجيد هذه البساطة, وهذا العمق, وهذه الفلسطينية التي تعاش دون أن تسمى أو يحكي عنها, هي فقط تعاش كما ينبغي. رأيت أن الناس خلال أيام العزاء أنهم يعيدون من خلال جثة أبي جثة الوطن المفكك والمنقسم الأف الناس جاءت تقول أن الوطن واحد, ولوكان ذلك في جنازة, ثقافة الناس فوق الحدود, وثقافة الناس تخلق الحدود, وكانت جثة أبي التي دفنت بين رمال غزة وجذورها تؤصل لهذا المعني. ولهذا أشكر كل من جاء إلى عزاء والدي, ليس فقط ليعزيني وأخوتي , وإنما لأن مجيئه أكد وحدة الوطن والأرض والمصير, لأن زيارته كانت فوق فصائليته وجهويته وانتماءاته. أشكر الناس البسطاء الذين جاءوا من انحاء رام الله وكافة المحافظات ليشاطروني احزاني ودموعي المؤجلة لاسفحها على قبر أبي في رمل غزة عندما يحين الوقت, وأشكر أصدقائي من كل الفصائل والهيئات الرسمية والشعبية والعربية, أشكر كل من جاء ليقول لغزة أنها في البال, وأنها لم تنسى, كما لم ولن انسى والدي وجثته التي لم اعانقها العناق الأخير, واسمح لنفسي بشكر دنيا الوطن, التي اعلنت عن وفاة والدي, وكانت معنا دائماً, الله أكبر والوطن أبقى, لم يدفن أبي في قطاع غزة, ولكن دفن أيضاً في قلبي وأحلامي وعندما يعود الوطن إلى الوطن, سأخرج كفنه الطاهرة من قلبي وارمي عليه ما اشاء من الدمع والورد |