وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

اسعد الشوا حكاية موت لن تموت

نشر بتاريخ: 01/09/2015 ( آخر تحديث: 01/09/2015 الساعة: 14:45 )
اسعد الشوا حكاية موت لن تموت
الكاتب: عصام بكر
اسعد جبرا الشوا من حي الشجاعية بمدينة غزة ، وبسام ابراهيم السمودي من بلدة اليامون في جنين اسمان جمعهما الموت في لحظة واحدة في ذات الموقف سقط الشوا مضرجا بدمائه قبل ان يكمل عامه العشرين ولد العام 1969 سقط اسعد ثم بسام ليخترق الرصاص قلبيهما المليئان بالحب للوطن وتراب الارض ، في العام 1988 الذي كان ذروة اشتعال الانتفاضة الاولى وحكايات البطولة ، وميادين التحدي والمواجهة المفتوحة مع الاحتلال تكتسح المشهد وسط ذهول العالم اجمع ، الشعب الفلسطيني بكل فئاته وقطاعاته يخرج للشوارع ، يملئ الساحات ويعلو النشيد حكايات العشق الابدي في ارتباط لا انفصال فيه ولا انفصام بين الانسان والارض والهوية ليرد على الذين توهموا انهم دجنوه ، وانسوه ، ونزعوا من صدره حب الارض وفي هذا الزمن لم ينسى الناس وان اختلفت الطرق والوسائل ، ورغم كل ما تعرضوا له يسكنهم الحب للمعاني الاصيلة للانتماء للبلد .

على اثرالانتفاضة الاولى زجت سلطات الاحتلال بالاف المواطنين في السجون والمعتقلات وافتتحت العديد من المعتقلات الجديدة ومنها سجن النقب " انصار3 " الذي لم يمض على افتتاحه الا خمسة اشهر ليكون مع هبة الكرامة والارادة بعد ان وصلت الحياة الاعتقالية فيه الى ما يشبه الجحيم ، في هذا السجن الصحراوي سيء الصيت حاولت سلطات الاحتلال تحطيم ارادة الانسان الفلسطيني ، كسر جذوة الانتفاضة التي يتصاعد لهيبها رغم كل صنوف القمع والقتل والدموية ، برغم ذلك كله كانت تتصاعد موجات الفعل الوطني العفوي استجابة لنداء القيادة الموحدة للانتفاضة شعب كامل يريد الخلاص ، ويهتف بسقوط الاحتلال وينادي بالحرية ، قلب المشهد كل الحسابات والموازيين من جديد لعيد الروح للارادة السياسية الفلسطينية لتعيد قراءة التجرية والمشهد من جديد بما في ذلك الموقف السياسي الفلسطيني برمته .

كان النقب الصحراوي الذي اطلق عليه الاسرى مقبرة الاحياء للدلالة على سوء الاوضاع الاعتقالية ، وافتقاره لادنى مقومات الحياة الادمية احدى ادوات المواجهة مع الاحتلال بعد ان ارادوا ان يجعلوه مقبرة فعلية للمناضلين ونشطاء الانتفاضة ، وضعوا فيه بكل العقلية السادية كل مقومات القهر والعذاب اليومي ، ولم يمضي على افتتاحه سوى عدة اشهر فقط حتى كانت المواجهة بعد انعدام شروط الحياة وتفاقم الاوضاع اليومية – منتصف اب 1988 وتحديدا في قسم "ب " احتج حوالي 1500 معتقل على سوء المعاملة وقسوة السجان وتنكيله المتواصل ، تلاه استنفار ، هتاف ، يعلوا صوت التكبير والنشيد ، تصدح الحناجر في مواجهة الموت ، جنود العشرات مدججيين بكل الاسلحة ، تقذف الايدي كل ما يمكن ان تصل اليه احذية ، صابون ، ادوات بلاستيكية وشخصية لتدافع عن نفسها لترد قنابل الغاز التي تلقى بكثافة ، وهروات ، عملية قمع بشعة اصيب على اثرها العشرات بجروح لكن لهيب الاشتعال لم يتوقف والتحدي وصل الى خط اللارجعة دخل قائد السجن " تسيمح " الذي قاد شخصيا عملية القمع الى القسم مع جنوده بالخوذ وكامل العتاد الحربي وصرخ قائلا : من الرجل فيكم ؟؟ وقف الشاب الغض اسعد بكل بسالة وقال انا رجل كلنا رجال - فما كان من هذا السجان الا ان اخذ بندقية من احد الجنود واطلق النار مباشرة الى صدره ، وللامانة والتاريخ ونقلا عن الاسرى الذين كانوا بالمكان شق الشوا قميصه وهو يردد بكل ثقة واعتزاز انا رجل لحظات قبيل تلقي سيل الرصاص على صدره النحيل ويسقط شهيدا ، ثم تلاه السمودي الذي اخترق جسده ايضا عدد من الرصاصات ولتندلع بعدها شرارة المواجهات العنيفة بين المعتقلين وجنود الاحتلال الذين استدعوا قوات اضافية بعد ان فقدوا السيطرة على السجن حيث اصيب عشرات الاسرى جراء الاعتداء عليهم لاخماد تمردهم واسكات صوتهم
اسعد الشوا الذي كان ناشطا في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني انذاك اعطى بدمه المثال الحي المتوهج للمواجهة المفتوحة مع هذا الاحتلال بكل تعبرات وجوده فوق الارض الفلسطينية ، ورسم على ارض النقب معاني العزة والكبرياء مستلهما طريق عمر عوض الله ، والكيلاني وسليمان النجاب ، وخضر عيسى ، واحمد دحدول والقائمة الطويلة لعشرات الشيوعيين الذين دافعوا ببسالة منقطعة النظير وايمان مطلق بالمباديء والمثل التي تربوا عليها مستلهمين التجربة الطويلة لجيل المناضلين الاوائل من الرعيل الاول الذين قدموا المثال الانصع في الصمود ، وواجهوا المشانق والزنازين بهامات مرفوعة منذ الانتداب البريطاني وعلى مر السنين والحقب في وجه كل اشكال الاستعمار والاستبداد والعبودية والتخلف والاحلاف المشبوة ، لمعاني الصمود والثبات والقناعة الراسخة بحتمية النصر .

اسد النقب هو الاسم الذي اطلقه زملاء اسعد وهم يتحثون عن اعلى درجات الفداء والشموخ لهذا الشاب اليافع ابن مدينة غزة الذي رفض المهانة والذل وسقط واقفا وهو على كل حال الشهيد الاول على مر تاريخ الحركة الاسيرة قاطبة الذي يسقط بالرصاص من مسافة تكاد تكون صفر فقائمة الشهداء اليوم تضم 208 اسرى سقطوا ما بين التعذيب او الاهمال الطبي او بقانون التغذية القسرية خلال الاضرابات عن الطعام لكنها المرة الاولى والوحيدة التي يسقط فيها اسيرا بالرصاص وبشكل مقصود مع سبق الاصرار ومع معرفة الجاني " تسيميح " قائد السجن .
حكاية بعد 27 عاما ما زلت مفتوحة على وجع والم كبيريين لم تمحى مع الزمن ، فنحن على موعد في اب من كل عام مع ذكرى هذا البطل التي تطل علينا تداهمنا تعيد تذكرينا ان نسينا او غاب عنا بسبب الانشغالات الكثيرة طيف هذا الشهيد لون عينيه بشرته الغزاوية التي تدل على صرامة وحب وبساطة ، رائحة البحر على شواطيء غزة وطعم القهوة الصباحية وحكاية حب لم تدوم ، تضاريس البلاد الحبلى بالانصهار الواعي بين الانسان والارض ، المواجهات التي تمليء المكان والخوف الذي يبدو واضحا على جنود لم يعد بمقدورهم السير في الطرقات والازقة ، طيف هذا الشجاع الجميل الذي لم تغيب وهو يعانق شمس النقب في ذورة اب كيف يمكن ان تغيب وهي مزروعة في عمق الفكر ونبل الموقف ، نطوف فيها ونقطف من حديقة الذكريات منها كل القيم ونتمثل في كل سنة مثل التحدي والحب الازلي للفلسطيني وتراب وطنه بنقاء وبساطة وتعبيرات الحب الابهى في الشهادة والموت وقوفا .

الاسرى والاسيرات وتجربة الاعتقال المريرة الشاهدة على ان حوالي مليون فلسطيني دخل السجن ، وذاق مرارة التعذيب وهول الجرائم المتواصلة الى يومنا هذا ، سياسات المحتل هذه الصفحة التي تعج بمئات القصص الحاضرة التي تمثل عناوين بارزة سطرها الاسرى عن طيب خاطر بارادتهم بالامعاء الخاوية والاضرابات الفردية والجماعية عن الطعام في رسالة واضحة انهم لن يقبلوا الذل رفضا للاعتقال الاداري ، او العزل الانفرادي او الاهمال الطبي المتعمد وغيرها الكثير من الاسباب التي تبقى الباب مفتواحا للانفجار في أي لحظة هو ربما ذات القمع يا اسعد وهي نفس الادوات وان اختلفت الوجوه عقليه الفاشي الذي يزرع الكراهية ويحرق الاطفال احياء تهمين بقوة اليوم مثل الامس واشد فتكا رافضة الاستجابة لنداء الانسان ومنطق التاريخ ، ورائحة الغاز المسيل للدموع والبارود والدم المسفوك تمليء المكان ، والاصرار ايضا ما زال هنا - ما زال يا اسد النقب ميزان الحق المائل نفسه والعدالة الدولية الغائبة نفسها ، ذات السياسة العرجاء للمؤسسات الانسانية ومنها الصليب الاحمر الدولي الذي كان مندوبه في ذلك اليوم شاهدا على الجريمة يوم اطلق الرصاص على جسدك ولم يفعل شيئا ، ما زلنا للاسف بحاجة لعمل الكثير حتى نوافيكم حقكم او بعض منه ، فانتم ايقونة صبرنا الباقية وحكاية العشق السرمدي التي لا تنتهي ، هذا الارتباط الابدي للتراب المقدس وشموع العطاء التي تمحو ليل الحقد والعنصرية هي صفحة يعاد فتحها وهي لم تغلق بعد 27 عاما كأنها حدثت بالامس فقط ، فراق صعب وقاتل ورحيل يليق بشموخ الشهداء الابرار " يذهبوا الى حتفهم باسمين " صفحة تصفعنا جميعا لنتوحد في قلاع الاسر في كل السجون وحدة الارادة والعمل ، نحتاج فيها لتجدد روح الحركة الاسيرة وهي رأس الرمح في المواجهة اليومية ، وفي السجون الكبيرة خارح اسوار السجن الصغير تدعونا للعمل للنهوض وطي صفحة الانقسام جاءت رسالة الشوا بعد 27 عاما من الدماء التي سالت ذلك اليوم لتعيد النداء لكل اصحاب القرار بأن توحدوا لو كان اسعد بيينا لقال كفى انقسام وحدوا الرايات فكلنا كشعب اهداف مشروعة للرصاص بالنسبة لهم .

ان الطريق الذي شقه اسعد جبرا الشوا وهذه المأثرة التي صنعها وهو يقد ازرار قميصه ويفتح صدره ليواجه الرصاص في ذلك اليوم الصيفي اللاهب من شهر اب قبل 27 عاما هو محل فخر للشعب والحزب ولكل الاحرار والمناضلين وصية الشوا اللاذعة الحزينة لنا هي الوحدة وان لا يفلت الجاني من العقاب ، والطريق الى الجنائية الدولية هو اقصر الطرق للقصاص والعدالة الانسانية ليس المسؤول هو من اطلق الرصاص على صدري وانما حكومته هي التي اعطت الاوامر للقتل وما زلت تحرق الاطفال في بيوتهم احياء هي المجرم الفالت من العقاب .



28/8/2015