|
خرافة الزمن الجميل
نشر بتاريخ: 13/09/2015 ( آخر تحديث: 13/09/2015 الساعة: 10:46 )
الكاتب: د. وليد القططي
قابلت مؤخراً أحد زملاء السجن القُدامى بطريق الصدفة في مكان ما من إمبراطورية غزة المترامية الأطراف , فاختلسنا برهةً من الزمن نسترجع فيها سوياً ذكريات السجن في الانتفاضة الأولى , وقبل الفراق مجدداً وفي نهاية هذا اللقاء القصير أطلق زميلي جملته الأخيرة متحسراً ومتأوهاً " آه لقد كان زمناً جميلاً ", فوافقته على ذلك وافترقنا وذهب كل منا إلى سبيله, غير أني توّقفت عند الجملة الأخيرة التي تصف مرحلة السجن بالزمن الجميل , وأعدت التفكير بها مرة أخرى , وتساءلت بيني وبين نفسي إن كان السجن زمناً جميلاً فعلاً , أيكون السجن زمناً جميلاً وفيه ما فيه من التعذيب في أقبية التحقيق ( المسلخ ) , ومن المعاناة في غرف أو خيم السجن ( المردوانات ) , ومن الصراعات المتواصلة مع إدارة السجن والمتقطعة بين التنظيمات داخل السجن , وان كان جميلاً فعلاً فلماذا كنّا ننتظر الخروج منه بفارغ الصبر , وننام لياليه على أمل الافراج في الصباح , ونرنوا إلى معجزة لا تأتي إلاّ نادراً تخرجنا منه . فكيف يصبح السجن بعد ذلك زمناً جميلاً إلاّ إذا محونا من الذاكرة كل ما سبق وتذكرّنا الجوانب المشرقة منه فقط وهي كثيرة تبدأ بشعور السجين بالفخر نتيجة لمشاركته في النضال الوطني وتضحيته بحريته قرباناً لحرية وطنه , ولا تنتهي بلذة التحدي التي يشعر بها الأحرار رغم قيد السجن وبطش السجان , مروراً بالمشاركة الوجدانية التي يعيشها السجناء في الأفراح والأحزان .
وهذا اللقاء ذكرّني بحديث مع زملائي في العمل تناولنا فيه الماضي مقارناً بالحاضر , الذي وصفوه بالزمن الجميل وبرهنوا على ذلك بذكر أن الناس كان عندهم دين وأخلاق وشهامة ...وعددوا من أنواع الفضائل والقيم والأخلاق الكثير , وهنا لم أوافقهم في الرأي كما وافقت زميل السجن , وقلت لهم إنني لا أؤمن بمقولة الزمن الجميل . فكل زمن فيه قدر كافٍ من الجمال والقبح , ويتصارع فيه الخير والشر , ويتدافع فيه الحق والباطل ... فما كان جميلاً بالنسبة لجيلنا في الماضي ربما كان قبيحاً للجيل الذي سبقنا , وما نراه الآن قبيحاً قد يراه الجيل الذي يلينا جميلاً , وقد تصفه الأجيال التالية لنا بالزمن الجميل وهكذا . فالجمال والقبح يخضعان للنسبية في كثير من جوانبهما , والشيء الواحد قد يراه البعض جميلاً بينما يراه البعض الآخر قبيحاً من نفس الجيل , ولكنه يعني أن التغيير يمكن أن يصيب هذه المعايير نفسها . وهذا لا يعني عدم وجود معايير ثابتة للجمال والقبح يمكن الاحتكام إليها , ولا يعني عدم تميز مرحلة زمنية عن أخرى في إحدى مجالات الحياة كالعلم والأدب والفن والأخلاق . وحقيقة وجود الزمن الجميل التي تعني بالضرورة وجود زمن قبيح تقودنا إلى البحث في تفسير المقولات التي تتحدث عن زمن الفن الجميل و الأدب الجميل و الأخلاق الجميل و الرياضة... وغيرها , ومن هذه التفسيرات ما قاله الناقد الفني المصري ( طارق البشري ) " إن فن الزمن الجميل أو روائع الزمن الجميل ليست سوى اكذوبة نعيش عليها ونصدّقها , فكل الأزمنة فيها قدر من القبح ... إن الزمن يلعب دوراً في غربلة الأشياء وتصفيتها فتموت الرداءة ... مصر أنتجت أربعة آلاف فيلم وما يُعرض منها في الفضائيات هو أربعمائة فيلم فقط , فنحكم على الزمن من خلال ما يُعرض فقط , فنرى الماضي من شرفة الحاضر . " . ويفسّر ذلك الكاتب الصحفي المصري ( أسامة غريب ) بقوله : " الناس في كل زمان ومكان يحنّون إلى الماضي ويتحدثون عنه باعتباره الزمن الجميل الذي فر من بين أصابعهم ولن يعود ... الانسان نفسه هو الذي كان جميلاً في فترة الشباب والصحة والإقبال على الحياة مفعماً بالآمال والأحلام ... " وحسب هذا التفسير فإن الذي تغير هو الإنسان وليس الزمن , فعندما كان شاباً قوياً مفعماً بالحيوية ومزوّداً بالأمل بمستقبل أفضل كان يرى كل شيء جميلاً , وعندما شاخ وضعف وذهبت حيويته ومات أمله رأى نفس الأشياء بمنظار أسود يشوّه جمالها , إضافة إلى أن الإنسان مجبولاً على حب ذكرياته الماضية والحنين إليها لاسيما إذا كانت جميلة حقاً . وفي رأي بعض علماء النفس ان الإنسان يعود إلى الماضي ليصفه بالزمن الجميل هرباً من الواقع السيء الذي يحول بينه وبين آماله وطموحاته وأحلامه , في عملية نكوص لا شعورية للماضي تعوّضه عن احساسه بالفشل في الحاضر , وهذا يحدث عندما يواجه بعقبات في الحاضر لا يستطيع تجاوزها , ويصطدم بواقعٍ سيء تنهار أحلامه فيه , أو تُحطّم فيه آماله وطموحاته تحت أحذية النخبة نظام فاسد مستبد ونخبة تهيمن على الثروة والسلطة ، حينها يهرب هذا البائس من واقع قبيح لا يستطيع تجميله إلى الماضي أو المستقبل متوهماً بوجود الزمن الجميل الذي مضى ولن يعود , أو الزمن الجميل الذي سيأتي في يومٍ ما , ولو خبر الحياة على حقيقتها لبحث عن زمنه الجميل في نفسه وفي حاضره دون أن يبكي على زمن في الماضي قد انتهى ولن يعود , وينتظر زمن في المستقبل و في علم الغيب قد لا يأتي أبداً . |