وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

المشروع المفقود في مصر بعد جمال عبد الناصر

نشر بتاريخ: 05/10/2015 ( آخر تحديث: 05/10/2015 الساعة: 10:05 )
المشروع المفقود في مصر بعد جمال عبد الناصر
الكاتب: د. وليد القططي
في كل تجارب الشعوب التي نهضت من كبوتها واستيقظت من غفوتها , فبنت صراح مجدها وشيدّت أعمدة عزها , كان هناك شيءٌ ما يدفعها نحو العُلا ويسير بها على درجات التّرقي , هذا الشيء هو ( إرادة الحياة ) التي إذا ما امتلكها الشعب استجاب له القدر لا محالة , كما عبر عن ذلك الشاعر الثائر أبو القاسم الشابي التي أطلق عليها في موضع آخر ( عزم الحياة ) بقوله : " لا ينهض الشعبُ إلاّ حين يدفعه *** عزم الحياة إذا ما استيقظت فيه ". وإرادة الحياة أو عزم الحياة هي الروح التي تسري في جسد الشعب فتدب فيه الحياة , والماء الذي يجري في الأرض الميتة فتخلق منها الحياة , هذه الروح هي التي تزيح ركام الجهل والتخلف من على عيني الشعب فيرتد بصيراً مستبصراً لطريقة , وهي التي تنفض غبار الجمود والركود من على وجهه فيعود متفتّحاً مفعماً بالحيوية , والتي تزيل حُطام الفتن والصراعات من على صدره فيصبح آمناً موّحد الكلمة والصف , تلك الروح التي تكسر قيود الاستبداد وتفك أغلال الفساد فيرجع حراً مبدعاً للخير والانتاج .

هذه الروح لا بد لها من محرّك وملهم تتمثل في عقيدة دينية أو رسالة حضارية أو فكرة قومية أو هدف وطني ... فيصبح للشعب أو الأمة مشروعاً تحمله وهدفاً تسعى ألية وطريقاً تسير فيه , فيكون ذلك بمثابة الروح التي تسري في الجسد , فتشحذ الهمم , وتنير الوعي , وتقّوي الإيمان , وتلهب الحماسة , وتوّحد الصفوف , وتفجّر الطاقات ... فتنصهر الأمة في بوتقةٍ واحدة يعرف كل فرد فيها دوره وعمله في إطار هذا المشروع , ويدرك فيها كل إنسان واجباته فيؤديها دون تقصير , ويفهم حقوقه فيأخذها دون تجاوز , وتتقدم فيها المصلحة العامة فيما تتأخر المصالح الخاصة , وتبرز القيم الجماعية والغيرية والإيثارية بينما تخنس فيها القيم الفردية والأنانية والانتهازية .

هذا المشروع هو الشيء الذي فقده الشعب المصري بموت جمال عبد الناصر منذ خمس وأربعين سنة , فقد كان جمال عبد الناصر – رغم الطبيعة الاستبدادية لنظام حكمه – يمتلك فكرة قومية جامعة وهدفاً وطنياً محدداً في مشروع تحرري شامل بأبعاده الداخلية والخارجية , استطاع بشخصيته الكاريزمية أن ينقله للشعب المصري فوثق به وآمن بفكرته وتبنى هدفه وحمل مشروعه فأصبح مشروع الشعب بأسره , رغم فشل الكثير من مفردات هذا المشروع لعوامل داخلية كالاستبداد والفساد , ولعوامل خارجية كالمشاريع المضادة المعادية , إلا أن ذلك لم يؤثر على جوهر المشروع الذي حمله حتى وفاته , فخلف من بعده خلف أضاعوا مشروعه فوأدوا الروح التي لا ينهض أي شعب إلاّ بها , ولم يأتوا بأي مشروع على الإطلاق , وكان البديل هو غياب المشروع أو اللامشروع .

وتجسّدت مرحلة اللامشروع جلياً في عهد الرئيس حسني مبارك الذي تمّيز عصره بغياب أي هدف وطني كبير أو مشروع قومي جامع , ففقد الشعب المصري في عهده الروح التي تحركه وتستنهضه , ورافق ذلك ضعف الإحساس برسالة مصر الحضارية والدينية والقومية , وتراجع دورها العربي والإقليمي , وغموض هويتها الوطنية , وتحّولها من مجتمع منتج مؤثر فيمن حوله إلى مجتمع مستهلك متأثر بمن حوله , أضف إلى ذلك الخراب الذي انتجته سنوات الاستبداد والفساد الطويلة على كل مناحي الحياة , والتي كان أبطالها تحالف النخبة الحاكمة من السياسيين الفاسدين والاقتصاديين الجشعين والمثقفين الانتهازيين .

وأي مشروع للنهضة مجدداً يُراد أن يكتب له النجاح لا بد أن يأخذ بالحسبان أن يكون الشعب هو ذاته , فتنبثق فلسفة النهضة من عقيدة وثقافة وتاريخ الشعب , وأن تُعلى فيها قيمة الإنسان فلا تُهدر كرامته ولا تُصادر حريته , ولا تقيد قدراته , وأن توّحد صفوف الشعب وفئاته فلا تستثنى أو تقصى أي فئة منه , وأن تنطلق من رؤية تحررية تقدّس الاستقلال وتحتقر التبعية ... وأي نهضة تتجاهل ذلك سيتم دفع تكاليفها أضعاف مضاعفة من الجهد والمال والزمن .