وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

لوم الضحية

نشر بتاريخ: 28/10/2015 ( آخر تحديث: 28/10/2015 الساعة: 11:03 )
لوم الضحية
الكاتب: د. إبراهيم الشاعر
منذ البداية كانت أحد أهم دعائم المشروع الصهيوني شن حرب إعلامية دعائية تظهر "لا أخلاقية الفلسطيني"، وتجريده زوراً وخداعاً أمام العالم من إنسانيته وحضاريته، من خلال نشر الأكاذيب عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ويبدو مذهلاً حجم المنشورات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تركز على إظهار لا إنسانية الأب الفلسطيني أو الأم الفلسطينية بدعوى أنهم يكرهون أطفالهم الصغار الأبرياء ويرسلونهم إلى مواجهة الجيش الإسرائيلي ليموتوا، وليكونوا شهداء وينالوا الجنة والحور، وأن الفلسطينيين يتبنون ثقافة "الموت" ويفضلون الأرض والشجر على أطفالهم.

والحقيقة أن إسرائيل تاريخياً تتبنى إستراتيجية "كبش الفداء" أو "لوم الضحية"، حيث يتم توظيف آليات الإسقاط لصب مشاعر العداء أو الشك تجاه الضحية للتبرير والتغطية والتحايل على الانتهاك الحقيقي لحقوق الضحية وسرقة أرضها وهدم بيتها وقتل أطفالها واقتلاع أشجارها؛ وتحاول إسرائيل جاهدة تجنب اللوم العالمي عن واقع الاحتلال البغيض اللاإنساني، والتنصل من المسؤولية الأخلاقية عن مقتل الأطفال الفلسطينيين من خلال التلاعب إعلامياً وسياسياً ولغوياً وثقافياً بكل ما هو فلسطيني، بل تسعى إلى نقل مسؤولية قتل هؤلاء الأطفال الأبرياء من دائرة حقد جنودها وبطشهم إلى دائرة تخلي الأم عن فلذة كبدها وإرساله لمواجهة الجنود "الأبرياء"، وكأن الجندي مظلوم ومجبر على التعامل بالقتل مع طفل مدفوع من الأم إلى الميدان.

تسعى إسرائيل من خلال كل ذلك إلى طمس حقيقة أنها هي الاحتلال الظالم، وهي من يقوم باقتحام المدن والقرى الفلسطينية، وهي من يهدد حياة الأطفال الفلسطينيين ويسلبهم من براءتهم ومن أبسط حقوقهم في الحياة والتعليم والتنقل بحرية، حيث يعيش هؤلاء الأطفال واقعاً صعباً في كل لحظة، ويفتقرون إلى أبسط حقوقهم وحاجاتهم الإنسانية، ناهيك عن غياب الأفق والأمل، لذا ليس لديهم ما يخسرون؛ بينما تجد نظرائهم الإسرائيليين يعيشون في نعيم، ولديهم كل وسائل الترفيه والمتنزهات والملاعب والحدائق العامة.

لا يذهب الطفل الفلسطيني إلى المدن الإسرائيلية ليبحث عن مواجهة الجندي الإسرائيلي، بل إن الجندي الإسرائيلي هو من يأتي إلى الطفل ليستفزه ويقتله إما في بيته أو في مدرسته. وبالتالي فالأطفال الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى من يدفعهم للمواجهة أو إلى من يلقنهم ضرورة النضال من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن أبسط حقوقهم، فهم باستقلالية تامة، وببراءة طفولية، وبتلقائية إنسانية يتسابقون لمقاومة الظلم والقهر والاحتلال. وهذا الواقع المرير هو الدافع وليس توجيه الأهل أو حتى الفصائل كما تدعي إسرائيل. وكل الشرائع السماوية والكونية تبيح المقاومة ضد احتلال الأرض والأوطان وتحترم التضحية في سبيل ذلك؛ وشعبنا يمارس هذا الحق كسائر شعوب الأرض التي ضحت عبر التاريخ دفاعاً عن أرضها وأوطانها.

وللأسف فان إسرائيل خلال العقود الماضية نجحت في تضليل العالم الغربي، خصوصاً في ظل غياب ماكنة إعلامية فلسطينية قادرة على كشف الحقيقة ومواجهة الأكاذيب، وإسرائيل وأبواقها الإعلامية تستغل عدة جوانب بريئة من حياة الفلسطينيين لتلقي بالمسؤولية الأخلاقية عن جرائمها على كاهل الإنسان الفلسطيني.

فأحد هذه الجوانب يتعلق بأقوال أمهات الشهداء مثل: "إن فلسطين أغلى من أبنائي وكلهم فدى الوطن"، أو "إن فلسطين واحدة ، وأبنائي كثيرون"؛ يمكن لمن يفهم الواقع الثقافي والديني والوطني الفلسطيني أن يستوعب بسهولة دوافع أم الشهيد وطبيعة السياق الذي تتحدث فيه، فعندما تقول أم الشهيد هذا الكلام فهي لا تقصد التقليل من حبها لابنها الشهيد، لكن يتصيد الإسرائيليون كل كلمة أو عبارة تطلقها هذه الأم وهي تودع فلذة كبدها في موقف عاطفي مؤثر جداً، ليبنوا على ذلك قصة لا إنسانية لاستغلالها إعلامياً؛ علماً بأن أم الشهيد تحترق من الداخل وتعيش حسرة فراق الابن؛ والدليل على ذلك أنه بعد سؤال أم أحد الشهداء الأطفال بعد عام من تاريخ استشهاده عن مشاعرها، قالت: "بعد فراق ابني لم يعد للحياة طعم أو لون ... حتى أنني في كل يوم أذهب إلى غرفة ابني لترتيبها، صحيح أننا نحب فلسطين كوطن ... ولكننا نعيش الألم كل لحظة، ونشتاق إلى أطفالنا ولن ننساهم أبداً ... نحن نحبهم أكثر من أي شيء في هذا العالم."

لذا كيف يمكن تأويل أقوال مثل هذه الأم ووصفها أنها تكره ابنها؟ الفلسطيني كأي إنسان في العالم يحب أرضه وحقله، ولكنه بالمقابل يحب أطفاله، ولا شيء مادي في العالم يمكن أن يضاهي هذا الحب. وعندما تقول أم الشهيد هذا الكلام فهي تواسي نفسها وتعبر عن تحديها للمحتل القاتل الذي اختطف ابنها دون إرادتها، ظلماً وعدواناً.

أما الجانب الثاني فيتعلق بأقوال الفلاح أو المزارع الفلسطيني الذي يعشق الأرض والحقل والأشجار عندما يعبر مجازاً عن حبه للشجرة ليقارن ذلك الحب بحبه لأبنائه. صحيح أن الفلسطيني كأي إنسان آخر في العالم يحب وطنه ويفديه، كما أن الإنسان الفلسطيني يحب الأرض ويعشق الشجر ويحب الحياة، واعتاد تاريخياً على حفر الصخر ليزرع الشجر، وعلى ترويض المنحدرات الجبلية الصعبة من أجل زراعة الزيتون والعنب، ولنا في جبال فلسطين شواهد كثيرة، ولكن في المحصلة لا شيء أغلى من الأبناء.

أما الجانب الثالث فهو تحريف أقوال بعض القياديين والسياسيين والمثقفين الذين يذهبون أحياناً إلى وصف قطع الأشجار على أنه أخطر من جرائم قتل الأطفال، وفكرياً يمكن إستيعاب ذلك على اعتبار أن هؤلاء المثقفين يعبرون بشكل مجازي عن أهمية الأشجار وخطورة قطعها أو حرقها دون قصد التقليل من خطورة قتل الأطفال، لأنه في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأرض بما عليها من أشجار هي جوهر المشكلة، ومعضلة القضية الفلسطينية تكمن في إحلال شعب محل آخر وسرقة أرضه؛ وكل فلسطيني يدرك سعي إسرائيل الدائم إلى القضاء على الشعب الأصيل، صاحب الأرض، من خلال قتل الأطفال إن تعذر تهجيرهم بهدف تغيير المعادلة الديمغرافية.

ولهذا فإن المثقف الفلسطيني لا يقصد عقد مقارنة سطحية بين مدى خطورة هاتين الجريمتين - كما يسيء تفسيرها الإسرائيليون وغيرهم - ففي سياق الخطورة، كلاهما جريمة وخطر ولا يمكن لإنسان متحضر أو عاقل أو طبيعي أن يبرر هذه الأفعال أو يقدم عليها، ولكن مجرد عقد مثل هذه المقارنة يوحي للآخرين أن الشعب الفلسطيني يستهين بحياة أطفاله ويعطي قيمة للشجر أكثر من البشر والطفولة، وكأن قدر الفلسطيني أن يخير بين قتل أطفاله أو ضياع أرضه أو اقتلاع أشجاره.

ولطالما سئلنا كفلسطينين عن هذا الأمر، والواقع أن هذا الكلام يقال في سياق طبيعة الصراع ومطامع الاحتلال ووحشية مستوطنيه، وهو مجرد محاولة فكرية من بعض المثقفين لتفسير ماهية الأسباب الكامنة وراء إقدام محتل غاصب أو مستوطن حاقد على قتل الأطفال وحرقهم أو اقتلاع الأشجار وحرقها؛ بالإضافة إلى كشف مضاعفات هاتين الجريمتين، حيث يسهل ربط عمليات القتل بتنشئة هذا المستوطن العنصرية بأن الأطفال الفلسطينيين يشكلون خطراً ديمغرافياً أو وجودياً عليه، وقتلهم يساعد على تفريغ الأرض من أهلها لكي يسرقها، ولكن يصعب تفسير ظاهرة اقتلاع الأشجار وحرقها لأنها لا تشكل خطراً ديمغرافياً أو وجودياً على هذا المستوطن وعلى دولته، خصوصاً أن هذه الأشجار موجودة في الجبال والوديان بعيداً عن الطرق الرئيسة حتى لا يتذرع أحد أنها تقتلع للحفاظ على حياة البشر، فهي مصدر جمال وغذاء ونقاء وصحة له وللبشرية جمعاء. ومن هذا المنطلق فالقضية لا تتعلق بالمفاضلة بين خطورة الجريمتين أو بإعطاء أهمية للأشجار أكثر من الأطفال، وإنما بمدى صعوبة أو سهولة تفسير الدوافع الكامنة وراء كل جريمة.

وبالبعد المنطقي، يعلم كل إنسان أنه يمكن معالجة اقتلاع الأشجار من خلال إعادة زرعها، مع عدم إنكار أن قلع الأشجار المثمرة لمجرد العبث هو أمر خطير أيضاً وهو إفساد في الأرض؛ لكن لا يمكن إعادة الروح في الحياة الدنيا للإنسان إذا قتل، ومضاعفات القتل خطيرة على الكون وعلى البشرية جمعاء، وتمس جوهر الوجود الإنساني؛ وبالتالي فإنه إذا اضطر المرء إلى وضع هذين الأمرين في ميزان المقارنة، فبالتأكيد أن قتل الأطفال وحرقهم هو أكثر خطورة من قطع الأشجار واقتلاعها، على الرغم من الأهمية الرمزية لكثير منها في تاريخنا وثقافتنا وحياتنا.
والحقيقة أن الشعب فلسطيني بكل الأبعاد الإنسانية والثقافية والدينية يقدر قيمة النفس البشرية، ولو خُيَر أيّ فلسطيني بين قتل ابنه/ابنته أو قطع جميع أشجاره، فالخيار واضح، فهو لن يضحي بحياة فلذة كبده بأي ثمن.
وبالبعد الديني يمثّل الحفاظ على النفس البشرية قاسماً مشتركاً بين جميع الديانات، بدءاً بالديانات السماويّة المعروفة كالمسيحيّة والإسلام واليهوديّة، وحتى ديانات الحضارات القديمة مثل ديانة المصريين القدامى أو الأديان الهنديّة كالهندوسيّة والبوذيّة أو أديان الشرق الأقصى كالطاويّة والكونفوشيوسية في الصين والشنتوية في اليابان.

وفي الإسلام يُعَدُّ قتل النفس البشرية من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها، والقرآن الكريم يقول "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"(سورة المائدة أية 32)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"؛ بالطبع حياة الإنسان هي الأغلى وهو مستخلف في الأرض لعمارتها، وهو بالتالي من يزرع الشجر ويبني الحجر ويخلق الثقافة، وهذا الاستخلاف هو تشريف للإنسان وتكريم له.

وربما يجدر بنا اليوم أن نستبشر بأن ذخيرة الاسرائيليين من الخدع والقصص الملفقة قد نضّبت، بحكم أن رئيس وزرائها عاد الى هوامش كتب التاريخ، فخرج على العالم بقصة تبرئة هتلر من المحرقة وإلصاقها بالفلسطينيين، ولكن هذه المرة نالت كذبته سخرية المؤرخين وحتى الألمان أنفسهم، لترد عليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وتحسم الأمر بأن الألمان هم من يتحمل المسؤولية كاملة، وبهذا لم يعد مطلوباً من الفلسطينيين البحث عن مبررات كما هو الحال دائماً للدفاع عن أنفسهم وإثبات براءتهم من هذه الجريمة الملفقة.

ولكن بالمجمل يتعين على الفلسطينيين توخي الدقة والحذر عند التعامل مع الإعلاميين أو المسؤولين الغربيين لتجنب تحريف أقوالهم واستغلالها كوسيلة دعائية رخيصة ضدهم لتبرير قتل الأطفال، ولإقناع العالم، وخصوصاً الشعب الأمريكي الذي تمول ضرائبه سلاح القتل الإسرائيلي، بأن الفلسطينيين يكرهون أبنائهم، وبالتالي فإنهم ليسوا إنسانيين، وإذا كانوا كذلك، فلا بأس بقتلهم.