|
عندما غادر الفلسطينيين فينيقهم- ياسر عرفات ما زال يحلق في فضاء المكان
نشر بتاريخ: 10/11/2015 ( آخر تحديث: 10/11/2015 الساعة: 18:26 )
الكاتب: د. مجدي شقورة
لخريف باريس، حكاية سقوط الورق، حكايات من لغز عبور العمر ضفاف نهر السين، ولشتائها وخز الإبر حين يدغدغ المعطف الأسود بين زمن الخريف وإبان الشتاء تبدو الأماكن موحشة، هي وحشة التيه رغم ازدحام الشوارع، وشارة الضوء الحمراء يهش المطر بعصاته جموع المنتظرين إلى موقدة الدفء، حيث سيف البرد يقطع ضباب الأنفاس, أعرف يا أبي أن الطبيعة لا تساوم، لكننا نحن هنا كما رسمت أنت تاريخ المسيرة، نحن خراف الرب، وعصاك قبلة وجهنا، ومن عصاك كثر في المؤخرة وفي المقدمة، على الميمنة كان طابور جواسيس الانتظار، وعلى الميسرة ما تيسر من وفاء، ولأن الحواريين جنودك وجنود الله المجهولين وحدتنا الموقدة.
لتشرين في العام الرابع بعد الألفين تقطعت أنفاس الوقت في استثناء أدوات القياس, وبعكس صقيع العاصمة كانت أنفاس الغرف تحتبس السؤال، حين ناخ برج ايفل لتتربع على هودج السؤال، تدافعت رجالات العواصم وسرى العسس على أسرة المستشفيات، واشنطن ترقب ضيف ايفل, وموسكو ترسل آخر راقصات الباليه لساحة الباستيل، وتل أبيب توزع طرداً من النمل الأحمر ليحتل قوس النصر، وقاهرة العرب تشيع لاعب العرائس إلى ساحة الكونكورد، وحده نابليون بونابرت شق ابتسامته وقهقه ضاحكاً من سوء حظه العاثر أنني لم أحاصر ياسر عرفات في عكا. لشهر الصوم بدر قمر, غاب قمر رمضان هذا العام، لكنك سيدي الرئيس بدرنا، ولأنك الزاهد الناسك العابر لكل منافي الرب لم تلقي عباءة الكبرياء يوماً، حين قطع حطابو السياسة كل أغصانك في المقاطعة، وجففوا الوقت والماء وأرادوك طريدة يابسة، وسدوا هواء البحر، ورفعوا شارة الدعاء لك بالشفاء. لرام الله رب من حبر، ولباريس قلب من شيراك، لم يشركوا بك يوماً ككل الرجال المؤمنين, كسروا أغلال الحصار وشدوا لك ناقة صالح، فصارت لها أجنحة من وقت، وككل النوق غسلت وجه صباحك بحليبها، فيما تطل قبل الرحيل على قبة الوقت في أقصى القدس، دون أن تعطينا موعداً لساعة يوم القيامة، عرج قلبك يا سيدي الرئيس إلى أردن النهر، فقفزت خطى السيد المسيح تبارك غيابك في الشهر الرمضاء. أذكر وأنا الصبي المعلق بين نكبة وفجيعة، أنني كسرت صندوق الأسرار حين خاطبت بكل ما في القلب من وجع، رجل من رجالات فرنسا، متسائلاً إلى متى يمتد انتظار الموت، رمقني برجولته المعبأة بالوفاة، وهزني بعض من جوابه، حين بدد شكوكي الفائض من خوف الموت قائلاً: "نحن لا نسكب فخار إنسانيتنا على التفاصيل الصغيرة، وفرنسا لا تعرض تاريخها في المزاد"، تقطع خط الهاتف، ليبرد أذني الثالوث المقدس للثورة الفرنسية أخوة, مساواة, حرية. لكل العواصم ضواحي، وضاحية كلمار بغربي باريس علقت فنارها لتكن قبلة تشوح إليها دعوات الرجاء وصلوات الشفاء التى رفرفت على مستشفى بيرسي، حين حطت ناقة صالح بك يا أبي ولأننا تاريخ من خيام, خيمة اللاجئ, وخيمة الفدائي, صار لنا خيمة انتظار نتكدس حول سارية روحك التى حارت عليها علوم الأطباء، فكان التأويل والتعليل وصار المبشر والمفسر، شدتني يا أبي أرجوحة خالد بن الوليد على ضفاف العاصي، حين عصا موته على وثير الفراش, خانكما تابوت الموت في ساحات الوغى، وكأن الرب لم يشأ لكما موتاً معمداً بالدم، لكنه ساوى بينكما في غربة الروح. أطل عليّ العراف حين فسر لي غصن الزيتون والبندقية، وأخبرني سرك قائلاً: "أسرج لكم أبوكم قنديل زيت الزيتون، ليكن نوركم، وأودع على كتف صبي نار بندقية ليشعلها حين تناديكم حجارة أسوار القدس. انصرف العراف، وانصرف الوقت، وغابت شمس باريس الطويلة، لتجمعنا كسرات خبز إفطار رمضان, الصوم هنا له عجلات من عجين، ولهفة الانتظار لا تحرق وجه الرغيف، لكنه يا أبي له طعم المرار، حين كنا معلقين على مشانق الانتظار، صار الأطباء بلا أفئدة بيضاء منتظرة بشراهم، لكنهم كانوا في حداد الكلام. آه يا أسود حين ينطفئ قنديلك يا أبي ينزرع الخوف شوك, وشارع الشنزاليزيه يمد ذيله نتبعه إلى مقهى الانتظار, كان وتر العود يسبح في المجلس العربي حتى لا يداهمنا النادل بكأس من فراغ، صمت المكان يتدحرج المقام العراقي على أنين خد بغداد هنا، وأنت يا أبي تشم رائحتها، وتكره غياب صديقك الرئيس صدام حسين، لك من بغداد مقامات تهدهد نومك حتى لا يزعجك هدير الطائرات، وذكرى الحرب الجزائرية، وضجيج الانتخابات الأمريكية. الطبيب هنا جنرال، وأنت سيد الجنرالات، لم تنزع يوماً مسدسك من على خاصرة الوطن، لكن الجنرال هنا يا أبي كان ينتصر علينا برتابة الكلمات (الحالة مستقرة)، لكن الزمن يكره الرتابة، وأنا كافر بكل ما هو مستقر، لدغني عقرب الساعة حين كانت بتعداد أصابع كفي، ونصف قمر. هو الرابع من تشرين نوفمبر، حين رن الهاتف قاطعاً ما تصدح به كوكب الشرق، في الحي السادس عشر الباريسي، عبر صديقي الفرنسي عن ترددات قلبي, هو صديقك يا أبي, أتذكر حين حاصرتك دمشق في طرابلس الشام، حين جاءك في البحر ليحملوا سفنك من رحيل إلى رحيل، لتحط في قاهرة المعز، بعد أن أغلق قطاع الطريق نهر بردى, تعامدت كلمات صديقي كأنها صليب ياسوع المسيح ليوجز الموت قائلاً : "أؤكد لك أن ياسر عرفات توفي للتو". أغلقت الهاتف، وأنا أدرك أنني أغلق صفحة من صفحات التاريخ, صار للتاريخ موت، وأنا أغفل إن كان لي ولادة جديدة، وفي جدل الموت والحضور انكسر صندوق الذاكرة، تدحرج في قلبي حين التقيتك أول مرة يا أبي، يومها غرست في بعضاً من سرك, تذكرت أول هداياك لي، وأول هاتف جمعنا، وما تلاها من أسرارك وأسفاري، باغتنى صديقي خالد حين عاين وجهى الشارد في حضرة موتك قائلاً: "هل سقط برج ايفل؟ هل اختفت لوحة الموناليزا من متحف اللوفر؟ هل غير نهر السين مجراه؟"، أجبته بما تبقي لي من كلام لقد مات أبو عمار للتو. ألجمته عبارتي، سقط رأسه على كتفي، صعد صراخى درجات سلم روحي, صرخت ضد دموع صديقي "أبا عمار لا يموت, أنت موت وأنا بعكس الموت"، سقطت الموسيقى التي كانت تعبئ المكان، انسحبت خلف الستارة السوداء, استقام جميع من في المقهى في دهشة الحيرة, سقطت مني ابتسامة صغيرة على حافة فنجان القهوة، كنت قد خبأتها في آخر لقاء لنا يا أبي. ولأن الموت ينجب الذاكرة لتقوى على الحياة، ذاكرة عودة ياسر عرفات إلى الوطن، أذكر في مقطع من شريط الذاكرة، يوم كنت برفقة صديقتي الناشطة الفرنسية ماري بول, ونحن نسير بالقرب من مكتب الرئيس ياسر عرفات، إصرارها على لقاء الرئيس والسلام عليه, تعجبت من استعجالها لكن إرادتها كانت أقوى من تساؤلاتي، حين نجحت في لقاء الرئيس ياسر عرفات، حاولت الاستيضاح عن هذا السر، فأخبرتني أنها تعرف ياسر عرفات منذ زمن بيروت, صمتُ ثم اكتشفت هذه الحادثة، وكانت لي درساً تعلمته عن بعد (صافح كل من يخدم شعبه وقضيته)، هكذا كنت معلمنا يا أبي دون أن نجالسك أو تقص علينا المسيرة. قطع صديقي خالد الذكريات بصفعه سؤال مباغت: "أحقاً هو الموت، نعم لقد حضر الشيخ التميمي إلى فرنسا على عجل، كنت أظن أن تلاوة آيات الشفاء لن تعيق تحليق روحك إلى بارئها، ولأني من ذاكرة ورقية، رفرف أمام وجهي كفن، أدركت أن الماء محلى بالياسمين سيسكبه الشيخ على ما تبقى من جسد, لن يغالبه الشك، فكما أنت حقيقي، موتك صار حقيقة، صار جثمانك جناحي فرس ككل الأنبياء المهاجرين، ولأنك من ماء الفضة مرآتك وجهك, لم يغب في حضور الموت، ولكن كان هناك من يفتش عن ميراثك يا أبي، فتحوا رقعة الشطرنج، ورصوا البيادق، وسكنوا القلاع, سرّجوا الأحصنة، ملك ووزير, فتحت بطن اللعبة، صرخت الزوجة من يرثك يا أبي؟. هل أصبحت عقد لؤلؤٍ يعلقوك في رقابهم، ويوزعوا حباتك على المحظيين والمحظيات، صرخ قلبي على عجل، لا أنت وطن ونحن حبات مسبحتك التي أحصيت على ظهرها ساعات صبر النصر، لن يرثك يا أبي غير الأرض، أنت وديعة التاريخ، كشّ العراب بيدقاً على الرقعة السوداء ثم ابتسم، تعرى ظهر الملك, قفز الوزير الغفير يعقد الصفقة، فالمصعد الذي توقف في الدور السابع لينزل حقيبة النقود ويكمل الملك الجديد عرفانه للعراب. ولأنني يا أبي من وفاء، أذكر كيف انحنى الرئيس شيراك بقامته العظيمة معاتباً موتك بالقول: "رحلت ولم تفي مكرهاً بوعدك لي بالصلاة في القدس"، ولأن وعد الرجال تنوء به الاكتاف، سأحمل وعدك يا أبي، أيقونة في عنق الأجيال. كان لصديقك الرئيس شيراك صدقاً في حياتك وصديقاً، والآن يا أبي هو يودعك بكل هيبة تاريخ فرنسا وحب ياسر عرفات, هناك في مطار بورجيه العسكري في العاصمة الفرنسية مشهد مهيب، أكتاف الرجال ترفع قامتك الملفوفة بعلم فلسطين على وقع نشيد الحرية، ترفعه بكل خشوع إلى حيث الطائرة في انتظار زفة عرسك، وهل لنا من عريس أجمل منك حتى في حضرة الموت ورهبة الفراق، ودعتك فرنسا على إيقاع تاريخ حريتها، وفرشت لك السماء بالعاصفير المهاجرة لكى تكون ظلك، وأنت تقطع بطن البحر لتحط في قاهرة المعز نبياً، اصطفوا في وداعك الأخير في القاهرة، كانت لك دوماً حضنك الدافئ التي وإن أنزلت أشرعتها يبقى نيلها يسري وطميها ينتظر البذار، حطت ناقة صالح، آخر عشاقها أنت على صخرة الانتظار، هناك حيث القبر المؤقت والبحر المؤقت والصلاة المنتظرة، هبطت يا أبي، توضأت بماء عين الحلوة، وقبلت طفلة من اليرموك، وصافحت رفيقاً من الوحدات، واستعرت سجادة الصلاة من غزة, إنا أنتظرك لتعلن صلاة العيد في بيت هاشم. أبي .. لن تغيب * باحث في الشؤون الفلسطينية |