|
جسد ناتاشا الخائر
نشر بتاريخ: 21/11/2015 ( آخر تحديث: 21/11/2015 الساعة: 16:00 )
الكاتب: عطا الله شاهين
ما هي إلا لحظات حتى انطلقَ القطار صوب مدينةِ سان بطرسبرغ، فارتمتْ ناتاشا بجسدِها المُتعَبِ والخائر وكأنَّها تشيلُ على كتفيّها طوْداً، وظهرتْ شاردةَ الذّهن وهذا ما بدا على وجهها، وحرارة الشِّتاء تزيدها تشوّشاً، دلفتْ بينه وبين ذاتها إلى جمعِ ولو جزء مِنْ عتوّ الفراق، لكن ذلك زاد في أزمتها النفسية الحادة التي يتأجّج فيها، وفي لحظاتٍ بدت الشَّنطة التي تحملُها بيدِها اليسرى تُشكّلُ حِمْلاً على كتفِها رغم أهمية ما فيها.
أجالتْ ناتاشا بنظراتٍ سريعة في الكراسي المليئة وسط بحلقة المُسافرين بسكونٍ وطمأنينة في مقاعدِهم، وقدْ حدّقوها بدهشةٍ، فطافَ بخاطرها شعور بأنها دخلت في مكان خطلاً، وهي كائن لا تلزم في حيّزٍ ليس لها موطئ قدم فيه، فتلبستها حالة هائلة من اغتراب، وتمنّتْ لو يقف القطار فتنزلُ وإنْ واصلتْ المشي ثلاثة أيّام على قدميّها لتصلَ المنزل. بغتْ أنْ تصيحَ في النَّاظرين بذهولٍ إليها: أنا لم أفرّ مِنْ مطاردة، لكنني ألقيتُ بجسدِي الخائر في هذا القطار الذي لا حيّز لي فيه وقاية مِنْ شدّةِ البرْد. بعد ربع ساعة مِنْ انطلاقِ القطار ألقتْ ناتاشا بنفسِها ربع رمية على جزءٍ صغيرٍ مِنْ كرسيٍّ بحجمِ يدٍّ باعثةً حالة مِنَ الحرَجِ للمسافريْن الجالسيْن في مقعديّهما بهدوءٍ، ولما عرفتْ تسبّبها في اضطرابِ الرّجليْن اللذين امتعضا مِنْ سلوكها الطائش المستغل لفسحةٍ صغيرة مِنْ مقعديّهما الذي هو على هيئةِ كرسيٍّ واحدٍ محجوز، سددتْ إليهما نظرة توسلية كيْ يتركاها في هذه الزّاوية الدّاعمة لتعبِها الشّديد، موحية لهما بأنَّ ذلك بمثابةِ مساعدة لإخراجِها من حالةِ الإعياء المُدمّرة التي ركبتها ولا تجدُ تملّصا منها فأوحيا لها دون صوتٍ أنْ تظلَّ جالسة دون حراك ، عندئذ انطلقَ منها تنفُّسٌ عميق كأنها سحبت من أعماقها ناراً، وأخذت تستعيدُ شيئاً مِنْ هدوءِ أعصابها وجسدها معاً، وفي هذا الوقتِ الذي أحسّتْ فيه باستجابةٍ لهجودٍ استرخائيٍّ تناهى إلى مسمعِها صوت ابنتها: ماما، لا تنسي أن تجلبي لي مِنْ تلك القرية الفطر اللذيذ. مدت يدها إلى داخل الشَّنطة البيضاء وهي مغمضة العينين، تحسّستْ الفطر المستقر في ظلمة الشنطة، جرتْ في حناياها رعشة اطمئنان زادتها طمأنينة. وقبل أنْ تغطّيها الغفوة بسكينتها، تناهى إلى مسمعها صوت ابنتها الثانية: ماما لا تنسي أنْ تجلبي لي معك من القرية توت العلّيق. فعادت أناملها مرة أخرى تتحسَّس باطن الشنطة حتى استقرّت على توت العليق فازدادت طمأنينة والقطار يمضي تحت جسدها كمرجيحة. والراحة تنتشر في أنحاء أعضائها وروحها وكأنها لم تكن تلك ناتاشا الذي كادَ القلق أن يأكلها قبل مدة، عندئذ تناهى إلى مسمعها صوت ابنها: ماما وأنت ذاهب إلى القرية لا تنسي أن تجلبي لي معك صور المدينة البطلة. امتدت أصابعها مرة ثالثة بمزيدٍ من الطمأنينة إلى جوف الشنطة فلمستْ الصُّور وخرجتْ بالطمأنينة التي ولجتْ فيها. وفي هنيهات معدودة استسلمت ناتاشا لنومٍ مباغتٍ وكأنها في فراشِها، لمْ تكن تشعرُ بنومها المستكين لولا نداء قاطع التّذاكر السّمج الذي صحّاها لتسدّد ثمنَ التّذكرة ، ففتحت عينيها كمن سحبت سحباً من نوْمٍ عميق، ومدّتْ يدها إلى الشّنطة البيضاء لتدفع للجابي السّمج أُجرة السَّفر، وبغتة هبَّتْ منتصبة كالملدوغةِ وقدْ اكتشفتْ أنَّ الشَّنطة ليست على ركبتيها. صاحتْ بالمسافريْن وبجميع مَنْ في القطار فعادتْ الأنظار ترنو إليها كما كانت أوّل مرة، وتعالتْ صيحات لإنزالها من القطار، فهي منذُ ركوبها لم تكن عاديّة، عندها أدركتْ أنَّ السَّائقَ سينزلها بالقوة فيما لو تمادتْ في صياحِها. صاحت امرأة عجوز بأنَّها قدْ قامتْ بدفعِ أُجرتها على أنْ تصمتَ ولا تفسدُ على المُسافرين أُنْسهم في الرحلة، فعادت تجلسُ في كرسيها الذي لا يكادُ يتّسع لكتكوتٍ، مُسببة الحرَج للراكبيْن مرّة أخرى وهي تلغو في نفسها وتسعى لإقناع ذاتها بأنّها لمْ تكنْ تشيلُ شنطة لحظة صعودها وأنَّ ذلك كله كانتْ إلتماعةً في غفوة. |