|
جنازة قدم ....
نشر بتاريخ: 23/11/2015 ( آخر تحديث: 23/11/2015 الساعة: 11:16 )
الكاتب: عيسى قراقع
بتاريخ 6/11/2015 وفي مسقط رأسه في دورا قضاء الخليل، شيعت قدم الاسير جلال شراونة ملفوفة بالعلم الفلسطيني وبورق الزعتر والحناء، مغسولة بقبلات امه وحسراتها وزفراتها الساخنات، وهناك حيث كانت الخطوات والذكريات غرست القدم المبتورة، قطرات مطر هطلت، وبكت السماء.
اعتقل الاسير القاصر جلال شاهر شراونة يوم 10/10/2015 بعد ان اصيب برصاص دمدم متفجر في قدميه على يد جنود الاحتلال الاسرائيلي، تهتكت الشرايين وسال الدم كثيرا، وعندما تأخر موته في الشارع، حملوه خفيفا الى المشفى، معلقا على جسر دمه كالطيف في تابوت. في منتصف الليل ، بترت القدم اليمنى للاسير جلال شراونة في مستشفى آساف هروفيه الاسرائيلي، نزيف حاد، وجع بلا شهود ، ليل يصرخ، قناصة في زي اطباء، واطباء في زي قناصة، دم وصمت، يفقد الوعي ، اغمي على الليل في بياض الكلمات. القدم اليسرى تطلب من القدم اليمنى الاستعداد للركض سريعا، قبل ان تغلق ابواب السجن، وقبل ان تقتحم قوات (النحشون) غرف وأقسام السجن قمعا وتفتيشا وتخريبا، فهناك بر، وهناك سهل، وهناك شمس تنتظر الاحياء. القدم اليمنى صامتة في تلك الثكنات، فراغ في الكلام وفي الحوار وفي الجسد ، رائحة عزاء ولا مشيعين ولا وداع، جزوها من الركبة، غادرت قبل طلوع الفجر في إحدى الجنازات. الاسير جلال شراونة كان هدفا للقتل العمد، فالقرار الاسرائيلي هو القتل بدل الاعتقال، وقد سقط الشهداء بدم بارد، سفكت دماؤهم واعدموا علنا وعلى الشبهة كما يدعي قادة تل ابيب ، فإما ان تموت كاملا، وإما ان تعيش ناقصا معاقا بلا قدمين او يدين، بلا وشم او نبض او التفات على الجانبين. نحن الفلسطينون الوحيدون الذين نشيع اعضاء اجسادنا، روح حية تسير في جنازة روح ميتة، كل المفارقات والمترادفات تجتمع هنا، الاحياء والاموات، العائدون والغائبون، يمتزج الليل بالنهار والفرح بالفجيعة، نمشي ولو خذلتنا الدروب، تتدلى ارواحنا من اعناق النجوم في اشارات ترشدنا الى الارض، بيتنا المقدس. لقد شيعنا قدم الاسير ناهض الاقرع قبل عامين، تركناه هناك في السجن بلا قدمين، وشيعنا قدم الطفل الاسير عيسى المعطي هذا العام، كأننا نبذر الارض اقداما ورايات وساريات، ولهذا فإن للشجر في فلسطين دمعا، ولهذا فإن الفلسطينيين يرددون دائما اسماء المواليد على ابواب المقابر. ربما تنشأ الآن قدم ثالثة، هي معجزتنا غدا، يولد النور من الظلام، والواقع من الحلم، في جسد يكتمل ويعبر سياج الامس، تولد اعضاؤه في اجفان الغيب. فوق التراب الاحمر، وتحته دفنت قدم الاسير جلال شراونة، حملها والده في حضنه كطفل صغير، وكانت جنازة قدم توجع كل اقدام الناس في العالم، وكانت رؤيا فلسطينية خاصة تقول بأن اقدامنا تنمو في ترابنا الاحمر، تورق وتزهر وتكبر، لا تجف ولا تموت. السجان الذي يقوم بالعدد المسائي في السجن اصابه الارتباك و الخوف، رأى جسدا يتكامل مع آلاف الاجساد، غضب فوق الابراش، اياد تتحرك في حلقات قيودها، اقدام كثيرة تنهض وترمي عكازاتها وعجلاتها المتحركة، اسلاك تتدلى من البطون ومن الاوردة، يدورون حول الشمس. معاقون ومشلولون ومصابون ومرضى، احياء في نعوشهم المؤقتة يقبعون في مستشفى الرملة الاسرائيلي، يمدون اطرافهم المبتورة نحو الفجر، يفتحون الابواب الموصدة، ويعرجون على ساحات القدس، يؤدون الصلاة واقفين واقفين. بعد بتر قدمه استدعي الاسير شراونة الى التحقيق، تعرض للضغط النفسي والتهديد والوعيد، وقام المحققون الاسرائيليون بعرض شريط مصور لجنازة قدمه من اجل دفعه الى الانهيار والاعتراف، بكى الاسير، ودع قدمه، وحرك كرسيه المتحرك كنهر جارف الى أقرب نافذة. في يوم الطفل العالمي، نحمل اطرافنا المبتورة والمقطوعة، نفتح جروحنا المديدة منذ النكبة حتى الاعدامات الميدانية على الحواجز وفي الشوارع والصلاة، نطل على آلاف الاطفال الذين اعتقلوا وعذبوا وسلبت طفولتهم في عتصيون وعسقلان وبيتيح تكفا وحوارة والمسكوبية، نقرأ نشيد الطفولة العالمي في اروقة الامم المتحدة، النص مبتور، نقرأ اذا ما تبقى لنا وللأمم الاخرى من وقت. اخي جلال شراونة، ستمكث قدمك في الارض، تنعفها الريح طلعا في حقول عباد الشمس ، روحك الآن تسكن ريحا، لن ينهض فيك الكسيح، سينهض فيك البحر عاصفة. سمعتك تقول: أمدّ لكم يدي فجأة تشع حرارة منعشة هي ذي اطرافي تتكامل في جبال الخليل فجأة... يبصر بي جسدي |