|
مدينة الأشباح
نشر بتاريخ: 29/11/2015 ( آخر تحديث: 29/11/2015 الساعة: 11:19 )
الكاتب: رامي مهداوي
"مدينة الأشباح" هو المصطلح الذي تعارف عليه المقدسيون لوصف مدينتهم لحظة حلول المساء، وهو مصطلح وإن حمل في طياته صبغة السخرية إلاّ انه لم يطلق جزافاً؛ فشارع مثل شارع صلاح الدين الذي يعتبر الشريان التجاري الحيوي والرئيسي للقدس الشرقية يغلق ابوابه قبل الساعة السابعة مساءً على اكثر تقدير. وتخلو الشوارع من المارة بسرعة.. ومثله يفعل وان لم يكن قبل ذلك الوقت شارع الزهراء الملاصق حيث تنتشر المحلات التجارية ومكاتب السياحة والمكاتب المهنية الأخرى.
المدينة تغلق ابوابها باكرا فالحركة التجارية ضعيفة ولا خير يرجى ان بقيت المحال مفتوحة؛ يضاف إلى ذلك قلة الأماكن مثل المطاعم والمقاهي او حتى المراكز الثقافية.. الترفيهية التي يمكن لسكان القدس ان يرتادوها في الشطر الشرقي من المدينة. ولعل القرار الذي صدر مؤخراً بالحجز الكامل وإغلاق المسرح الوطني الفلسطيني أحد اهم الرموز الثقافية في المدينة على مدى أعوام وأجيال، لخير دليل على ملاحقة سلطات الإحتلال لكل محاولات احياء المدينة. ولطالما تعرض المسرح الوطني للإغلاق بسبب الفعاليات الثقافية الوطنية التي كانت تعقد فيه وذلك ايضا كجزء من سياسة الاحتلال في محاربة الثقافة والصبغة الفلسطينية الوطنية في المدينة. وحتى المجموعات السياحية تقتصر جولاتها في المدينة خلال فترة النهار فلا شيء يغريها في مدينة تغلق أبوابها وتندر فيها أماكن الجذب السياحي الاعتيادية من مطاعم او مسارح او دور سينما او حتى اماكن تقدم عروضا تراثية ثقافية اصيلة. لم يتطور هذا الوضع بين ليلة وضحاها ولم يأت من فراغ بل جاء نتاجا لسياسات اسرائيلية ممنهجة على كافة الأصعدة وفي كل القطاعات لتخنق القدس الشرقية وتلحقها باقتصادها على مستوى كافة الخدمات الأساسية. فالاحتلال عزل المدينة عن محيطها الطبيعي في الضفة الغربية بالحواجز والجدار ومنع المواطنين الفلسطينيين من دخولها إلا بتصاريح تمنح بأعداد محددة وحرم المدينة من مكانتها المركزية على مستوى الخدمات الصحية ولتجارية والدينية والثقافية. ولكن ذلك لم يكن كافيا فقد استهدف الاحتلال كذلك احد اهم القطاعات الحيوية في المدينة وهو قطاع السياحة حيث حرمت سياسات الترخيص والبناء التعجيزية التي تفرضها اسرائيل الفنادق من إجراء اي اعمال ترميم وتحسين في مرافقها ناهيك عن التفكير بافتتاح فنادق جديدة وسط محاربة شرسة من قبل وكالات السياحة الإسرائيلية واستحواذها على الحصة الأكبر من السياحة الوافدة مع كل التسهيلات القائمة لها من حيث الفنادق الحديثة وحافلات النقل السياحي الجديدة بالإضافة إلى مراكز الترفيه والتسوق الكثيرة التي تتوفر في الشطر الغربي بحيث تراجعت إلى حد كبير نسب إشغال الفنادق في القدس الشرقية. وتلاحق السياسات الإسرائيلية كل الأعمال والخدمات المرتبطة مباشرة او بشكل غير مباشر بالسياحة من صعوبة منح التراخيص للأدلاء السياحيين الفلسطينيين وفرض الضرائب على تجار التحف والبضائع السياحية. وإن أضفنا على ذلك عدم توفر قروض ميسرة لتطوير الأعمال والمرافق التجارية او حتى السياحية ووطأة الشروط والضرائب الباهظة التي تفرضها اسرائيل فإن اي استثمار تجاري في المدينة يصبح مغامرة محفوفة بالمخاطر بشكل ادى إلى نزوح رأس المال والاستثمارات عن المدينة. كما ويعاني التجار في القدس الشرقية من المنافسة الشديدة التي تفرضها مراكز التسوق (المولات) الإسرائيلية التي تقوم باتباع سياسات تسويق شرسة تشتمل على تخفيض الأسعار بشكل كبير وتحديدا حول مواسم الأعياد والمناسبات التي تنشط بالعادة الحركة التجارية، بحيث لا يستطيع التجار الفلسطينيون منافسة البضائع الإسرائيلية او ينتهي بهم المطاف بتسويق بضائع تقل في جودتها عن ما هو متوفر وبأسعار غير تنافسية مقارنة بالمحال الإسرائيلية. كل هذه العوامل تؤدي بالضرورة إلى عزوف اهل المدينة عن قضاء اوقاتهم في المدينة وتحديدا فترة المساء فإما يذهبون للجانب الإسرائيلي او يتوجهون إلى رام الله. كما وان التجول في المدينة لا يخلو من مخاطر التعرض لعنف تمارسه اجهزة الأمن الإسرائيلية او المستوطنين بحيث أضحت المدينة غير آمنة وتحديدا في السنة الأخيرة حيث ظهر تزايد ملحوظ في اعتداءات المستوطنين على المقدسيين. وهناك كذلك صعوبات في ايجاد اماكن لركن السيارات في القدس الشرقية، وتلاحق أجهزة البلدية السائقين بشكل مكثف وتصدر مخالفات على ركن السيارات في اماكن غير المخصصة لذلك دون توفير اي حلول لهذه المشكلة. وبالرغم من الضرائب الكثيرة التي يدفعها المقدسيون والتي تصل حسب بعض التقديرات إلى حوالي 20% او اكثر من موازنة بلدية الاحتلال إلا ان المقدسيين لا يحصلون بالمقابل إلا على 8% من الموازنة على شكل خدمات. كل هذه الممارسات والسياسة بالإضافة إلى التغيير المستمر في ملامح المدينة ومشهدها الطبيعي بشكل متعمد لصالح ربط المستوطنات المحيطة بالمدينة بالشطر الغربي منها دون المرور من الأحياء الفلسطينية وبمحاولة مقصودة برأيي لقطع الرابط بين الفلسطيني والمدينة من حيث ذاكرة المكان وعلاقته به، أدت لتفريغ المدينة وتحويلها لمدينة اشباح خاصة عند حلول المساء. |