|
يا سيادة اللواء..يا أبا حسين.. لماذا كل هذا التحامل على الإخوان؟!
نشر بتاريخ: 21/12/2015 ( آخر تحديث: 21/12/2015 الساعة: 15:02 )
الكاتب: د.احمد يوسف
بداية، دعني أعبر عن سعادتي بهذا الحوار؛ لأنه يفتح باباً لمراجعة أمينة ومهمة من صفحات تاريخنا، فما أشبه الليلة بالبارحة. وجميل أن يشاركنا فيه آخرون لتوسعته وإثرائه، ولعله ينتهي بنا لوضع رؤية استراتيجية نتوافق عليها، ونتجاوز بها ما ألمَّ بقضيتنا وشعبا من فرقة وانقسام، هي اليوم أشبه بالكارثة والمحنة الوطنية.
صديقي اللواء توفيق الطيراوي (أبو حسين).. لم تعجبني تلك العبارة التي كانت عنواناً لمقالك السابق، والتي وردت على النحو التالي: "في الإخوان، شهادَتُكَ مذبوحةٌ، وليست مجروحةً فحسب"، فهذه مسألة إذا أسقطناها على مسطرة ما يسمى بعلم الجرح والتعديل، فإنها تدخل على خط الدِّين والأمانة، والعقل والمروءة، وأنا لا أعتقد أن ذلك هو ما تقصده.. فأنا عندما تحدثتُ عن انتمائي ومسيرتي الحركيَّة والنضاليَّة للإخوان، فإنما كنت أتناول تاريخاً عشت أيامه ولياليه، وتقلبت مع نبضاته لأكثر من أربعين سنة، ولم تكن أنت - يا سيادة اللواء – جزءاً من مطوياته، فكيف لك أن تنكره أو تشكك فيه؟! إن هناك ما يمكن أن يجمعنا في القراءة والتحليل لتلك الحقبة التاريخية، والخروج بمقاربات واستشرافات تكون فيها مساحات الخلاف بيننا غير متباعدة، ألا وهي صفحات الكتب ومدونات ذلك الزمان ووثائقه، وهذه متاحة لي ولك، والحجة فيها لمن يقدم في بحثه المزيد من الأدلة والبراهين، أما الحاضر فكلانا عايشه واكتوى بأحداثه.. لقد عايشت منذ مولدي ستة حروب؛ كابدت لأواء أولاها منذ كنت طفلاً صغيراً في السادسة من عمري عام 1956م، وهي الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة وسيناء أو ما يسمى بالعدوان الثلاثي، والذي تعرضت فيه جمهورية مصر العربية لهجمة استعمارية شاركت فيها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والثانية كانت نكسة 1967م، وعشت ويلات إذلالها شاباً يافعاً، ثم شاهدت حرب 6 أكتوبر/ العاشر من رمضان، وكنت قبل يوم من اندلاعها في منطقة القنال متجهاً للعاصمة المصرية، حيث تابعت وقائعها من هناك، ثم كانت الحروب العدوانية الثلاث على قطاع غزة، والتي نجونا منها بمعجزة القدر (لكلِّ أجل كتاب). أما ما ذكرته يا سيادة اللواء بأن "جماعة الإخوان لم تفكر في موضوع الجهاد في فلسطين، إلا في ربيع العام 1948م"، فهذا كلامٌ فيه الكثير من التجني والتجاهل الذي لا يليق بمثقف ومسئول أمني كبير مثلك، ولا يستقيم حقيقةً مع كل ما جاء في الأدبيات الفكرية والسياسية التي صدرت بلغات مختلفة، وتناولت تلك الحقبة من تاريخ قضيتنا، حيث كان الإخوان المسلمون أولَ هيئة تبنَّت قضية فلسطين ودعت لنصرتها، وتحركت من أجلها؛ إعلاميًّا وسياسيًّا وجهاديًّا، فبمجرد تأسيس الجماعة عام 1928م، بادر الإمام حسن البنَّا (رحمه الله) بإرسال رسالةٍ إلى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، كانت تعبيراً عن اهتمامه المبكِّر بقضية فلسطين، وقد عبَّر الإمام البنَّا عن ذلك بقوله: "فلسطين تحتل من نفوسنا موضعاً روحيَّاً وقدسيَّاً فوق المعنى الوطني المجرد؛ إذ تهب علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفى كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذى الأرواح". ويكفي هنا - يا سيادة اللواء - الإشارة إلى (الموسوعة الفلسطينية)، وهي حجة علينا جميعاً بما أوردته في صفحاتها بما يتعلق بجهاد الإخوان المسلمين في فلسطين، والتي جاء فيها: "بدأ اهتمام الإخوان المسلمين في مصر بفلسطين مبكراً في أوائل الثلاثينات، غير أنه برز في أثناء الثورة الكبرى (1936 – 1939م)، عبر الدعاية والإعلام والمظاهرات وجمع التبرعات. وكان أول اتصال لنشر الدعوة في فلسطين في أغسطس 1935م، عندما زارها الأخوان عبد الرحمن الساعاتي ومحمد أسعد الحكيم، ولقيا ترحيباً من الحاج أمين الحسيني، حيث قاما بنشر الدعوة. وتكررت بعدهما الزيارات، وكان من بين الدعاة الزوار سعيد رمضان وعبد المعز عبد الستار. وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) زادت الزيارات، وأخذ عدد من أبناء فلسطين ينضمون للإخوان، ومن ضمنهم الطلبة الذين درسوا في مصر. وقد نشط الإخوان المسلمون في فلسطين عامي 1946م و1947م في مجالات الدعوة والتربية الإسلامية، والتعريف بالخطر الصهيوني والمؤامرة على فلسطين، والتعبئة للجهاد، وأنشأوا فرقاً للكشافة والجوالة، كما نشطوا في افتتاح المكتبات والأندية وإلقاء المحاضرات. وبعد حرب 1947 – 1948م، ازداد انتشار الإخوان في قطاع غزة، وصار لهم أربع شُعب هناك. والإخوان المسلمون – هكذا تربينا - يعتبرون تحرير كل فلسطين من أهم واجباتهم المقدسة. وقد زاد اهتمامهم بقضية فلسطين مع انفجار الثورة الكبرى (1936 – 1939م)، حيث نشطوا في الدعاية الإعلامية للقضية في مصر، وقاموا بتشكيل لجنة مركزية لمساعدة الثورة، ووزعوا الكتب والمنشورات التي تهاجم سياسة البريطانيين في فلسطين. وقاموا بجمع السلاح من المدن والأرياف المصرية، وأخذوا يمدون المجاهدين بما يقع في أيديهم من مال وسلاح. ونجح عدد من شباب الإخوان في التسلل إلى فلسطين والاشتراك مع الثوار في جهادهم، وخاصة في مناطق الشمال حيث عملوا مع جماعة الشيخ عز الدين القسام. وعندما انعقد المؤتمر العربي في بلودان في 10 سبتمبر 1937م لنصرة قضية فلسطين، أبرق حسن البنّا باسم الإخوان المسلمين في مصر إلى المؤتمر برقية أعلن فيها استعداد جماعة الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين بدمائهم وأموالهم. إن اهتمام الإخوان المسلمين بتحرير فلسطين – يا سيادة اللواء - كان اهتماماً صادقاً، ومرتكزاً على الإيمان الديني العميق. وقد جاء مقاتلوهم إلى فلسطين من عدة أقطار عربية، وخاصة من مصر وليبيا وتونس وسورية والأردن إلى جانب من كان منهم في فلسطين. وكان للإخوان في مصر الدور الأكثر قوة من بين إخوان الدول العربية المشاركين في حرب فلسطين عام 1947م، فقد انطلقوا في أرجاء القطر المصري داعين للجهاد في سبيل الله لإنقاذ الأرض المباركة. وقاموا بجمع التبرعات، وأخذوا يجوبون صحراء مصر الغربية لتوفير السلاح من بقايا الحرب العالمية الثانية. وفي 9 أكتوبر 1947م، أبرق الشيخ حسن البنّا إلى مجلس الجامعة العربية يقول: إنه على استعداد لأن يبعث كدفعة أولى عشرة آلاف مجاهد من الإخوان المسلمين إلى فلسطين. وتقدم فوراً إلى حكومة النقراشي طالباً السماح لفوج من المجاهدين باجتياز الحدود ولكنها رفضت. فاضطر الإخوان للتحايل، واستأذنوا بعمل رحلة علمية إلى سيناء فأذنت لهم الحكومة بعد إلحاح شديد، ومن هناك انطلقوا إلى فلسطين وأخذوا يقومون بالعمليات الجهادية في صحراء النقب، وانضم إليهم الكثير من المجاهدين من عرب فلسطين. فطلبت الحكومة المصرية من الإمام البنَّا سحب قواته من النقب فرفض، فراقبت الحدود وقطعت عنهم الإمدادات والتموين إلا أنهم وجدوا من عرب فلسطين كل مساعدة ومعونة. ولما اشتد الضغط على الحكومة المصرية، سمحت للمتطوعين بالمشاركة في القتال تحت راية الجامعة العربية، حيث تدربوا في معسكر “هاكستب”، وكان يشرف على حركة التطوع الصاغ محمود لبيب؛ وكيل الإخوان للشؤون العسكرية. وتألفت ثلاث كتائب يقدّر عددها بـ (600) مقاتل، وكان أبرز قادة هذه الكتائب أحمد عبد العزيز، الذي عُيّن قائداً عاماً لقوات المتطوعين، وعبد الجواد طبالة، والشيخ محمد فرغلي، ومحمود عبده، ثم تبعهم زكي الورداني وقادة آخرون. وقام الإخوان بدور مشرّف في القتال سجله لهم كل من كتب عن هذه الحرب، وكان لهم دور مشهود في مناطق غزة ورفح وخان يونس وبئر السبع، والقدس وبيت لحم وصور باهر والخليل. وقد استشهد منهم في المعارك حوالي مائة وجرح نحو ذلك. وقد أزعجت بطولاتهم جميع الأعداء، فحاكوا المؤامرات لإبعادهم عن ساحة القتال. وفي الوقت الذي كانوا فيه ينجدون القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة، ويتولون حماية جبهة طويلة تمتد من القدس إلى العريش، وصلهم نبأ استشهاد مرشدهم الشيخ حسن البنّا، والذي تبعه قيام الجيش بتجريدهم من أسلحتهم ونقلهم من أرض المعركة إلى المعتقلات في القاهرة. ومن سورية تطوّع حوالي ثلاثمائة من الإخوان مع جيش الإنقاذ في شمال فلسطين، ودخلت كتيبة بقيادة مصطفى السباعي إلى القدس ورابطت في أحيائها، واشتركت في معارك الحي القديم وباب الخليل وفي معركة القسطل. ومن الأردن دخلت سرية بقيادة الحاج عبد اللطيف أبو قورة، وتمركزت في عين كارم وصور باهر، واشتركت مع الإخوان المصريين والسوريين في عدد من المعارك. وفي العراق، قام الإخوان بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف بتكوين “جمعية إنقاذ فلسطين” حيث أرسلت ثلاثة أفواج قاتلوا مع قوات جيش الإنقاذ في شمال فلسطين. كما وصلت إلى فلسطين مجموعات من إخوان ليبيا وتونس ومراكش واليمن والسودان وجاهدوا مع الإخوان المصريين. ويمكن الرجوع أيضاً إلى ما ذكره ريتشارد ميتشل في كتابه "جماعة الإخوان المسلمون"، والذي نشره باللغة الانجليزية في عام 1969م، وذلك في الفصل الخاص بفلسطين. وتكفينا هنا شهادتان غير مجروحتين في تلك الكتائب المقاتلة للإخوان المسلمين، واحدة للواء أحمد المواوي؛ أول قائد عام لحملة فلسطين، والذي قال: "إن الإخوان سبقوا الجيوش النظامية، وأن القوات المسلحة كانت تعتمد على الإخوان كقوة حقيقية، وأن روحهم المعنوية كانت عالية". والثانية هي للشيخ محمد أمين الحسيني؛ مفتي فلسطين، والذي أشاد بما قاموا به من جهود، قائلاً: "إن الإخوان كانت بداية مشاركتهم في حرب فلسطين منذ عام 1936م؛ حيث إنهم جمعوا السلاح والذخيرة، كما أن لهم دورًا كبيرًا في حرب 1984م". أما الكولونيل اليهودي ناتنيال لورك فقد جاء في كتابه (حدُّ السيف): "إن أول مشاركة مصرية في حرب فلسطين قام بها الإخوان المسلمون، الذين يعتبرون الاستعمار والصهيونية ألدَّ أعداء الإسلام، وكان محاربو الإخوان المسلمين يمتازون بروح قتالية متعصبة، وكانوا على استعداد واضح للتضحية بالحياة"، وقديماً قالوا: "الخير ما شهدت به الأعداء".. أعتقد يا سيادة اللواء أن هذه الصفحات لا يمكن المغالطة فيها، وليس من الأمانة العلمية غمط الإخوان هذه الصفحات الناصعة من تاريخهم.، فهذه التاريخ الجهادي يُحسب لمصر وعلاقاتنا الأخوية معها في المقام الأول، ثم للإخوان كحركة تنتسب إلى هذا القطر الشقيق. أما فيما ذكرته من قول له علاقة بالجهاز الخاص، وما وقع من بعض حوادث القتل خارج سياق الرؤية العامة للإخوان، وانتهيت إلى استنتاج مفاده أن "تاريخ العنف الإرهابي طويل، بينما تاريخ الجهاد قصير ومتأخر"!! أعتقد أن ما أوردنا من صفحات ناصعة لجهاد الإخوان في فلسطين، مقارنة ببعض الحوادث الفردية التي جرت لاحقاً في مصر، وكان دافعها الانتقام والثأر من بعض الخصوم السياسيين أو المرتبطين بالقصر أو بما كانت عليه الأوضاع السياسية المضطربة آنذاك في مصر، لا يشي بما خرجت به – يا سيادة اللواء - من استنتاج، حيث إن الإمام البنَّا (رحمه الله) قد اعتذر عن تلك التجاوزات الطائشة، واتهم من قاموا بذلك في دينهم قائلاً: "إنهم لسوا إخواناً وليسوا بمسلمين"، ولعلي هنا أستعين بشهادة للإعلامي صلاح عيسى، وهو محسوب على الفكر اليساري، وقد كتب في صحيفة (الشرق) القطرية عام 1999م مقالاً تحت عنوان: "حسن البنَّا.. لا عنف ولا تزمت"، قال فيه: "ومن الإنصاف للرجل، أن نقول بأن عمليات العنف التي قام بها الجهاز الخاص ضد مصريين في حياته لا تتجاوز ثلاثة، هي قتل القاضي الخزندار، بسبب أحكام قاسية أصدرها بحق بعض الذين قاموا بأعمال عنف ضد قوات الاحتلال البريطاني، من أعضاء الجهاز الخاص ومن غيرهم، واغتيال رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي، رداً على قراره بحل جماعة الإخوان ومصادرة ممتلكاتها واعتقال قادتها، وأخيراً نسف محكمة الاستئناف، لإحراق الأوراق السرية للجهاز الخاص، التي كانت قد ضبطت في سيارة جيب لتدمير أدلة الاتهام ضد قياداته، وتأمين من لم يقع في أيدي الشرطة من أعضائه. لم يكن الإمام البنَّا طرفاً في هذه العمليات الثلاث، فقد نُفذت أولاها دون علمه، وغضب غضباً شديداً لوقوعها ونفذت الثانية والثالثة بعد حل الجماعة وتفكك روابطها التنظيمية بسبب اعتقال قادتها ومطاردة الآخرين... بل إنه اعتبر أن الرصاصات التي وجهت إلى النقراشي قد أصابته هو نفسه". الصديق العزيز لواء توفيق الطيراوي.. إعلم؛ بأن العنف والإرهاب لم يكن يوماً توجهاً أو منهجية في الفكر الإخواني، ولكن هناك بلا شكَّ من خرجوا من تحت عباءة الإخوان المسلمين؛ كجماعة التكفير والهجرة، وبعض الجماعات الجهادية مثلاً، وارتكبوا أعمالاً في هذا السياق، وإن محاولة تحميل الإخوان تنكبّات الطريق الذي سلكوه، أشبه بتحميل أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزر الخوارج الذين كانوا جنوداً في جيشه، ثم انشقوا عنه وخرجوا عليه، ورموه بالكفر، ثم تآمروا عليه وقتلوه غيلة. فهل يقبل عاقلٌ هذا المنطق الأعوج؟ أن تقوم جهة حكومية أو جهات إعلامية بتحميل الإخوان تبعة من خرج عنهم، وتمرد عليهم، وناصبهم الحرب والعداء؟!! مالكم كيف تحكمون!! إن نظرة الإخوان المسلمين ومنهاجيتهم في العمل كانت تُجليها – دائماً- روح تلك العبارة التي رددها د. محمد بديع؛ المرشد الحالي للإخوان، بقوله: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وإلا لكانت مصر – يا سيادة اللواء - تفجرت بالعنف منذ زمن طويل. وفي سياق مقالك السابق، ذكرت - يا سيادة اللواء - بأن هناك علاقة للإخوان مع السفارتين الأمريكية والبريطانية، وذلك من باب الغمز والتلميح بأن هناك مستوى من "الارتباط والتوظيف"، الذي تثار حوله علامات الاستفهام، وذلك بهدف النيل من طهارة الإخوان ونبل أهدافهم، وأنا أحيلك لكتاب صدر قبل عامين للمؤرخ البريطاني مارك كيرتز، بعنوان: "شئون سرية: المواجهة البريطانية مع الإسلام المتطرف"، وهو باللغة الانجليزية، ويتناول في صفحاته علاقات بريطانيا بالإخوان المسلمين في الأربعينيات والخمسينيات، وهي الفترة التي كانت فيها مصر خاضعة للوصاية والاحتلال. ومن الطبيعي، أن يكون لكل من أمريكا وبريطانيا أوراق تلعبها هناك، وذلك بالانفتاح على كل التيارات والأحزاب، ومحاولة التلاعب بها بما يخدم مصالحها الاستعمارية، انطلاقاً من سياسة "فرق تسد"، فاللقاء بالسفير الأمريكي أو البريطاني أو زيارة السفارة لا يجعل منك عميلاً أو متعاوناً، وإلا لقلنا إن هذه العلاقات التي تجريها التيارات والأحزاب الفلسطينية ليل نهار مع سفراء الدول الغربية في القدس ورام الله وراءها علامات استفهام كبيرة، ناهيك عن التنسيق الأمني مع الاحتلال، والذي عليه من أشكال الاحتجاج ما لا نختلف أنا وأنت وشعبنا عليه. وفيما ذكرته – يا سيادة اللواء - في سياق التعجب والاستغراب من موقف الإخوان من الملك فاروق والرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله)، حيث أعفينا الأول – كما تقول - من الهزيمة واتهمنا الثاني!! إن الذي يعرفه القاصي والداني – يا سيادة اللواء - هو أن الملك فاروق كان دميَّة بيد الإنجليز، وقد شارك الإخوان مع الضباط الأحرار في الإطاحة به، ولم يكن البكباشي جمال عبد الناصر – آنذاك - هو المسئول عن الهزيمة عام 48، بل كانت الأمة العربية - بقدِّها وقديدها - هي المسئولة عن ذلك العار، وخاصة تلك الأنظمة الرسمية التي كانت مطيَّة ذلول لكلِّ من بريطانيا وفرنسا. وإذا كان هناك من توتر في العلاقة مع الرئيس عبد الناصر (رحمه الله) فهذا يتم فهمه في سياق الخلاف السياسي الذي كان قائماً – آنذاك - بين الإخوان والنظام، وإن جيلي من الشباب كان يكنُّ للرئيس عبد الناصر الكثير من التقدير والاحترام بمكانته كزعيم للأمة العربية، والمحرك لمشاعرها القومية ضد الاستعمار والتبعية الغربية. علاقات الإخوان بلندن وواشنطن؟!! أما عن تساؤلك حول وجود بعض قيادات الإخوان في العواصم الغربية كلندن وواشنطن، فأنا أجيبك بعيداً عما ذهبت إليه؛ لأننا عرفناهم عن قرب، وعايشناهم في المأكل والمشرب، وتابعنا حراكهم الفكري والديني هناك، وما وجدنا على أحد منهم ما يدفع للظن بما ذهبت إليه أنت أو غيرك. فعندما يتعرض أي شخص لاضطهاد ديني أو سياسي في بلد ما، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، فإن أول شيء يراوده كطوق للخلاص هو التفكير بالهجرة، مستلهماً تلك المعاني الربانية بمدلولاتها القيمية (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرة وسعة)، فالهجرة إلى بلد يأويه، ليس أكثر من رحلة يبدأها المرء في فيافي الأرض بهدف السعي فيها، فإذا ما وجد التسهيلات الحياتية والأمنية وأجواء الحرية متاحة في دولة ما قصدها وحط الرحال بها.. هكذا، كانت هجرة المسلمين الأوائل للحبشة؛ لأن هناك من أبلغهم بأن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ.. وفي عصرنا الحديث، عندما تعرض الإخوان في مصر للاضطهاد في الخمسينيات والستينيات احتضنتهم السعودية ووفرت لهم الأمان، والبعض منهم لجأ إلى أمريكا وبريطانيا، وأيضاً في الثمانينيات عندما حدثت المواجهة المسلحة في سوريا بين نظام حافظ الأسد والإخوان، ووقعت مجاز حماة الدامية، غادر الكثير من قيادات التنظيم وكوادره إلى الأردن والعراق وتركيا ودول الخليج.. ثم في مرحلة لاحقة، ومع تزايد الضغوط عليهم، قاموا بطلب اللجوء السياسي في بعض الدول الغربية، كأمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، مثل عشرات الآلاف من البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية. وقد سمحت لي إقامتي الطويلة في الغرب بمشاهدة المئات منهم هناك، مثل الأخ الحبيب المكني والشيخ راشد الغنوشي (تونس)، والشيخ عبد الكريم مطيع (المغرب)، والأستاذ عصام العطار والشيخ على البيانوني (سوريا)، والدكتور محمد المسعري (السعودية)، والشيخ محمد صالح العلي والدكتور أسامة التكريتي (العراق)، والأخ سعيد رمضان وإبراهيم منير (مصر)، والدكتور أنور هدَّام (الجزائر)، والأخ أحمد مكي (السودان)، والشيخ يونس البلالي (ليبيا)...الخ وتشهد حواضر الدول الغربية أن الفضل في انتشار الإسلام في أمريكا وأروبا هو لهؤلاء الإخوان، الذين قدموا في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات على شكل طالبي لجوء سياسي أو طلاب للدراسة في الجامعات أو بهدف العمل. وكما شاهدنا بعد انفراج الأوضاع في العراق وتونس، فقد عاد كل من د. أسامة التكريتي والشيخ راشد الغنوشي ليتبوأ كل منهما مكانته القيادية في بلده. الالتفاف حول الذات وتعظيم الأنا!! في كل أحاديثي وكتاباتي – يا سيادة اللواء - لم أغمط جهداً نضالياً لأحد، ولم أتعصب لتيار وطني أو إسلامي برغم انتمائي المعروف ككادر قيادي من حماس، ولكني كنت دائماً في مواقفي أحمل عنواناً وطنياً ولا أحمل ضغينة لأحد، ولا أتحامل على أي أخٍ أو رفيقٍ أو فصيل، فكلٌ له سابق جهد يثاب عليه، ولكل فصيل تضحيات عظام من الشهداء والجرحى والمعتقلين والأسرى، ورؤيتي السياسية هي مع بناء نظام سياسي قائم على الشراكة والتوافق الوطني، والتواصل مع عمقنا العربي والإسلامي، وأن ننفتح على المجتمعات الغربية وأن نستثمر وجود جالياتنا العربية والمسلمة في الغرب وحشدها لصالح قضيتنا، وإقامة تواصل مع قوى اليسار وأحرار العالم لكسب تضامنها ودعمها ووقوفها خلف قضيتنا.. لقد علمتنا دروس التاريخ، بأن الشعب المنقسم على نفسه لن يستطيع الصمود، فكيف إذا أراد الوصول لهدف التحرير؟!! إن في داخل عائلتي من كل قيادات الفصائل، فكيف أغمط حقاً لأحد منهم، لقد اعتقل الاحتلال العديد من إخوتي، وقد استشهد اثنان منهم، فأنا أُقدر لشعبنا العظيم تضحياته، وأتمنى أن نكون على قدر مكانته وطول قامته. أعرف أنك تعني بأن هناك أصواتاً داخل حركة حماس لا ترى بأعينها الآخر، وهذا للأسف صحيح، لأن الآخر في ساحتنا الفلسطينية كان هو بدوره لا يرى أحداً، وكان يحتكر كل شيء، ويشتري صمت الآخرين بالفتات الثوري. أنا أعرف أن حركة فتح قدَّمت الكثير على طول مسيرتها، وأن الجبهة الشعبية كانت في السبعينيات عنواناً نضالياً مسموعاً أكثر من غيره، وكان لكل فصيل وطني أو إسلامي سنوات من المدِّ والجزر، وإنه من العيب أن نفاخر ونتعالى على بعضنا البعض، فيما الوطن ما زال محتلاً، ولا كرامة حقيقية لأحد. هكذا تربينا: بِحُسْنِ الرَّأْيِ تَقْتَنِعُ الْعُقُولُ الصديق العزيز أبا حسين، لقد تربينا في محاضن الدعوة والعمل الإسلامي على أن نحفظ لكل ذي فضل فضله، وأن نقول للناس حسناُ، وأن نقدم الكلمة الطيبة مصحوبة بالودِّ والابتسامة، ولكن السياسية جرَّت الجميع إلى مربعات الخصومة والمناكفات، التي لا تليق بأحد منَّا، ولم نكن نشهدها في زمن الشهيدين؛ الشيخ أحمد ياسين والرئيس ياسر عرفات (رحمهما الله). أتمنى بهذه اللغة من الحوار الأخوي أن نفتح صفحة جديدة في مدوناتنا السلوكية تجاه أدب الخلاف، وكيف نتعامل على مائدة الخصومة السياسية بالحكمة والموعظة الحسنة؛ أي لين القول، وطيب الكلمة، وإحسان الظن إلى أن يتبين غير ذلك. إن الممارسة القمعية وأشكال التعذيب التي تلجأ لها الأجهزة الأمنية في بلادنا، وأنت من أعرف الناس بذلك، قد خلقت بسلوكياتها غير الإنسانية، تجاه من يرفع صوته بالاعتراض على سياسات السلطة القائمة، حالات من العداء والشك ساقت إلى ما نراه في لغة الخطاب السياسي، والتي تبعث على الخوف والقلق، وتدعو للقول (وكانت عاقبة أمره خسرا). أتمنى أن نعود جميعاً لأخلاقيات الشيخ أحمد ياسين والرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث يرى كلٌّ منا "قُرَّة عين" في أخيه، وليس خنجراً في خاصرته!! أخي سيادة المستشار توفيق لطيراوي.. إليك مقترحاً حتى يتواصل الحوار بيننا فيما يجدي نفعاً لمستقبل بلدنا العزيز، ويدفع باتجاه إصلاح واستقرار نظامنا السياسي، ويعزز من مقدرات مشروعنا الوطني، وجمع صف شعبنا العظيم. دعنا نضع أفكاراً تحدد معالم الرؤية للخروج من المأزق، ونطرحها كمبادرة بين يدي قياداتنا السياسية والفصائلية والنخب الفكرية وعمداء ومخاتير هذا الشعب العظيم، بهدف تحريك مياهنا السياسية الراكدة، وإسداء النصيحة وتبادل الرأي والمشورة الوطنية.. يسعدني أن تبدأ بطرح ما تراه موقفاً أو رؤية استراتيجية، على أن نقوم من جانبنا بعد ذلك باستكمال ومراجعة ما نراه رؤية جامعة لمشروعنا في التحرير والعودة. هذا وبالله التوفيق.. |