وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

كاميرا حَمدان

نشر بتاريخ: 03/01/2016 ( آخر تحديث: 03/01/2016 الساعة: 13:48 )
كاميرا حَمدان
الكاتب: المتوكل طه
I
صَندوقٌ خشبيٌّ يُبْرِقُ مع شَارتِهِ
يَظْهَرُ ، بعدَ الضَّوءِ الخَاطفِ ، وجهُ الرَّجلِ .
يُشيِّعُ مَنْ جاءَ إلى البابِ : غداً تأتي ،
ستكونُ الصُّورةُ جاهزةً - إن شاء اللهُ - .
وفي حَوضِ الماءِ ، بِغُرفتهِ المُعتمةِ ،
يُتمِّمُ صُنْعَ الصُّورة ،
ويُعلِّقها ..
يَغسل كفَّيهِ ، ويَخرُج ..
أهلاً حمدانْ !

II

السَّاحةُ من حَجرٍ صَقَلَتهُ الأَرجلُ ..
خلفَ الجامعِ سوقٌ للجمعةِ ؛
يَبتاعونَ البيضَ وألباناً مالحةً ودجاجاً وفراخاً وخضاراً وأرانب، ويبيعون الماشيةَ وأبناءَ الأنعامِ ولحمَ العِجْلِ ..
وأصبحتِ السَّاحةُ تعرضُ ما فيها ، طيلةَ أيَّامِ الأسبوعِ ،
بَلِ ازدهرَ البيعُ ؛
فجاء الحلوانيُّ وحلاّقُ البلدةِ والعطَّارُ وبيَّاعُ الكُلَفِ ،
وصاروا مثلَ الصَّائغِ والقمَّاشِ يرشُّونَ الماءَ صباحاً ..
يتنادونَ ، ويفتقدونَ الرَّجلَ :
لماذا يغلق أبوابَ الدكَّان ؟

III

والدكَّانُ له بابٌ خشبيٌّ أخضرُ ،
يُفضي للكاميرا المنصوبةِ خلف المكتبِ ،
في الدكَّان يُعلِّق حمدانُ سَباياه ؛
وجوهُ نساءٍ يركبنَ السيَّاراتِ أو الأمواجَ
بزيِّ اللَّيلِ أوِ البَحرِ ،
ومَنْ تضحكُ ،
أو تنظرُ ،
أو تتمطَّى كالثُّعبان ..
من أينَ أتيتَ بِهذي النّسوةِ يا حمدان ؟
*
حمدانُ يصوِّرُ كلَّ زبائنهِ المَعروفينَ ،
ولا يَضحك ..
يُجلِسُهم فوقَ الكُرسيّ ،
بإصبَعِهِ يرفعُ رأسَ الواحدِ أو يُخفِضهُ ،
يطلبُ منه بأنْ يَبْتَسِمَ ،
يُبلِّلَ شَفتيهِ ببعضِ الرِّيقِ ..
ويضبطُ هَيئتهُ ،
ويجنِّحُ فوقَ الكوفيّةِ حَبْلَ المِرْعِزِ ..
اثْبَتْ .. وتطُقُّ الصُّورة !
أنتَ جميلٌ يا .. إنسان .



IV

ثَمّةَ بروازٌ للمَلِكِ قديمٌ
وإطارٌ لملامحَ غابتْ ..
- مَنْ هذا ؟
أبتي !
- ولماذا لا تَظهر صورتُهُ ؟
هذا ظِلُّ الصُّورةِ ..
- أينَ الصُّورةُ ؟
ظلّتْ ، في البيتِ ، على الحِيطان ..

V

حمدانُ الفنّانُ نظيفُ الهندامِ ، قليلُ اللّفظِ ،
يُكَنِّسُ قدّامَ "المخروبة" ،
ويُجمِّعُ ما يتطايرُ من ورقٍ في السَّاحة ،
ويُصلِّي دونَ ضَجيجٍ ،
يحملُ في يدهِ ساعةَ "جوفيالٍ" ،
ويسرِّحُ غُرَّتهُ بالزَّيتِ الطيَّارِ ،
ويعشقُ رائحةَ "الرِّفدورِ" ،
ويكرهُ "كالونيا" الحلاّقِ الكاويةَ
ويغلي شاياً فوقَ الوابورِ اللاَّمعِ ،
إذ يغسلُه بالسِّلْكَة ،
ويُغسِّلُ أكوابَ الشَّايِ كذلك باللَّيمونِ ،
ويشربُ مُنتشياً .. ريّان .

VI

وتغيَّر حمدان ،
صارَ يلوِّنُ في مَعملهِ الصُّوَرَ
وينصبُ كاميراتٍ تفهقُ دون توان ،
وتبدَّلتِ النّسوةُ فوقَ الجدرانِ ،
تغيّرَ وجهُ الحاكِمِ والوابورُ وإبريقُ الشَّاي ..
لكنَّ إطارَ أبيهِ ، كما نعهدهُ ،
ظلَّ بلا وجهٍ أو ألوان ..
- ولماذا لا ترسمهُ بالفحمِ ، وتُعْلي ضحكتَه ،
وتُبروِزُهُ شمساً .. يا حمدان ؟
الصُّورةُ شاهدُ إثباتٍ مثلَ الكوشانِ
ومثلَ مفاتيحِ الجنّةِ في القرآن .

VII

والآن ..
بعدَ القصفِ ، وجَرْفِ السُّوقِ
وموتِ الكاميرا والدكَّان ..
مَنْ يذكُرُ حمدان ؟
مَنْ
يذكرُ
ح م د ا ا ا ن ؟