وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

ميسم بثلاث ميزات.. وكفاح تتسلح بالارادة

نشر بتاريخ: 15/01/2016 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:03 )
ميسم بثلاث ميزات.. وكفاح تتسلح بالارادة
بيت لحم- خاص معا- الفتاة الشقراء بعيونها الملوّنة، مميّزة في المجتمع الشّرقي أكثر من الفتيات ذوات البشرة السمراء أو البيضاء، لكنّ "ميسمْ" اكتسبت ميزة ثالثة سببها "كروموسوم" زائد ميّزها عن باقي الأطفال بنفس عمرها، وعن أفراد عائلتها كونها الوحيدة بينهم كطفلة متلازمة داون.
وُلدت الطفلة ميسم شاهين منذ ثمانية أعوام في الـ 28 من شهر أيلول لعام 2007 بمدينة سلفيت، كابنة ثالثة لوالديها، لتولد معها مجموعة استفهامات أحاطت الأطباء وعائلتها حول مولودتهم الهادئة، ولم يكونوا ليفكروا أبداً بأنها ستكون طفلة متلازمة داون.

بدت الحيرة واضحة على ملامح الأطباء ونظراتهم التي كانت تتفحّص جسد ميسم الصغير، مما أثار شكوك والديها بأن تكون مصابة بمرض يحاول الأطباء إخفاء حقيقته عنهما، وعندما كانت والدتها كفاح تسأل عن إن كانت طفلتها بخير، يجيبها الطبيب على الفور: "ابنتك بخير، وتستطيعين المغادرة بها إن أردت، لا تقلقي ستكبر وتلعب مع باقي الأطفال" ورغم عدم ملاحظتها لشيءٍ غريب في ابنتها، إلا أنها استمرت في قلقها حتّى أكّد الطبيب تلك الشكوك لزوجها بعد خمسة أيام من ولادتها.

الشك.. بداية حقيقة مرهقة

كفاح التي أنجبت قبل ميسم طفلتين بلا مشاكل صحيّة، لم تستطع استيعاب فكرة أن تكون ابنتها الثالثة مصابة بمتلازمة داون، وعندَما كانت تسأل من حولها عن الفروقات التي تظهر على أطفال متلازمة داون فور ولادتهم، كانوا يخبرونها بأنهم يجدون صعوبة بالرضاعة بسبب ارتخاء عضلات فك الفم، وهذا ما جعلها تستبعد فكرة أن تكون طفلتها مثلهم، لأنها باشرت بالرضاعة فور ولادتها بلا تعسّر.
رأس ميسم كان أصغر حجما من الأطفال الطبيعيين، وهو المعتاد في أطفال متلازمة داون الذين يولدون برأس صغير له مؤخرة تعطي الجمجمة شكلا مستديرا، هي صفة لم تلحظها والدتها التي استمرت بانكارها محاولة إيجاد ما يثبت لها خطأهم، وكأي أم حاولت كثيراً أن تهربُ بابنتها بعيدا عن هذا الاختلاف بخوف ولّدته نظرة المجتمع القاسية لفئتها.
و"متلازمة داون" هي عبارة عن تشوه جيني يسبب تأخر النمو البدني والعقلي للطفل ويحدث نتيجة خلل في انقسام الكروموسوم رقم (21) عند الاطفال المصابين بـ"متلازمة داون"، بعد أن تبدأ الخلايا في الانقسام بعد إخصاب البويضة مباشرة في رحم الأم.

ثُقب بالقلب يضع حداً للشك..

استمرّت كفاح بحالة الإنكارِ تلك قرابة الخمسة أشهر، حتّى ارتفعت حرارة ميسم وتوجّب عليها أن تذهب بها إلى الطبيب، تعاملت مع مرضها بعاطفة الأمومة وقلقها الطبيعي، وأخذتها لتلقي العلاج.
وصفَ الطبيبُ لميسم دواءها، وقبل أن يسمح لوالدتها بمغادرة العيادة، أخبرها بأن ابنتها مصابة بثقب كبير في القلب، مؤكداً ضرورة أن تُجرى لها عمليّة لسدّ هذا الثقب بأسرع وقت ممكن، وقبل أن ينهي حديثه، أكمل:
"غالبية أطفال متلازمة داون، يولدون مع مشاكل صحيّة، تستوجب من أهلهم متابعتهم بشكلٍ مستمر والعناية بهم، والثقب الذي في قلب طفلتك هو مرضٌ يُولد مع قسم كبير من أطفال هذه الفئة، ويُعالج بالجراحة".

كان هذا الخبر بمثابة منبّه أيقظ كفاح من حالة الصدمة التي كانت تعيشها، ليصبح همّها الاول معالجة ابنتها وسدُّ الثقب في قلبها، لتبدأ بالبحث عن معلومات حول طبيعة الفئة الجديدة التي انضمت ابنتها إليها، وعلمت حينها أن طفل الـ"داون" يعاني من بعض العيوب الخلقية، ويكون لديه قابلية أكثر لحدوث مشكلات طبية مثل: مشاكل في الجهاز التنفسي، وعيوب خلقية في القلب، أو في الجهاز الهضمي، أو حول في العين، وضعف بالمناعة.
تقول كفاح لـ معا: "كانَت أصعب أيامٍ عشتها في حياتي، الخوف من أن أفقد ميسم كاد أن يقتلني، وأخرجني من صدمتي التي رافقتني بعد أن أنجبتها، تنقلت بين المستشفيات حتّى وقّع لي الطبيب حوالة طبية لإجراء عملية لابنتي في مستشفى "شنايدر" بتل أبيب، ولكنّ المستشفى أعادتني مرّتين ورغم احتجاجي كانوا يتذرعون بأن لديهم حالات أصعب من حالة ميسم".
في المرّة الثالثة رفضت كفاح العودة إلى المنزل دون اجراء العملية لابنتها، وهكذا انتهى الكابوس الأول بنجاح الأطباء بسد الثقب في قلب ميسم.

رحلة الذهاب والاياب لمراكز التأهيل

بعد صحوة كفاح من صدمتها، لم تكترث ابدا بما سيحصل من تغير لملامح ابنتها بعد أن اقتنعت بطبيعة أن تمتلك كأي طفل "داون" من صفات تتمثل في: ضعف وارتخاء عام في العضلات، قصر بالقامة، انحراف العيون للأعلى والخارج، والتباعد في أصابع القدمين، وصعوبة في المشي والصعود على السُّلم.
لم تعد تكترث بتقبل المجتمع لها، ولم تأبه بفكرة زواجها مستقبلا، كُلّ ما شغلها هو أن تتعلم ميسم مثل باقي الأطفال.

أضافت كفاح: "كنتُ أشعرُ بالبردِ الشديد والمرضِ كُلّما كانَت أعينُ المارّة تتفحّص ميسم وهي لا تزال رضيعة، أو من كانوا يقومون بزيارتنا في المنزل، كنتُ أقرأ أفكارهم وهم يُشكّكون بكونها طفلةَ متلازمة داون، شفقتهم واستغرابهم وانكارهُم كان واضحاً ويؤذيني جداً، وأكثر ما كان يشعرني بالخوف هو نظراتُ الممرضات في العيادة خلال أوقات التطعيم الدورية للأطفال بين فترة وأخرى، حتّى أن شقيقتي أصبحت تصحبها عوضا عنّي كي لا أصاب بالإعياء من نظراتهم".
تنقلت ميسم بصحبة والدتها بين ستة مراكز لتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة، في المرة الأولى كان عمرها عامين فقط، فلم يقبلها المركز لصغر عمرها، رغم ضرورة العمل مع فئة متلازمة داون منذ الصغر، لكنّ كفاح لم تيأس لإيمانها الشديد بقدرة ابنتها على مواجهة المجتمع.
"إن لم يتقبل المجتمع ابنتي لأنها متلازمة داون، فسأجعلها تفرض احترامها على المجتمع" هذا ما قالته كفاح وهي تروي لـمعا قصة تنقلها من مركز تأهيل لآخر.
وبحسب احصائية نشرتها جمعية الرحيم- أصدقاء متلازمة داون قبل عامين فإنه من بين كل حوالي 770 حالة ولادة يولد طفل مصاب بالمتلازمة، وأنه يوجد في فلسطين ما بين 3500- 4000 حالة مصابة بالمتلازمة من أعمار مختلفة.

كيف يمكن أن اساعد ابنتي؟

كانت كفاح تؤمن بأنّ العبء الأكبر يجب أن يكون على الأم، لأن جلسة واحدة أو اثنتين في مراكز التأهيل خلال الاسبوع، لن تكون كافية لتأهيل الطفل من ذوي الإعاقة، حتّى أنها أصبحت تأخذها لمركزين في الاسبوع، أحدهما في رام الله والثاني في نابلس، وكانَ ذلك مرهقا لها، خاصة أنها في مرحلة من التنقل حملت بابنها الذي رزقت به بعد ميسم.
"التكلفة المادية المرتفعة في الجلسة الواحدة للتأهيل لم تكن مشكلتي، لكن ما كان يُقدّم لميسم لم يكن ليساعدها على تحدي المجتمع، وإن كان يرافقها تكلفة التنقل بين مدينة وأخرى، وأنا كنتُ أريد أن أتعلّم كيفَ أساعدُ ابنتي، وهذا ما لم توفره المراكز لي" تستطرد والدة ميسم.
تعلّمت أم ميسم على مواقع التواصل الإجتماعي، وعلمت من خلاله عن دورة تدريبية لتأهيل أُمهات الأطفال ذوي الإعاقة لجعلهنّ قادرات على تنشئة أبنائهن، فسافرت إلى الأردن وحصلت على شهادةٍ فيها، وعادت بأملٍ جديدٍ عندما قابلت هناك فتاة جامعية من متلازمة داون اسمها ولاء عبد الهادي، تخرّجت الآن وحصلت على شهادة الشامل في التربية الخاصة، والتي شكّلت الدافع الأكبر لجعل كفاح تؤمن بأن لابنتها القدرة على التعلّم.
أوضحت لمحيطها أن أطفال متلازمة داون بشرٌ مثل غيرهم، وإن كان لديهم 47 كروموسوما في حين أن للشخص العادي 46 كروموسوما، وأن هذا الكروموسوم الواحد لن يقف عائقا في دمجهم بالمجتمع، إن وجدوا من يرشدهم ويساعدهم على تخطي الصعاب.

كفاح وميسم تسجلان انجازين في عام واحد

بَنت كفاح حلمَها برفقة ميسم، أدخلتها رياض الأطفال، دمجتها بالمجتمع، وجعلتها تشارك بنشاطات مختلفة مع الأطفال، لتُحقّق انجازين برفقة طفلتها في عام 2015.
تستطردُ كفاح: "تخرّجت ميسم من رياض الاطفال، وكنتُ خائفة من أن لا تقبلها المدرسة بالصف الأول كأي طفلة أخرى، قالت لي مديرة مدرسة سلفيت الأساسية إنه يوجد في المدرسة غرفة "مصادِر" لإعطاء الأطفال ذوي الاعاقة دروسا مكثفة يعطى فيها ثلاثة حصص أسبوعية، واشترطت ان يكون سلوكها مثل باقي الطالبات وان لا يؤثر عليهن، حتى ارتادت طفلتي صفّها الأول في مسيرتها التعليمية".

تتابعُ: "رأيتُ ميسم بلباس المدرسة الأزرقِ، وكرمتها المديرة لكونها أكثر الفتيات محافظة على نظافتها بالمدرسة، وحاولت أن أجعلَ الاطفال يتقبلونها بهدايا رمزية لهم، فصاروا يسألون عنها حال غيابها، تعلمت الكاراتيه لليونة مفاصلها، وعملتُ- بسبب تجربتي معها- على تأسيس جمعية "هذا حقي" لذوي الإعاقة في سلفيت، لأساعد باقي الأمهات على تأهيل أبنائهم ولأغير الصورة النمطية عن ذوي الإعاقة".
"كنت أرى أطفالا من متلازمة داون مُهملين لعدم اهتمام ذويهم بهم، ما سبب انهياري وضعفي في البداية، لكن لديّ ميسم الآن التي أصبحت مصدر قوتي، ومنذ أصبحتُ مديرة جمعية "هذا حقي" لذوي الإعاقة، وأنا أحاولُ النهوض بابنتي وباقي الأطفال من خلالها" انهت والدة ميسم حديثها لـ معا.

اعداد: ياسمين الأزرق