وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

مأساة الشعب الفلسطيني: البوصلة وغياب القبطان

نشر بتاريخ: 17/01/2016 ( آخر تحديث: 17/01/2016 الساعة: 15:59 )
مأساة الشعب الفلسطيني: البوصلة وغياب القبطان
الكاتب: د.احمد يوسف
بعد رحيل ياسر عرفات, القائد والزعيم الوطني الكبير, اختلت موازين العمل السياسي في الساحة الفلسطينية، فلم يعد هناك - حقيقة - قبطان يقود سفينة هذا الوطن بحكمة واقتدار.. كان أبو عمار (رحمه الله) له مكانة مهيبة، وقوة فعل إقليمية ودولية، جعلت القضية الفلسطينية دائمة الحضور في أجندات الفعل السياسي الإقليمي والدولي, حتى أن ما نحتاج إليه من دعم مالي ومساعدات للحفاظ على كرامتنا - كشعب محتل - كانت تجود به خزينة الدول العربية، ولم تبخل الدول الغربية هي الأخرى عن تقديم ما تحتاجه السلطة لاستمرار وجودها وحراكها السياسي.. ومع غياب ياسر عرفات، فقدنا القبطان، واختل توازن السفينة، وفقدت البوصلة قيمتها, حيث غدا التوهان والحيرة هما عنوان المرحلة .

قطاع غزة: جت الحزينة تفرح ملقتلهاش مطرح!!
كان الإنقسام في الساحة الفلسطينية بمثابة الطامة الكبرى التي شلت طاقة الجميع، فلم تعد السلطة في رام الله تملك أوراقاً للضغط على إسرائيل، بل أصبحت من أجل استمرار وجودها تخطب ودَّ هذه الدولة المارقة, وتوسعت في مجالات التنسيق الأمني معها, وعرًضت الكثير من قوى الفعل المقاوم والحركية الوطنية للملاحقة والاعتقال، مما أفقدها الكثير من شرعيتها واحترام الشعب لها. وفي قطاع غزة، لم يكن الوضع أفضل حالاً، فقد إشتد الحصار, وتعاظمت مشاهد المعاناة مع تدمير الأنفاق، وإغلاق معبر رفح في معظم أوقات العام.. لقد أضحى الحال لا يطاق. كان الرهان أن تكون روعة أداء المقاومة في التصدي للعدوان الإسرائيلي خلال الحروب الثلاثة على قطاع غزة دافعاً لتقييم واقع الانقسام، واجتماع الصف، وأن ترتفع حسابات الكل الوطني لمستوى المسؤولية, واستبشرنا خيراً يوم تمَّ التوقيع على إتفاق المصالحة في القاهرة في مايو 2011م, ولكن - للأسف - لم يطرأ أي تغيير جذري في طبيعة العلاقة, واستمرت حالة المناكفات والردح الإعلامي على ما هي عليه، الأمر الذي أدى إلى فقدان الثقة بين طرفي الأزمة من جديد.

كان الأداء البطولي للمقاومة في حرب 2012م أكثر من رائع، وشعرنا كفلسطينيين بحالة من الانتشاء والأمل، في ظل ما شاهدناه من صحوة الأمة وحركة النهوض لدي شعوبها، فيما سمي بـ"الربيع العربي"، والذي تفاعلنا كبير، واستبشرنا به كثيراً.. لا شك بأن حجم التغيير للواقع السياسي العربي الإسلامي كان في البداية يدعو للتفاؤل ويبشر بالخير, وقد شعرنا بأن هناك حاضنة على مستوى الأمة سترعي حواراتنا القادمة، وستعجل بجمع ما تشرذم من صفوفنا, وقد بدأنا نشهد تحسناً في حالتنا الفلسطينية، وانفراجاً في العلاقة مع دول الجوار، وخاصة مع مصر الشقيقة، التي تُعتبر الدولة الأهم بالنسبة لنا على مستوى الهمً الوطني، وباعتبارها الجارة الأقرب في الجغرافيا السياسية، والمنفذ وشريان الحياة الحيوي بالنسبة لقطاع غزة.

أخذت الأمور تتحسن، وانتعشت أحوال القطاع من خلال التسهيلات التي قدمتها مصر لنا, حيث تمَّ فتح معبر رفح بشكل شبه دائم، وانتعشت التجارة عبر الانفاق، مما عاظم من مستويات الدخل المالي للسلطة في قطاع غزة، ورفع من معنويات صمود شعبنا في القطاع المحاصر.. كانت هذه الأجواء الإيجابية وراء ما توافقنا عليه في الدوحة من تفاهمات، باتجاه تشكيل حكومة إنتقالية برئاسة د. رامي الحمد الله لترتيب أوضاعنا الداخلية، والإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية، وأيضاً لإعادة انتخابات المجلس الوطني.

لا شكَّ أن التغييرات السياسية التي جرت في مصر بعد 30 يوليو 2013م, وعزل الرئيس محمد مرسي، وما تعرض له الإخوان المسلمون من ملاحقات واعتقال، وإخراجهم من مشهد الحكم والسياسة، قد أثرت بشكل كبير على حالتنا الفلسطينية.. وإذا أضفنا إلى ما سبق، كل ما جرى - أيضاً - في سوريا، واضطرار قيادة حركة حماس لمغادرة دمشق، وخسران حليف استراتيجي كان داعماً قوياً للمقاومة، ومؤيداً لنهجها السياسي, كما أن تراجع الدعم الإيراني المالي والسياسي للحركة لتمنعها عن اتخاذ موقف لصالح بشار الأسد، كل ذلك – شئنا أم أبينا – كان ضربة موجعة للحركة.. ثم كانت الحرب العدوانية في 2014م على قطاع غزة، والتي كانت نتائجها التدميرية مكلفة على كاهل القطاع، المثقل – أصلاً - بتبعات الاعتداءات المتكررة والحروب السابقة. باختصار: كل ذلك أوجعنا كثيراً، وأثرَّ بشكل ملموس على حياة شعبنا في قطاع غزة.

إضافة لكل ما قدمناه، وتأسيساً عليه، فأن الخريطة السياسية التي تشكلت بعد انتكاسة الربيع العربي كانت بالمجمل في غير صالح قضيتنا, حيث تراجعت كافة أشكال الدعم السياسي، وتقلَّصت أحجام المساعدات المالية التي كانت تصل إلى قطاع غزة, وشعرنا - ربما للمرة الأولى - بأننا نواجه إسرائيل وحدنا, وليس أمامنا إلا الصمود في وجه هذا المحتل الغاصب.
ومن الجدير ذكره, أن الرئيس أبو مازن وحكومة د. رامي الحمدالله تعمدا بعد هذه الحرب بتبني سياسة الابتعاد على قطاع غزة، وتجاهل أي دور يمكن القيام به في القطاع.. ولذلك، بدأت سياسة البحث عن ذرائع لتبرير غياب أي دور للحكومة فيه, والتمحك بأي أخطاء يمكن أن يرتكبها البعض في قيادة حركة حماس على مستوى الممارسة أو التصريحات .

فمرةً يكون الاحتجاج بالقول الذي ورد على لسان الأخ إسماعيل هنية؛ رئيس الوزراء السابق ورئيس الحركة في قطاع غزة، بأننا غادرنا الحكومة ولم نغادر الحكم, حيث يتم اتخاذه ذريعة للتهرب من مسؤولية إدارة شؤون القطاع!! ومرةً بأن الحركة لم تسمح للوزراء بممارسة عملهم بحرية، وتلاحق تحركاتهم!! ومرةً بادعاء أن الضرائب لا تصل لحسابات وزارة المالية، وتتناسى حكومة الحمد الله حرمانها لحوالي أربعين الف موظف من صرف رواتبهم لأكثر من عام.
لم تتوقف ماكينات الدعاية الإعلامية الحكومية عن ترديد هذه الأسئلة وغيرها.. وفي المقابل، كانت حركة حماس باعتبارها - عملياً - هي من تدير شئون قطاع غزة، وتتحمل - بحكم الواقع - الكثير من تبعاته المالية، وخاصة دفع رواتب الموظفين الذين تجاهلتهم الحكومة في رام الله، وتطالب حكومة د. رامي الحمد الله بتحمل مسؤولياتها كاملة تجاه القطاع, وليس اعتماد أسلوب التذرع بغياب الصلاحيات، حيث إن من بديهات الأمور أن الحكومة هي من يملك الشرعية التي تمنحها فرض السياسات التي تريد, وهي التي بيدها – بحكم القانون والتوافق الوطني – كامل الصلاحيات، حتى وإن كانت جزئية، لتمرير ما تريد.. ولكن بسبب غياب الحكومة عن مشهد متابعة أحوال القطاع وتحمل مسؤوليتها فيه, جعلها أشبه بـ"خيال المآته"، بلا حول ولا قوة.

إن من المؤسف القول بأن الرئيس (أبو مازن) كان في نظر جميع من يتابع المشهد الفلسطيني يمثل حالة العجز السياسي, فهو لم يلتزم بما وعد به عندما تمَّ التوقيع على اتفاق الشراكة في أبريل 2014م، فيما عُرف بـ"اتفاق مخيم الشاطئ", إذ لم يقم بإصدار المرسوم الذي تعهد به لتفعيل المجلس التشريعي، وأيضاً المرسوم الخاص بعقد الإطار القيادي المؤقت, كما أنه لم يظهر أمام شعبه باعتباره "مثابة للناس وأمناً"؛ أي حاضناً للكل الوطني والإسلامي, بل ساهم في توتير الأوضاع الداخلية، من خلال أحاديثه ولقاءاته مع وسائل الإعلام المصرية، والتي تسببت في تحطيم جدار الثقة القائم تاريخياً بيننا، وانهياره بالكامل, كما أنه لم يأخذ بأي مبادرات يمكنها أن تعمل على ترميم علاقاتنا الفلسطينية؛ سواء داخل حركة فتح أو بين السلطة وحركة حماس .

ومن باب الإنصاف, فإن حركة حماس هي الأخرى لم تكن بريئة من تعقيدات الحالة التي وصلنا لها, فهي من طرفها - أيضاً - تتحمل بعضاً من هذه المسؤولية عن إخفاقات عمل الحكومة في قطاع غزة، ولكن هذا لا يعطي المبرر للرئيس (أبو مازن) أن يعطل كل شيء يتعلق بأمر القطاع، ويعتمد سياسة "العقاب الجماعي" لأهل غزة, بحيث أصبحنا بين فكيً كماشة؛ الحصار وظلم ذوي القربى!!
اليوم، الكل يتحدث بأن سفينتنا تفتقد القبطان، وأن ما هو قائم سيظل يظلع في مساره المتعثر بانتظار شروق شمس جديدة لتغيير الواقع السياسي وإصلاحه.

تفاهمات وآمال: دعنا نوقد شمعة، ونبدأ المسير
إن الرئيس أبو مازن - اليوم – هو من يملك تحريك كافة الملفات، حيث لا يختلف إثنان أن ما بيده من مفاتيح "تنوء بها العصبة" هي القادرة على فتح كل الأبواب المغلقة وولوجها، والموقف - اليوم - هو أن يشرع الرئيس بالعمل لترتيب البيت الفلسطيني، والتهيؤ للرحيل أو ترك البيت ينهار على من فيه، وعندئذ لن يكون له ذكرٌ حسن يفتح الباب للترحم عليه والدعاء له.
أتمنى أن يفتح الله عليه بقرار صائب وموقف حكيم، يُصلح كل ما أفسدته البطانة والملأ من حوله، خلال السنوات العشر الماضية.. إن الوقت - بالتأكيد - لا يعمل لصالح الرئيس، فسيف الأجل بعد الثمانين لا يخطئ أحداً.. صحيحٌ، أن الأعمار بيد الله، وأن الأعمال بخواتيمها, والعمل الحسن يجُب ما قبله من الخطايا والسيئات, ولكن حتى اللحظة لا يبدو أن الرئيس (أبو مازن) مدركٌ لعامل الزمن, وخطورة إنقلاب السفينة وضياعها في بحر الظلمات .
إن كل المؤشرات الإقليمية والدولية لا تعطي دلالات إيجابية باتجاه قضيتنا الفلسطينية، ولم يعد أمامنا إلا رشد الخيِّرين من أبناء شعبنا العظيم, نأمل أن يستمع الرئيس (أبو مازن) لصوت البعض منهم، للتعجيل بالتئام شمل هذا الوطن، وأن نستدرك قبل فوات الأوان .

هذه نصيحتي التي أسديها للأخ الرئيس (أبو مازن), والتي سبق لي أن قدًمت الكثير منها في السنوات التسع الماضية، ومنذ أن بدأ هذا الانقسام البغيض, الذي قوًض أركان قوتنا جميعاً، وأذهب هيبتنا، وأوصلنا إلى الحالة المزرية من التردي والهوان التي نمرُّ بها اليوم، بدل مكانة العزة وارتفاع الشأن .
يا سيادة الرئيس.. بالرغم من وضوح كل ما نبغي الوصول إليه, حيث إن بوصلتنا ما تزال أمينة في تحديدها لكل ما نطمع في تحقيقه من أهداف، وعقاربها هي باتجاه كل ما توافقنا عليه، واعتبرناه هو من جوهر حقوقنا وثوابتنا الوطنية, إلا أننا يبدو كمن أضاع السبيل!!
يا سيادة الرئيس.. إن كل ما اتفقنا عليه في السابق, فإن لدينا جميعاً اليوم الجهوزية للالتزام به, كما إن إستعداداتنا لتقديم المزيد من التنازلات من أجل سؤدد هذا الوطن, والمسألة كلها عندك, فأنت صاحب الموقف والقرار, وأنت الخصم والحكم.

يا سيادة الرئيس.. إن هذا هو شعبك، وأن من واجبك أن تقول لكل من خالفك أو اختلف معك (يا بني اركب معنا), هذه هي سياسة القبطان الناجح والسياسي الحكيم, فلا تسمح لبطانة عندك مهما بلغت ثقتك بها أن تخرق السفينة، وأن تورد قضيتنا وشعبنا مورد الهلاك .
ولعلي هنا أُذكرك يا سيادة الرئيس بموقف جمعني معك عام 2006م، بعد لقاء شاركت فيه – آنذاك - مع وفد رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية بالمنتدى الرئاسي، وقد تعمدت الانتظار قليلاً في المنتدى بهدف الحديث معك، حيث كنت أشعر بتوتر العلاقة بينك وبين الإخوة في حركة حماس، حيث كانت تصدر من البعض - أحياناً - تصريحات مستفزة، تربك الساحة وتؤدي إلى توتير العلاقة بينكما.. في ذلك اليوم، قلت لك يا سيادة الرئيس: "إن الإسلاميين صعبين، ولكنهم طيبون, وإن لقاءً لك معهم على وجبة طعام، مع حديث أخوي يتمَّ فيه تبادل الرأي والمشورة، ووضع الإخوة في صورة ما تفكر به، سيؤدي إلى ترطيب الأجواء وخلق حالة من التفهم والالتقاء، بدل ما هو سائد من شكوك واتهامات.. وأتذكر أنك قد استحسنت الفكرة، وطلبت مني التنسيق مع د. زياد أبو عمر الإعداد لها . ولكنَ سفري المفاجئ إلى خارج البلاد، ولمدة تجاوزت الشهر، جرت خلالها الكثير من المواجهات وعمليات القتل والقتل المضاد، وقد أدت – للأسف - إلى تصعيد الأوضاع، وخروجها عن السيطرة، وانفجارها في يونيه 2007م.

ما زلت على قناعتي يا سيادة الرئيس بأن الإسلاميين وحركة حماس هم أناسٌ تغلب عليهم الطيبة والإخلاص، والتفاني والحرص على الوطن ومصالح الناس, وهم أوفياء لعهودهم، ويمكن للحكيم التعامل معهم، والوصول إلى تفاهمات وطنية تخرجنا من المأزق الذي وصلنا إليه، وتذكر - يا سيادة الرئيس - بأن المقاومة التي أعدتها حماس بجهد الاستطاعة، هي عنوان كبير لقضيتنا وشعبنا، ولولا قدرات الفعل لديها ما كنت تنعم أنت - يا سيادة الرئيس - ولا نحن بكرامة تحت أحذية الاحتلال، ولأذلنا نتنياهو؛ هذا المتعجرف، بعسكره جميعاً .

ختاماً: إن السفينة لا تجري على اليبس
إن أسلوب المراهنة على انفجار الشارع في قطاع غزة، بسبب المعاناة، وسوء الأوضاع المعيشية، والحصار ليست هي الخيار الأفضل؛ لأن هذا معناه خسارة الجميع، فإذا انكسرت غزة، فقد انحنى ظهر مشروعنا الوطني وتودع منه؛ لأن حال المنبتَّ هي "لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
قطاع غزة - يا سيادة الرئيس – هي عمادة مشروعنا الوطني، وهي رافعة الهيبة والعزة والكرامة، وهي "سراة القوم"، وهي "سيف عنترة" لسلطتنا الوطنية، والمطلوب هو الحفاظ عليها وعلى مقاومتها كشوكة في خاصرة الأعداء.
إن هيبة السلطة ومكانتها – يا سيادة الرئيس – هي في بقاء غزة قوية، وفي حالة من الهيبة والاقتدار، وقد علمتنا دروس التاريخ بأن الشعب المنقسم على نفسه لا يمكنه الصمود، وتحقيق الانتصار الموعود.