|
قراءة في رواية "نزل الذرة الصفراء" لأبو رحمة
نشر بتاريخ: 20/01/2016 ( آخر تحديث: 20/01/2016 الساعة: 09:51 )
بقلم: الواثق طه
تعتبر الروايات التي تستهدف فئة اليافعين في الوطن العربي قليلة إذا ما قورنت بالكم الذي يكتب للأطفال الصغار، ولعل هذه الفئة العمرية أقل استهدافًا من كتاب الرواية العربية، والفلسطينية خصوصًا، وتقف حائرة بين ما تحتاجه وما تجده في المكتبة العربية، فاليافعون فئة عمرية تجاوزت الطفولة إلى التطرق لمفاهيم وأسئلة أكثر بحثًا وتنقيبًا في الحياة، سيما ما يرافقها من تغييرات نفسية وجسدية، وبروز اهتمامات تحتاج أن يكون تذوق الأدب المعالج لظروف تلك الفئة واحدًا منها، أي الاهتمامات. ولعل التمايز بين فئتي الأطفال واليافعين صعب إذ يُعتبر الفتيان والفتيات من سن السابعة حتى المراهقة أطفالا ما يجعل اليافعين في الأدب العربي فئة أقل حظًّا فيما يكتب لها من روايات، إذا لم يُغفل أن المجتمع العربي يستعجل نضوج أبنائه معيشيّا وسلوكيَا ما ينعكس على فرضية مسبقة باستعجال نضوجهم لغويّا، وبالتالي تذوقًا للأدب. لذا، تأتي رواية اليافعين "نزل الذرة الصفراء" للكاتب الفلسطيني أنس أبو رحمة، كعملٍ أول من أعمال قليلة تتحدث لليافعين، في مستوىً يناسب الفئة المستهدفة كما قدمها كاتبها في الغلاف، وهذا ما يستوجب الوقوف عليه أساسًا أول في نقد وقراءة الرواية التي أصدرت طبعتها الأولى دار الأهلية للنشر في عمّان، مطبوعة على 141 صفحة من القطع المتوسط في سبتمبر من العام 2015. لم يستخدم "أبو رحمة" مخزونًا لغويّا معقدًا في كتابته، بل اعتمد على العبارات والجمل القصيرة، والمفردات السهلة، والتوصيفات السهلة التي لم تخلُ من بعض رمزية، وخيال طفوليّ يرافق الفتية في علاقتهم بمحيطهم واستكشافهم لظروف حياتهم وما يدور حولهم، فكانت روايته عن تلك العائلة الريفيّة البسيطة، وراويها مشارك فيها وهو الابن الأكبر للعائلة، فتىً يافع، يكبر شقيقته "مينا" بثلاثة أعوام، لم يدرس في المدرسة، وعلمته أخته القراءة وحروف اللغة العربية، ليكتشف أن القراءة فيها متعة وخيالٌ دفعه لطلب الكتب من أخته باستمرار. نزل الذرة الصفراء، عبارة عن مجموعة من المشاهد، كل مشهد منها في صفحات ثلاث تقريبًا، تعرض قصة عائلة ابتنت نزلًا في قرية نائية، يعتمد أهلها على زراعة الذرة وبيع المحصول في المدينة، والنزل المتواضع يأوي إليه المارون بالقرية، وزوارها، وتشرف عليه الأم التي تعشق الغناء الساذج، ويعتمد عليها الأب أن تدير النزل بينما هو منهمك في العناية بالأرض ومحاصيل الذرة كأي فلّاح طوى سنوات عمره في العناية بأرضه وما ينبت فيها. أما "مينا" ابنة العائلة المدللة تعشق الخلطات السرية، والتركيبات الدوائية، وتقضي وقتها في محاولة إيجاد وصفات تنقذ العالم، هكذا هو طموحها الأكبر، وأن تتمكن من استجلاب لبؤة للأسد العجوز "سيسو" الذي اعتنت به منذ اكتشفت وجوده في الغابة، واعتبرته سرها، فهو آخر أسود الغابة، ولا تريد أن يموت فتنقرض الأسود من غابة القرية للأبد. نزل الذرة، بناء متواضع خشبي، ملأه الأب، الخبير بصناعة الفزاعات لحقله الكبير، بالدمى التي يقضي وقتًا طويلًا في صناعتها، فكانت مصدر تسلية للنزلاء، وهدايا في كثير من الأحيان لهم، حوله وفيه يجتمع أهل القرية، التي استعرض الكاتب طريقة حياتهم البسيطة، وعنايتهم بحيواناتهم وحقولهم. وهنا لم يغفل الكاتب عن تبيان العلاقة بين المزارعين والفلاحين وحيواناتهم المحببة إليهم: "رمانة" الدجاجة التي لم تكن تبيض وحاولت "مينا" علاجها بوصفة خاصة، "سوكي- أبو ريالة" الكلب المطيع الذي يرافق مينا باستمرار، بالإضافة للبغلين القويين اللذين يستعين بهما الأب في حراثة الأرض، هي شخصيات إضافية، تحدثت إليها مينا، وصادقتها كما تفعل فتيات الريف في حقبة كانت الأرياف ما تزال بعيدة عن محاولات المدينة ابتلاعها، وعن غزو التكنولوجيا الحديثة لها. ولعل أحلام اليافعين في الريف كانت بسيطة، كما وصفها أبو رحمة، فكانت تمتلئ بالطموح والانتماء لنمط الحياة الذي يعيشونه، فحب الأرض والعناية بالمحاصيل، والألفة مع الحيوانات والطبيعة، كلها كانت تدعم طموح "مينا" أن تصير كيميائية تخترع العلاجات، والوصفات للقضاء على آفات المحاصيل، وأمراض الحيوانات! كما إنهم يشعرون بالألفة والمحبة السائدة في مجتمعهم الريفي البسيط، وتكاتف الأهالي في مواجهة الأخطار والمصائب التي قد تحل عليهم، ولعل ذلك تجلى في وقوف أهل القرية في وجه ذو المعطف الأسود الذي حاول شراء أراضيهم بمختلف المغريات والعروض التي رفضوها، ثم في مواجهة الآفة التي أطاحت بمحاصيل الذرة وعمقت أزمة اقتصادية في القرية ليتبين أن الآفة المنتشرة كانت بفعل فاعل، كان هو صاحب المعطف الأسود، في صورة نمطية عن صراع المدينة والقرية، والتمايز بين أفكار وعادات المكانين والفارق بينهما، فصاحب المعطف الأسود لم يتورع عن إيذاء الأرض والمحاصيل، بينما كانت "مينا" المدللة تسعى لعلاجها، وتحرص إلى جانب أهل القرية على كشف أسباب الآفة والإيقاع بالفاعل بعد أن تمكنت هي وأخوها من اكتشاف أتباع ذو المعطف الأسود وهم ينثرون الآفة على المحصول. فالصراع الأساسي لأهل القرية، كان بالمحافظة على نمط حياتهم وقيم نسيجهم الاجتماعي المتآلف من الغياب أمام تطور المدينة وامتداد مشاريعها صوب أراضيهم، والمحافظة على مصدر دخلهم واعتزازهم "محاصيل الذرة". وبين كل هذا، كان للفتية رأيهم وموقفهم من كل ما يجري، وانفعالاتهم الطبيعية، فهم مطيعون، محبون لأهلهم، ويضعون على عاتقهم مهمات بسيطة تسند ذويهم، وتؤشر على ما يكتسبونه من حب الأرض، وقيم العائلة، والقرية. ولعل المثابرة كانت سمة بارزة على شخوص نزل الذرة الصفراء، كبارًا وصغارًا، فالكبار امتازوا بالصبر والأناة في صراعهم مع الآفة التي أصابت الأرض، ثم في كشفهم للجناة، وتسليمهم للشرطة، دون أن يؤثر ذلك على يومياتهم وجلسات سمرهم وضحكات المودة في سهراتهم، بينما الصغار ففي شخصية الأخ الراوي تجلت محبته لأخته التي تصغره وعنايته بها، ومثابرته على القراءة، مقارنة بجهد أخته في هوايتها المفضلة، وهي كتابة يومياتها عن تجاربها التي تستغرق وقتها وصولًا لنجاحها في التواصل مع محية هندية قبلت في نهاية المطاف أن ترسل لبؤة لأسدها العجوز. ولأن اليافعين والفتيان والفتيات يخلعون خيالا إنسانيا على سلوك الحيوان، أطلت حيوانات القرية بمنطقها في الرواية، وفي فهم مينا وأخيها لها، فهي كانت بارعة في الحديث إلى حيواناتها وفهم ما تريد، وفهم نظراتها أيضًا، وتلمس أوجاعها وأمراضها، لأنها جزء من عائلتها. اعتمد "أبو رحمة" التسلسل الزمني المتواصل، فلا انقطاع في الزمن، ولا عودة للماضي إلا في لمحات قليلة كانت تعريفية وليست في مشاهد كاملة، وجاءت خلال سرد الراوي وتعريفه بشخوص الرواية. كما اعتمد على خيال القارئ والصورة الثابتة لديه عن الريف ومعرفته العامة بالظروف المناخية للفصول الأربعة، دون أن يغرقه في تفاصيل المكان، ولعل هذا يعود إلى حاجته ألا يعقد الرواية أمام قارئيها من اليافعين، كما لم يلجأ لتقنيات كثيرة في عرض روايته سوى الاستعانة بصفحات من مذكرات "مينا" عن وصفاتها وما تأمل في يومياتها. وأما الصراع فكان بسيطًا يتسم بالنمطية ممكنة الحدوث، دون مفاجآت مدوية، فالحقول تعرضت لمساومة البيع، ثم لآفة تبين أنها من فعل فاعل هو المشتري الذي رُفض عرضه من أهل القرية. رواية نزل الذرة الصفراء، رشيقة اللغة، وإن لم تخلُ من أخطاء لغوية، هي رواية اعتمدت على اليافعين في ملامسة خيال اليافعين، عرضت قصة قرية كما شهد عليها طفلان منها، هما بطلا القصة، بسذاجتهما، وما يحملان من أحلام وقيم، حبذا لو كان الصراع فيها أكثر احتداما، وما تواجهه هذه الشريحة من صعوبات أكثر وضوحًا، فحياة الريف ليست على الدوام طبيعة غنّاء، ومشكلات تتعلق بالمحصول، أما اليافعون في الأرياف فلهم مشكلاتهم بما هو أعمق من مشكلات الأسرة التي تضمهم، مشكلات في التعبير عن الشخصية التي تتعرض لسلطة عميقة، وغالبا، لتبعية أبويّة خاطئة. وفي شخصيات الرواية جوانب لم تُكشف بكثير من الوضوح سوى أنها شخصيات تركت لصاحب الرداء الأسود كل الغموض الذي جعله الكاتب رديف النية السيئة والسوداء كما المعطف الشرير، في مواجهة شفافية الموقف الواضح من أهل القرية، وطيبة تكاتفهم. لكنّ "نزال الذرة الصفراء" عالم مكانه متخيل، رمزي، ربما يكون في أي ريف من الأرض، وفي خيال أي يافع، سيشعر بكل تأكيد أن للأرض جمالا، وجذورا تحمل القاطنين عليها، وتمدهم بأسباب الانتماء والحياة. هي تجربة أولى، اهتمت باليافعين، لذا كانت يافعة مثلهم، قدمت نفسها بهدوء، وأسلوب يخلو من زخرفة لغوية، لكنها محاولة غنية بحريّة الخيال، واتساع المعرفة. |