|
مغامرات بوتن وأوهام العظمة: بين التذاكي والحماقة السياسة
نشر بتاريخ: 24/01/2016 ( آخر تحديث: 26/01/2016 الساعة: 10:06 )
الكاتب: د.احمد يوسف
ما يجري في سوريا من تدخلات إقليمية ودولية، وخاصة تورط روسيا هناك، وكأنها باستعراضها لقوتها العسكرية وعمليات طيرانها الواسعة تريد فرض حضورها السياسي والأمني في المنطقة، واستعادة خرائطها الامبراطورية القديمة.
من المنتظر أن تنزلق روسيا أكثر فأكثر بتدخلاتها العسكرية هناك، وأن تبدأ في دفع أثمان مجازرها التي طالت المدنيين، وكذلك في استهدافها للمناطق المحررة بحمم الموت والدمار.. وتحت ذريعة محاربة إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فتحت النار وبغزارة على كل قوى المعارضة السورية، بما فيها الأطراف التي تحظى بدعم عربي وتعاطف إسلامي، وتقف إلى جانبها أطراف غربية تطالب بتنحي بشار الأسد. كانت تقديرات الكثيرين أن روسيا ارتكبت حماقة في دعمها لنظام ديكتاتوري هالك، وأنها ستجد نفسها - عاجلاً أم آجلاً - في مواجهة مفتوحة مع العالم الإسلامي السنيِّ؛ لأن مشاهد القتل والدمار الذي تتعرض له المناطق المحررة لا يمكن أن يتقبلها المسلمون تحت أي ذرائع أو تفسيرات مهما كانت، حيث إن هناك الألاف التي أحرقتها ماكينة الدمار الروسية، كما أن هناك الملايين التي هجرتها مشاهد الموت تحت الأنقاض وهمجية القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة.. إن الغباء الروسي في تقديم مشهد التدخل باعتباره حرباً دينية، سوف يجلب التعاطف – عاجلاً أم آجلاً - حتى مع تنظيم الدولة (داعش)، والتي بدأ العالم الإسلامي بتياراته الإسلامية المعتدلة في الابتعاد عنه، وتوجيه الانتقادات الواسعة له. ما الذي تريده روسيا بوتين من سوريا؟ يبدو أن تطلعات الرئيس بوتين لاستعادة هيبة الاتحاد السوفيتي، أغرته بالمغامرة والدخول على خط الملاحم القائمة في الشرق الأوسط، معتقداً أنه سيرث الأرض ومن عليها في سوريا، ويتحقق له الحلم ببعث أمجاد عهود استعمارية مضت. ومع حالة التفكك التي أصابت العالم العربي بعد انتكاسة حركة النهوض الثوري فيه، وبتداعي الأمم الغربية عليه لأخذ نصيبها من دوله المتهالكة، تحركت روسيا بوتين للحاق بالركب، حتى لا تفوتها الفرصة وتضيع منها الغنيمة، حيث إن خريطة التحالفات بدأت تتشكل، ولم يعد لها الكثير مما يحفظ حضورها فيه. الملف السوري كان دامياً ومأساوياً، والنظام على وشك السقوط والانهيار، برغم الضخ البشري والمالي من قبل إيران وحزب الله، ولكنه من جهة روسيا بوتين يمكن أن يعيد تموضعها على الخريطة، ويحفظ مكانتها في الجيواستراتيجا الشرق أوسطية.. صحيحٌ، أن الغرب كان – بشكل عام - متردداً وسلبياً طوال سنوات الربيع العربي من حسم الصراع في سوريا، وذلك بسبب خشيته من انتقال النار إلى هشيم الملكيات، والتي ظهرت في حالة من الخوف والترنح وغياب الاستقرار. لقد تعمد الغرب - وخاصة أمريكا - تجاهل عملية الحسم في سوريا، وترك المجال لإيران للتورط هناك، واستنزاف قدراتها إلى أبعد الحدود، ثم جرَّ حزب الله إلى ذات المهلكة، والوصول بالحالة الصراعية إلى أبعادها الطائفية، وخلق القطيعة بين العالم السنِّي من جهة وشيعة المنطقة من جهة أخرى. نعم؛ نجح الغرب في توريط المسلمين ودفعهم للقتال، ليذيق بعضهم بأس بعض على خلفيات طائفية، توزعت مسارحها في العديد من البلدان العربية؛ كما في العراق وسوريا، وفي اليمن والبحرين، إضافة لما بين تركيا وإيران من اصطفافات وتوترات وتنافس ملحوظ على قيادة المنطقة. لقد اعتقد الرئيس بوتين من خلال طموحاته القيصرية أن بإمكانه أن يأتي بإيران وسوريا وحزب الله ليشكل نقطة جذب لتحالفاته بالمنطقة، كما أن هناك مناطق ساخنة تحتاج إلى أسلحته، وهناك من يغطي كلفة فواتيرها.. حيث هناك الصراع المفتوح في اليمن مع الحوثيين، وبإمكان روسيا أن تقدم لهم المدد لإطالة زمن الحرب، وهي فرصة للتخلص من الأسلحة التي صدئت في المستودعات وقبض أثمانها. إن مبيعات الأسلحة الروسية ارتفعت خلال العام 2014م إلى حوالي 11 مليار دولار، وهي مرشحة للارتفاع في ظل ما هو قائم من نزاعات وحروب أضعافاً مضاعفة، وقد كانت في معظمها – للأسف - مشتريات لدول عربية وإسلامية. إن روسيا بوتين من خلال سوريا واليمن ستصل إلى خزائن البترودولار العربي والإسلامي، وستنعم بهذه الخيرات النفطية، وستصل إلى مياه الخليج الدافئة، ذلك الحلم الذي لم يتحقق منذ غزوها لأفغانستان في نهاية السبعينيات. إن بوتين يعرف مدى حساسية منطقة الشرق الأوسط لاستقرار الدول الغربية، لذلك فإن محاولاته للعبث في هذه المنطقة يجعله لاعباً أساسياً في سياسات المنطقة، ولا يمكن تغييبه بحال من الأحوال. الرئيس بوتين: طموحات وأحلام القيصر الجديد يبدو في ظل هوس الزعامة وأحلام العودة لروسيا القيصرية، تناسى بوتين تاريخ الهزيمة في أفغانستان، وأغراه عجز أوروبا عن تقديم الدعم والنصرة لجمهورية أوكرانيا حين بسط نفوذه كاملاً على شبه جزيرة القرم، فتمادى أكثر، وأطلق العنان لجنرالات العسكر ليتمددوا بخيالهم الاستعماري في بلدان المشرق الإسلامي، حيث نخرت الطائفية في نسيج أمتنا السياسي فأوهنته، وشاهدنا تهتك الدول والمجتمعات، مما أغرى بوتين أكثر فأكثر، حيث إن أمريكا من جانبها أظهرت زهداً في التصدي لطموحات القيصر الروسي الجديد، إما رغبة في توريطه في صراعات المنطقة وإشغاله في حروبها الطاحنة أو عجزاً عن مواجهته بانتظار ظروفٍ أفضل. حينما قرر السوفييت في نهاية السبعينيات غزو أفغانستان، لم يكن يخطر ببال مهندسي الاستراتيجية العسكرية أن هذه المنطقة ستتحول خلال عدة سنوات إلى الساحة الأهم في المواجهة – بالوكالة - مع الأمريكان، وستكون هي المسرح الذي تتم فيه تصفية كل الحسابات التاريخية مع الغرب. اعتقد السوفييت أن الطريق سيكون معبداً للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، حيث ثروات البترودولار، وخطوط الإمدادات النفطية الحيوية للغرب، وكانت المعادلة التي حكمت هذه الرؤية في أذهان العسكريين السوفييت هي أن من وضع يده على مضيق هرمز أو باب المندب فقد حكم العالم، وأناخ جماله لتستريح، وذلك بعد عناء أكثر من 35 سنة من التنافس وصراعات الحرب الباردة. كانت أمريكا ومستشار الأمن القومي بريجنسكي من الذكاء، بحيث عملت على توظيف الطاقات الحركيَّة للإسلاميين، واستغلال موقفهم المعادي للشيوعية، فحركت حلفاءها ومراكزها البحثية للتعبئة والحشد للمعركة الفاصلة مع السوفييت في أفغانستان.. وفعلاً؛ نجحت الخطة الأمريكية، وأنتصر المجاهدون الأفغان في حربهم التي امتدت عشر سنوات، وخرَّ الاتحاد السوفيتي على قدميه، وانهارت إمبراطورتيه التي تمددت هيبتها على القارات الخمس، وانشغلت في تطبيب جراحها ولملمت ما تبقى لها من الحلفاء، وغابت عن مشهد الفعل لأكثر من خمسة عشر عاماً. يبدو أن دروس أفغانستان غابت عن حسابات بوتين في سياق سعيه لاستعادة مجد اجداده القياصرة، والجلوس على ذكريات ما خلَّفوه من أثر. معادلة الدم: الانتقام ولو بعد حين بغض النظر حول ما يجري في سوريا، وأين سترسو سفينة الدم فيها، فإن الحقيقة هي أن بوتن فتح جرحاً في علاقات أمتنا الإسلامية بروسيا، وهذه حالة ليس من السهل نسيان وقائعها مع هذا الحجم الكبير من القتل والتشريد والمشاهد المؤلمة، التي لا تنمحي بسهولة من ذاكرة الأمة.. روسيا بوتين هي - اليوم - من ألد أعداء أمتنا، وسيأتي الثأر والانتقام بأيدي هؤلاء السورين أو أولئك المسلمين الذين أبكت عيونهم وأحزنتهم مآسي الحصار والجوع في مضايا واليرموك والزبداني ودوما. لقد أخطأ الرئيس بوتين في الاصطفاف إلى جانب النظام السوري، وكان يكفيه أن يلعب دور الوسيط لاستعادة الاستقرار في سوريا، وكسب احترام العرب والمسلمين، ولكنه - للأسف - آثر أن يلعب دور "البلطجي"، وإظهار روسيا كدولة مارقة همَّها الأول هو الهيمنة، وبسط النفوذ في منطقة متفجرة كالشرق الأوسط. إن هذا الواقع القائم - اليوم - سيجر على روسيا عداوات مع المسلمين، كانت في غنى عنها، ولكن طموحات بوتين وعنجهيته سترتد سلباً على علاقات روسيا بالعالم العربي والإسلامي، وستنتهي استراتيجيته الاستعمارية وبالاً عليه، ومشهدها في الذاكرة التاريخية كما كان الحال في أفغانستان هو الخسران المبين. |