وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

"الحُرّاس" رحلوا وبقي لهيب العودة!

نشر بتاريخ: 09/02/2016 ( آخر تحديث: 09/02/2016 الساعة: 19:31 )
طوباس- معا- خصصت وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة، الحلقة (47) من "ذاكرة لا تصدأ" لإعادة نشر مقاطع من روايات أربعة شهود على النكبة، غيّبهم الموت خلال أربع سنوات، وهو التاريخ الذي بدأ فيه برنامج التاريخ الشفوي لحراس الذاكرة.
زمّار أبو شوشة
وأعاد المنظمان نشر حكاية الثمانيني سعيد محمد عبد القادر الذي توفي هذا الأسبوع، قبل إتمام حلمة الرجوع لقريته أبو شوشة، والعثور على شبابته التي دفنها في مغارة خلال الرحيل عنها ليعزف لحن العودة. ووما جاء في الرواية: دخل عشق العزف على الشبابة واليرغول قلب منذ أن كان طفلًا، وظل هوى الأدوات النفخية يسبح في دمه، بالرغم من سلسلة أوجاعه، وتراجع قوة نفسه الطويل. واعتاد أبو ناصر الذي التصقت به كنية "الزمّار" الجلوس على أريكة ببيته وسط مخيم الفارعة، فيما تمسك يداه آلات عزف صنعها بنفسه منذ سنوات، ويقص لسانه حكاية تعلقه بالنفخ قبل اقتلاعه وعائلته من قرية أبو شوشة المجاورة لحيفا، وعمله اللاحق في إحياء الأعراس الشعبية سنوات طويلة.
يقول الراحل: تعلّمت العزف على الشبابة في حقول قريتي، وتركت المدرسة في الصف الثالث لأرعى قطيع عائلتي، ودخلت في رهان مع أبي لترك الرعي الشاق، وهو أن أتقن كل فنون العزف على هذه الأداة، وقتها كنت لم أكمل العاشرة بعد.
بدأ سعيد بتعلم ألوان الموسيقى، وأتقن فنون "الدلعونا"، و" الشمالي" و" الجفرا" وغيرها، وحين عرض مهاراته على والده الذي كان يُعلّم في كُتّابه أبناء أبو شوشة، قال له: "لم تتقن العزف بعد، يا ولدي." فيعود لسيرته الأولى، ويبدأ بمراجعة نفسه، ليجد أن كل الفنون صارت طيعة في يده، ليعترف له الأب لاحقاً أنه أتقن كل شيء، ولكن أراد له البقاء في مهنة الرعي.
يروي: تطورت مهاراتي كثيرًا، وحين وقعت النكبة، وكنت مع القطيع، خفت على شبابتي من الضياع، فذهبت إلى مغارة "أبو جريس" ودفنتها ببابها، وقلت لنفسي: سأعود إليها غدًا، وفي الليل هاجمتنا العصابات الصهيونية، وأطلقوا النار على البشر والبهائم، وقتلوا شبانًا منا، ونفقت عدة رؤوس من أغنامنا.
أقصت النكبة عبد القادر عن قريته، ومكث في سيلة الحارثية قرب جنين عدة سنوات، ثم انتقل إلى مخيم الفارعة، وخلال إقامته في السيلة، طوّر تعلقه باليرغول والشبابة، وكان ينفخ في أدواته طوال الليل، في حقول البطيخ التي زرعها والده، وهو ما جعله مضرب المثل في البلدة، وحمل بالشكاوى العديدة لوالده، بدعوى الإزعاج وعدم السكون في جوف الليل عن "التشبيب".
يقول: كنت أنفخ في اليرغول والشبابة طوال الليل، ولا أتعب أبدًا. وفي أحيان كثيرة كنت أعزف وأضع أيضًا السيجارة في فمي، ولم أشرب أي شيء لتقوية نفسي. ولا أنسى أصعب موقف أمر به، حين ذهبت لإحياء حفل ببلدة عقابا أوائل السبعينيات، ويومها انكسرت شبابتي من أول الليل، فعدت مبكراً، وتعلمت أن لا أذهب لحفل إلا مع يرغول أو شبابة احتياطية.
تعلّم الزمّار صنع الأدوات الموسيقية الخشبية، من القصب المنتشر في جوار نبع عين الفارعة، وكان يجد أول الأمر صعوبة في تجهيز مكان النفخ، إلى أن تعلمه وأتقنه من شاب كرمي. وبقي صوته يصدح بالعودة في كل مناسباته وأغانيه وأحاديثه.
مجنون صبارين
وتتبعت السلسلة ما باح به السبعيني خليل أحمد أبو زهرة، الذي توفي في كانون الثاني 2015، فتنقل ابن صبارين، بين ذكرياته زيتون بلدته، حين كان أهلها يستخدمون الزيت القديم لإنتاج الصابون، فيما يصنعون المأكولات وبخاصة الزلابية والمسخن بالمحصول الجديد. بينما كانوا يفرزون الثمار المتساقطة عن الأرض قبل الموسم ويسمونها(جول)، أما من لم يتوافر لديه الزيت فكان يعطي جاره السمن ليحصل عليه.
ومما قاله قبل رحيله: كان الناس أقرب من بعضهم بخلاف اليوم، ويتعاونون كثيراً، أما محصولنا فكان كله من الصنف النبال، وكنا نستعمل الجفت للطابون والتدفئة.
فيما أعاد بناء أراضي قريته القريبة من حيفا، حينما كان الأهالي يصطادون الأسماك من ينابيعها الجارية، كعين السد، والمشراع، ووادي الخضيرة، وعين الحجة، والفوار، وعين الصلاة.
وسرد أسماء أراضي البلدة: أبو الرقاقي، والبلاطة، والخلايل. ويتذكر: كنا نزرع جميع الحبوب، والكرسنة، والبندورة، والبطيخ، والخيار، والكوسا، ولم نستخدم الكيماويات.
وآخر ما قاله: كانت أراضي صبارين تجود على أهلها بالخبيزة، واللوف، والزعتر، والجعدة، والعوينة، والسلك، واشتهرت بالبلوط، وكانت أمطارها غزيرة، ومياهها وفيرة. ولم يكن الأهالي يحتاجون شيئا، فكل ما يطلبونه متوفر في بساتينهم.
عاشقة قنير
فيما رحلت الثمانينية يُسر توفيق محمد صلاح (الشوبكي)، صيف 2014 قبل أسابيع قليلة ، بعد أن روت حكايات موجعة عن بلدتها قنير المجاورة لحيفا وهجوم العصابات الصهيونية عليها. وما قالته: كانت الدنيا وجه الصبح، عندما هجم اليهود على البلد، وطلع الناس منها دفعة وحدة، بعدما سمعوا أصوات إطلاق النار، وطلعت أنا وابوي وأمي وأخوتي: رشدي ورشيد ومحمد، وأخواتي: لطيفة ورشيدة. ركبت أنا وخواتي على الحمار، وأخوتي على الفرس، ووصلنا كفر قرع، وقعدنا في بيت زوج خالتي(شحادة) 20 يوماً، وكانت الناس تقول لبعض: بعد أسبوع بيرجع كل واحد على أرضه وداره!
وأضافت: بعدها، انتقلنا إلى عرعرة لشهر، ثم وصلنا طوباس، ولم نُخرج من بيتنا أي شيء، وظل كل شيء على حاله فيها. وكنا ساكنين غرب عين الماء، وعنا 3 غرف وحمام ومطبخ، وحولنا أشجار العنب والتفاح والزيتون، وكان أبوي جمّالاً، وأخذني عدة مرات على حيفا، وشاهدت "الهادرار"، والبحر، والفينري (مصفاة البترول). ولا أنسى، حتى اليوم، مشاهد الناس التي فرّت من قنير، وكانت مثل المسبحة التي انفرطت حباتها، والقلة، والذلة، والخوف، والكحل الأسود.
فيما قصت حكاية صغيرها وائل محمد الشوبكي، الذي قضى على سطح منزل شقيقه برصاصة أطلقها قنّاص مما تسمى وحدة "جولاني" في الخامس من كانون الثاني 1990.
تقول: كانت الدنيا الظهر، وأعطيت وائل سندويشة زعتر، وصعد لسطح المنزل ليأكلها، لكن أحد قناصة جنود الاحتلال الذين كانوا يتواجدون في مقبرة المخيم، أطلق على رأسه رصاص، فسقط على الأرض. وشاهدته يسبح في دمه، ولم ينطق بكلمة، وحمل أخوته أجزءًا من مخه بين أيديهم، وفارق الحياة قبل أن يصل إلى المستشفى.
ووفق ما قالته الراحلة في توصيف شهيدها، فإن وائل كان أبيض البشرة، وبعيون زرقاء، وأحب الشعر الطويل كثيرًا، وكان ممتلئ الجسم، وحلم دائمًا أن يصبح طيارَا، وكان يقتني ألعاباً لسيارات وطائرات فقط، وأتقن الرسم، وأنضم لفريقي كرة القدم والطائرة بالفارعة، وما زالت كتبه في الثامن معنا. وكان يحب المقلوبة والملوخية.
ومما روته الأم قبل رحيلها، إنها رفضت السماح لأولادهما بتسميه وائل من جديد، إلا بعد سنوات طويلة من استشهاده، لأن أحدًا لن يأتي مثله. هكذا هي الأم التي ذاقت مر النكبة، وعاشت وجع الشهيد، والرحيل قبل العودة إلى قنير.
فتى أم الزينات
بينما قصّ محمد حمد صبح، الذي غيبه الموت مطلع أيلول 2012، حنينه الذي لا يخبو لأم الزينات جنوب حيفا، حيث عاش طفولته، ولم يفارقه كرملها وزيتونها ولوزها وخروبها في شبابه وهرمه.
واختزنت ذاكرته الخصبة المعالم الدقيقة لخلة الزرد، وزيتون المقشور، والرجم، والانجاصة، وجرن البارود، وكرم ظاهر، والحساسنة، ودار أحمد القاسم، وخلة الجاج، وبير الناطف، وأراضي الروحة، وغدران العليق، ووادي أبو نمر، والشقاق، والصفصافة، وبير الهرامس، وشمهورش، اللذين أخذا اسميهما من أسطورة الجن والخرافة.
ودرس الراحل، الذي حرص على اللغة العربية السليمة طوال حياته، في قريته حتى الصف السابع، بعدها انتقل لمدرسة البرج الثانوية بحيفا لإكمال الأول ثانوي، وسكن في حي حواسة، وحافظ على تفوقه وتحصيله المتقدم، فكان في مقدمة التلاميذ. وحين كان يذهب أساتذته إلى حيفا للحصول على معاشاتهم، تولى بنفسه تدريس التلاميذ بطلب من المدير.
وروى قبل الممات: 'في إحدى ليالي أيار، كنا ننام في بيتنا، وبجنبي أبي وأخي وابن عمي محمد مصطفى، وعند الفجر دخل علينا أخي الأكبر مسرعا، ليخبرنا أن العصابات دخلت البلد، لنسمع بعدها صوت إطلاق النار من سلاح (برين) البريطاني، فهربنا إلى أحراش الكرمل، ثم انتقلنا إلى إجزم، ودالية الكرمل والفريديس، وأمضينا نحو أربعة أشهر في إجزم، التي ظلت تقاوم اليهود بشراسة، لنذهب منها إلى أراضي الروحة، ونقيم في أم الفحم حتى شتاء عام 1948. بعدها اتجهنا نقصد بلدة الكرامة في الضفة الشرقية، غير أن الجنود الأردنيين أعادونا، ورجعنا إلى النويعمة قرب أريحا".
وعمل صبح مدرسا للغة العربية والاجتماعيات، في مدرسة مخيم الجلزون للاجئين منذ آب 1949، ثم انتقل إلى مدرسة مخيم الفارعة، قبل أن يفصله قرار حكومي عن العمل، لانتمائه السياسي بعد 8 سنوات. وحرص على العودة إلى أم الزينات، وعلّم تلاميذه أنهم ينحدرون منها ومن القرى المدمرة، واصطحبهم بعد النكسة (1967) إليها في رحلة، وفتش عن المدرسة، وعثر على فناجين القهوة، والجرن الخشبي في بيتهم. وقال ليهودية مستوطنة هذا هو بيتنا، وأنتم سرقتموه.
توثيق
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية عبد الباسط خلف إلى أن البرنامج رصد أكثر من 60 رواية شفوية 14 أخرى مرئية، واستطاع نقل حكاية القرى المدمرة بملامحها ومهنها وعاداتها وأفراحها وأحزانها.
وأضاف إن من بين 30 شاهدًا جرى توثيق روايتهم رحل خمسة عن الدنيا، قبل إكمال أحلامهم بالعودة، أوصى معظمهم أولادهم وأحفادهم أن يعيدوا نقل عظامهم ورفاتهم لقراهم السلبية، ولو بعد حين.